لا يخلو العنوان من أمرين: «المشاكلة»: حيث «الإبانة» الأولى تعني «الكشف»، والثانية تحيل إلى كتاب «الإبانة عن أصول الديانة»؛ و»المجاز بالحذف»: حيث المقصود من التهافت تهافت نسبته إلى أبي الحسن الأشعري، الذي يصنفه كثير من الباحثين ضمن آخر مؤلفاته، ويعتبرونه معبِّرا عن توجه عقدي جديد اعتنقه المؤلف، وهو «مذهب السلف»، بعد توبته – كما يزعمون - من توجُّهه التأويلي الذي طبع البداية الأولى لحياته السنية بعدما عدل عن مذهب الاعتزال، وكأنه كان على خلاف منهج السلف! أو أنه كان يدين بدين غير دينهم! بيد أن نسبة هذا الكتاب إليه تحتاج إلى نظر، بل إن الجزم بنسبته إليه لا تخلو من مخاطر تهدد هويتنا الدينية، وقد تفتح بابا لتسرُّب أفكار لا تمت بصلة إلى ثوابتنا الدينية والوطنية. ومن أبرز من أنكر نسبة هذا الكتاب إلى الأشعري المستشرق الأمريكي كلاين، لأن المصادر الأولى التي ترجمته لم تنسبه إليه. بيد أن أدلة أقوى تثبت استحالة هذه النسبة، نكتفي بذكر واحدة منها، وهي تضمُّنه لعقائد يستحيل أن تصدر عن مبتدئ في دراسة المذهب الأشعري، بل يستحيل صدورها من عوام أهل السنة، بله أن تصدر عن رأس من رؤوس مذهب أهل السنة. ومن هذه العقائد، الواردة في هذا الكتاب، أن القرآن الكريم قديم بلفظه ومعناه. ولا يخفى خطورة هذا الاعتقاد، وما يفضي إليه من تجسيم، وإثباتِ الحدوثِ لكلام الله عز وجل. والحال، أنه تعالى منزه عن الحروف والأصوات، لأنها حادثة، وقيام الحوادث بالقديم محال عقلا. أما شرعا، فالإجماع منعقد على قِدم كلامه تعالى بمعناه لدى كل المذاهب الإسلامية. أما القول بأنه مخلوق بلفظه ومعناه معا، فلم يُعْرَف إلا من مذهب واحد، وهو مذهب الحشوية من الحنابلة، مع التنبيه على براءة الحنابلة من هذا الاعتقاد الفاسد. ومنها أيضا، التصريح بأن الله ساكن في السماء، وهذا هو التجسيم عينه الذي لم يأل الأشاعرة جهدا في دحضه، وتسفيه القائلين به، وتقديم الأدلة العقلية والنقلية الدالة على فساده. النتيجة التي نصل إليها، هي أن «الإبانة» من تأليف أحد حشوية الحنابلة، ولا يمت بصلة إلى المصنفات صحيحة النسبة إلى الأشعري. ومن أجل التمويه، والإمعان في التدليس، نقل مؤلِّفُه؛ الذي لا نعرف عنه إلا أنه حشوي؛ بعض مباحث كتاب «اللمع» صحيح النسبة إلى الأشعري، كالمبحثين المتعلقين بالإمامة وعدالة الصحابة، علاوة على مطالب أخرى منقولة من هنا وهناك، حتى لا يتردد القارئ في أنه له، فيطمئن للعقائد الفاسدة الواردة فيه ما دامت من مقالات عَلَم من أعلام أهل السنة الذين لا يُقَعْقَع لهم بالشِّنان. وعليه، فإن كثيرا من البحوث بنت أفكارها على توهم صحة نسبته إلى الأشعري، فكانت عبارة عن دعاوى لا أساس لها من الصحة، لا في طريقة عرضها، ولا في النتائج التي استخلصتها، بل إن بحثا مغربيا، نشر في مجلة وطنية، قارنت فيه صاحبته بين فكر أبي الحسن الأشعري من خلال «الإبانة» وفكر الحنابلة، دون أن تكلف نفسها عناء البحث في نسبة الكتاب إليه، فجاءت المقارنة خاطبة، بل فاسدة، إذ إنها قارنت – عند التحقيق - بين حنبلي وحنبلي، وليس بين أشعري وحنبلي. ولا يمكن الاستهانة بالخطإ في نسبة «الإبانة» إلى الأشعري، حيث إن ذلك أخذ أبعادا إيديولوجية خطيرة في فترتنا المعاصرة، لِما يحمله هذا الكتاب من عقائد وأفكار غريبة عن عقيدتنا الأشعرية التي تعتبر من أهم الأركان التي بنى عليها المغاربة حضارتهم، وشَكَّلوا بها هُويتهم، على مدى عدة قرون. ومن ذلك، مصادمته لمَعْلم من أهم معالم المذهب الأشعري، وهو «الوسطية» التي من مصاديقها الموقف الوَسَط والعَدْل في تنزيه الذات الإلهية وصفاتها، فلا هم تطرفوا في تأويل الصفات الخبرية كما هو صنيع المعتزلة، ولا هُمْ رفضوه جملة وتفصيلا كما هو صنيع حشوية الحنابلة. هذا، وإن كثيرا من دُور النشر، التي طبعت هذا الكتاب بعشرات الطبعات، واجتهدت في نشره على أوسع نطاق، وفي أبهى حُلّة، وبأثمنة بَخْسَة، كانت إلى عهد قريب تُصْدِر منشورات تطعن في الأشاعرة، وتفتري على أبي الحسن الأشعري، ولا تتورع في النيل منه، وتجتهد في نشر فكر إقصائي متطرف، مما يجعلنا نتساءل: لماذا كان هذا الكتاب استثناء من القاعدة التي تميِّز هذه الدُّور؟ كما أن من الأساتذة من اختار «الإبانة» المصدر المعتمد في تدريس مادة «العقيدة»، ومن الوعاظ والباحثين مَن كان معروفا بتوجُّهه الفكري الإقصائي، غدا – بين عشية وضحاها – ينطق بلسان أشعري، استنادا إلى هذا الكتاب. ولا تفسير لذلك، إلا لأنه قناة لا نظير لها في تمرير فكر لا يمكن أن يرحِّب به أي مغربي أصيل لا يبتغي دون أشعريته بدلا. إن أخشى ما نخشاه، أن تتسرب مفاهيم مغلوطة إلى شريحة من مجتمعنا، قد تتسع بسرعة البرق تحت زخم الثورة الإعلامية المعاصرة، فيسود التجسيم، والتطرف، وفكر الإقصاء، من حيث يُظَنُّ أنه تنزيه، وانفتاح، ووسطية، وغيرها من الأفكار والعقائد الشاذة، التي قد تستمد مشروعيتها لتسرُّبها من وراء عباءة أبي الحسن الأشعري. من هنا تظهر أهمية إعادة النظر في نسبة مجموعة كبيرة من الكتب، التي كانت سببا في إصدار أحكام خطيرة بسبب شيوع الخطأ في النسبة. ويكفي دليلا على ذلك، كتاب «المضنون به على غير أهله» الذي استند إليه ابن تيمية في كتابه «نقض المنطق»؛ بعد الجزم بنسبته إلى أبي حامد العزالي؛ للطعن في عقيدته، والنيل منه بالتضليل والتفسيق، ونعته بأنه أخذ أفكارَ أهل الغنوص، ولم يغير منها إلا عباراتهم، إلى أن جاء المحقق والمدقق المغربي الكبير أبو سالم العياشي، ليَفْصِل الخِطاب في المسألة، ويأتي بما يكفي من الأدلة التي تنفي نسبته إلى الغزالي، بل استطاع الوقوف على مؤلفه الحقيقي، وهو أبو الحسن المسفر السبتي ذو التوجه الفلسفي الإشراقي. فيكون قد بيَّن كذب المفترين فيما نسبوه إلى أبي حامد الغزالي، وإن كانت الكثير من العقول المتحجرة لم تعدل بعدُ عن موقف ابن تيمية، إما حمية وتعصبا لتيار فكري إقصائي معيَّن، وإما جهلا بتحقيق أبي سالم العياشي.