ما من شخصية علمية أثارت الكثير من الجدل بين دارسي علم العقائد وفي أوساط أصحاب المذاهب قدر ما أثارته شخصية الإمام أبي الحسن الأشعري (262-324ه)، فقد انقسم حوله الباحثون بين من قال بأنه لم يأت بمنهج أصيل في تقعيد العقيدة الإسلامية، التي سميت باسمه، بسبب مرحلة استقراره الطويل داخل فكر المعتزلة لمدة يصل بها البعض إلى 20 سنة، الأمر الذي جعل المنهج الاعتزالي برأي هذا الفريق يؤثر على طريقة تفكيره ومشروعه العقدي، وبين من ذهب إلى أن منهج الإمام الأشعري منهج يتميز بالأصالة، وأنه قطع صلاته بالمعتزلة والاعتزال منذ تلك القصة الشهيرة التي تذكر أنه صعد إلى المنبر في البصرة يوم جمعة فقال: «من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني …أنا فلان ابن فلان كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا يُرى بالدار الآخرة بالأبصار، وأن العباد يخلقون أفعالهم، وها أنا تائب من الاعتزال معتقدًا الرد على المعتزلة»، ثم شرع في الرد عليهم والتصنيف على خلافهم، حسبما يروي المرتضى الحنفي في كتابه «إتحاف المتقين»، والذي يروي أيضا أن الإمام الأشعري افترق عن المعتزلة بعد رؤيا رآها في منامه. وبين الفريقين هناك فريق ثالث يتهم الأشعري بالوقوع في الخلط بين فكر المعتزلة وفكر أهل السنة، وهذا الفريق في مجمله ينتمي إليه أتباع المدرسة السلفية الحديثة، متأثرين في ذلك بما قاله ابن تيمية عنه في فتاواه، بل منهم من يخرج الإمام الأشعري من أهل السنة والجماعة ويرفض الاعتراف به، كما أن هناك اتجاها يحاول أن يجعل من الأشعري تابعا للمدرسة الحنبلية في العقيدة، ويجرده من أي إضافة علمية في صرح العقيدة الإسلامية. ولعل أبرز نقاط الخلاف بين هذه الفرق الثلاث هي تلك المتعلقة بتحديد الإطار الفكري والزمني لتأليف كتابيه الرئيسيين اللذين بلور فيهما رؤيته العقدية وقوله في الأسماء والصفات، وهما «الإبانة عن أصول الديانة» و«اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع». فهناك خصومة شديدة بين دارسي فكر الإمام الأشعري حول أي من هذين الكتابين يعكس بشكل أوضح مشروعه العقدي الحقيقي، وأيهما أكثر قربا من فكر المعتزلة، فمن يذهب إلى أن كتاب «الإبانة» هو المتأخر من حيث التأليف والوضع من الناحية الزمنية يسعى إلى إسقاط المشروعية عن خصوصية فكر الأشعري وإلحاقه بالحنبلية، ومن يذهب إلى أن «اللمع» هو الأخير يسعى إلى تأكيد هذه الخصوصية، اعتمادا على أن آخر ما ألف في حياته قبل رحيله يعتبر هو المعول عليه في رسم معالم مدرسته الفكرية. ومن بين الدراسات المتفردة لفكر الإمام الأشعري التي سعت إلى إنهاء الخلاف ووضع فكر الإمام الأشعري في إطاره الحقيقي، استنادا إلى التراكم الذي تحقق على يد علماء المغرب في الماضي، تلك التي وضعها الدكتور الشيخ محمد أمين الإسماعيلي وصدرت هذا الشهر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت عنوان «اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع للإمام أبي الحسن الأشعري». ويعد الشيخ الإسماعيلي أحد كبار المتخصصين في الفكر الأشعري بالمغرب، وقد أشرف على كرسي الإمام الأشعري منذ انطلاق مشروع الكراسي العلمية قبل سنوات، كما أنه قام بالإشراف على عدة أطاريح حول الأشعرية والتاريخ العقدي بالمغرب، وله مشاركات دولية مشهودة في الدفاع عن خصوصية العقيدة الأشعرية، المذهب الذي اختاره المغاربة. وقد بذل الشيخ الإسماعيلي جهدا علميا كبيرا لكي يؤكد خصوصية الفكر الأشعري، ويرد على الاتجاه الذي يلحقه بالمدرسة الحنبلية وينفي عنه أي تميز. أما لماذا الاعتماد على كتاب «اللمع» في خوض هذه المعركة فإن الإجابة عند الدكتور الإسماعيلي أن هذا الكتاب هو العمل الذي يستعيد فيه الإمام الأشعري «بصورة نهائية مقومات شخصيته الحقيقية وهويته، لا بوصفه تلميذا تابعا للحنابلة وإنما باعتباره عقديا حقيقيا». إن كتاب «الإبانة»لا يسمح لنا بالقول إن الإمام الأشعري قد صنع مدرسته الخاصة به، نظرا لقرب زمن تأليفه من زمن خروجه عن الاعتزال، ولذلك فإن «الإبانة»لا يتيح الاستبانة، أما «اللمع» فقد ألف بعد مرحلة نضوج وعي الأشعري وتخلصه النهائي من أي تأثير للمعتزلة، وبناء مدرسته الخاصة التي تمزج بين العقل والنقل، فلا هو يعتمد العقل فيكون ابنا شرعيا للفكر الاعتزالي، رغم أنه تعلم منهجه على يدهم، ولا هو يستند إلى النقل فقط ليكون جزءا من المدرسة الحنبلية. إن ما يقدمه لنا الشيخ الإسماعيلي في الحقيقة هو قراءة جديدة لفكر الأشعري تعيد تفسير المراحل التي مر بها. فقد كان كتاب «الإبانة» ردا على غلو المعتزلة والخوارج والمرجئة، ولذلك لجأ إلى استعمال النصوص «من غير أفكار مسبقة ومن غير تأويل متكلف، فأثبت الأشعري ما ينبغي إثباته كقضية الأسماء والصفات والاستواء والوجه واليدين، فتكون الإبانة معبرة عن المرحلة الأولى من فكر الأشعري لما اقتضته ظروف قوة الحنابلة، والتستر عليهم، وسبيله للدفاع عن الدين». ويرفض الشيخ الإسماعيلي تبعية الأشعري لابن حنبل، وهنا يقدم لنا تفسيرا أقرب إلى التفسير السياسي، بنوع من الذكاء، فهو يرى أن ثناء الأشعري على ابن حنبل في كتابه الأول «الإبانة» راجع إلى المحنة التي تعرض لها هذا الأخير في عهد المأمون، والتي تشتهر في كتب التاريخ باسم «محنة خلق القرآن»، وهي المحنة التي صبر فيها الإمام أحمد. وإذا كان هناك من يعتبر ذلك الثناء تعبيرا عن تبعية الأشعري لابن حنبل، فإن الشيخ الإسماعيلي يرد بأن ما قام به الأشعري تجاه ابن حنبل «منقبة للإمام وليست ضده»، أي أنها تعبير عن التواضع منه لا عن الخضوع والتبعية. أما كتاب «اللمع» فهو يعكس المرحلة التالية من التطور الفكري، ويعتبر بمثابة القاعدة الأساسية لمستقبل الفكر الأشعري الذي رسا عليه في مراحل التاريخ المتعاقبة، لأنه يتضمن العقيدة التي مات صاحبها عليها. ففي هذا الكتاب يعمل الأشعري اجتهاده العقلي الموجه بالكتاب والسنة في المسائل الأكثر أهمية في علم التوحيد، وتظهر فيه «شخصيته الفذة في علم العقيدة، ليبين إمامته على كل المدرسة التي كونها وأنشأها بمحض الاستقلال الفكري والمنهجي».