منذ بروز ما أصبح يعرف بقضية ويكيليكس على السطح، ترغب أيسلندا في أن تتحول إلى قبلة لكل المهووسين بالشبكة العنكبوتية من مختلف أصقاع العالم. أيسلندا لم تقف عند عتبة الرغبة والتمني، بل تسير بخطى حثيثة إلى وضع ترسانة قانونية متينة توفر الحماية القانونية الضرورية الكفيلة بجذب أعتى فاضحي الخروقات وأعمال التجسس، من طينة جوليان آسانج، وإدوارد سنودن، آخر من أطلق سفارة الإنذار حول ما تقوم به الولاياتالمتحدةالأمريكية من أعمال تجسس تحت يافطة محاربة الإرهاب. إدوارد سنودن، الموظف السابق بالوكالة الأمريكية للأمن القومي، الذي فضح التجسس الذي تقوم به بلاده على الشبكة العنكبوتية، وأثبت وجود ما أصبح يعرف ب «بريسم»، برنامج التجسس العالمي على شبكة الانترنت الذي وضعته الولاياتالمتحدةالأمريكية، مازال يأمل في قدرته على الإفلات من المتابعة القانونية داخل بلاد العم سام. ففي التاسع من الشهر الجاري، وبينما عمد إلى اللجوء إلى المقاطعة الصينية هونغ كونغ، أعلن أمام عدد من الصحفيين عن نيته الحصول على حق اللجوء السياسي بأحد البلدان الديمقراطية. وقد تطرق أثناء حديثه لدولة أيسلندا. قد يظن البعض أنها فكرة غريبة الأطوار. فأيسلندا الباردة، والكئيبة، وذات المناخ الرطب، لا تستهوي سوى السياح الباحثين عن الاستجمام بنبوع المياه الحارة، وبمرتبة أقل المغتربين الباحثين عن حياة هادئة ومسالمة. الاستثناء الوحيد الذي ظهر منذ سنة 2011 هو شروع أيسلندا في التحول لملاذ ومحج للباحثين عن حرية التعبير على الشبكة العنكبوتية، وتموضع البلاد كمركز للتصدي لمراقبة الشبكة العنكبوتية. تأتى هذا بعدما أطلقت البلاد مشروعا طموحا تحت شعار المبادرة الأيسلندية لوسائل الاتصال الحديثة على المستوى التقني، تقوم البلاد بالحصول تدريجيا على مزودات الحواسيب التي لا يمكن اختراقها بغية استضافة الوثائق السرية التي بين أيدي الصحفيين الذين يخضعون للرقابة، أو المنشقين الذين يعيشون في البلدان ذات الأنظمة الدكتاتورية، أو المنظمات غير الحكومية التي تعنى بتتبع القضايا الحساسة... أما على المستوى القانوني، فالبلاد بصدد وضع «درع قضائي واق» موجه لحماية المعطيات التي تتم استضافتها على الأراضي الأيسلندية في وجه أي هجمات قضائية قد تأتي من الخارج، وكذا لضمان عدم رفع السرية عن الأنشطة التي تتم على مزودات الحواسيب التي تستضيف تلك المعطيات. الإشكالية: أيسلندا هي ضمن فضاء شينغن في اللحظة التي كشفت فيها وسائل الإعلام عن هوية إدوارد سنودن، وعن رغبته في المجيء إلى أيسلندا، قام الفريق الساهر على تحقيق المبادرة بنشر بلاغ قدموا من خلاله دعمهم اللامشروط له. نص البلاغ جاء كالتالي: «نحاول ربط الاتصال بالسيد سنودن بغية التأكد من رغبته في الحصول على حق اللجوء، والتحدث بشأن صيغة طلبه الحصول على اللجوء. مهمتنا القادمة ستكون هي تقييم تداعيات حصوله على حق اللجوء على المستوى الأمني، لأن أيسلندا ليست ربما أفضل مكان (...) لقد شرعنا في دراسة البرتوكول القضائي المرتبط بطلب الحصول على اللجوء، وسنطلب في وقت قريب طلب تنظيم لقاء مع وزارة الداخلية قصد التشاور في الأمر.» ورغم إصراره، يعلم فريق المبادرة أن حماية الأفراد أكثر تعقيدا من حماية المعطيات الرقمية. وفي شهر ماي، أوضحت المسؤولة عن المبادرة، النائبة بيرجيتا جونسدوتير، بأن عددا من «اللاجئين المختصين في المعلوميات» الراغبين في الاستقرار ببلادها قاموا بالاتصال بها، لكنهم وجدوا أمامهم إشكالية كبيرة. فأيسلندا هي ضمن فضاء شينغن. بعد توقيع 26 دولة أوربية على هذه الاتفاقية، التي تنظم حدود التنقل الحر للمواطنين الأوربيين داخل فضاء شينغن، أصبحت بعض الشروط تفرض في وجه الأجانب الراغبين في الإقامة بأحد بلدان الاتحاد وكذا إمكانية منح حق اللجوء. وحتى في حالة تمكن السيد سنودن من النجاح في الوصول إلى أيسلندا بدون أن تتمكن الولاياتالمتحدةالأمريكية من كشف تنقله إلى هناك، فإن وضعه سيبقى ملتبسا بعض الشيء. وفي المقابل، وفيما يتعلق بحماية المعطيات الإلكترونية، فالمشروع يسير على المسار الصحيح. فكرة المشروع المتمثلة في خلق ملاذ آمن كوني بدولة أيسلندا رأى النور مع قرب نهاية سنة 2009. بعد حالة الدهشة الكبيرة التي خلفتها الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، بدأت الساكنة تبحث عن كافة السبل لاستيعاب حقيقة ما جرى، والجهة التي تسببت في ذلك. الأجوبة عن تلك التساؤلات أتت عبر الشبكة العنكبوتية، وبطريقة لم تكن في حسبان أي أحد. فقد توصل عدد من الصحفيين المحليين برسائل مجهولة على بريدهم الإلكتروني تنصحهم بزيارة موقع على الانترنت كان يحمل آنذاك اسما غريبا؛ ويكيليكس. اكتشف الصحفيون داخل الموقع كما هائلا من الملفات السرية تؤكد أن الأزمة المالية تسبب في ظهورها غياب الكفاءة لدى مدراء البنوك الوطنية وفسادهم. كانت تلك وثائق خرجت من داخل نفس المؤسسات البنكية، بعثها بدون أدنى شك لموقع ويكيليكس موظف قرر كشف الحقيقة. خلق «ملاذ لأصحاب المعلوميات» تمكنت البنوك من إقناع أحد القضاة بإصدار قرار يمنع وسائل الإعلام المحلية من القيام بنشر الوثائق. لكن الشبكة العنكبوتية أفلتت من هذه الرقابة. وفي غضون بضع ساعات، أصبحت البلاد بأكملها على علم بمحتوى الوثائق المسربة. عندئذ اكتشفت أيسلندا درجة قوة نفوذ الشبكة العالمية، والمنفعة التي تتأتى بفضل جهود «المحذرين»، الموظفين أو العاملين داخل الشركات، الأشخاص مجهولي الهوية المهتمين بالكشف عن الخروقات والتصرفات التي تتم خارج إطار القانون، التي يقوم بها رؤساؤهم في العمل، عبر تقديم الوثائق التي تثبت تلك الأفعال. بعد مرور بضعة أيام قررت مجموعة تضم عددا من الأشخاص المولوعين بالشبكة العنكبوتية توجيه دعوة لمؤسس موقع ويكيليكس جوليان آسانج للحضور للعاصمة الأيسلندية ريكيافيك، حينما كان لا يزال شخصا مغمورا. حل آسانج رفقة جماعة صغيرة تضم عددا من النشطاء الأمريكيين والأوربيين، وشارك في تنشيط عدد من الندوات مع المسؤولين المحليين. وفي خضم تلك الندوات، رأت النور فكرة خلق «ملاذ للمختصين في المعلوميات» داخل دولة أيسلندا. عاد جوليان آسانج لأيسلندا في فصل الربيع لسنة 2010، لأجل إنتاج وثائقي حول الأرشيفات التي توثق لمجزرة ارتكبت في حق المدنيين من خلال مروحية أمريكية ببغداد. تلقى مساعدة من قبل بعض المتعاطفين المحليين، وبشكل خاص من قبل بيرجيتا جونسدوتير، المنتخبة حينها عن حزب صغير يحمل اسم حركة المواطنين. وبعد وقت وجيز ستطلق النائبة مشروع المبادرة الأيسلندية لوسائل الاتصال الحديثة، لتتوصل بدعم البرلمان. بعدئذ ستقرر الحكومة المؤلفة من تيار الوسط واليسار تبني القضية، والعمل على بلورة الإصلاحات القانونية والإدارية اللازمة. كانت إستراتيجية المبادرة الأيسلاندية تتمثل في وضع قائمة لأفضل القوانين التي تكفل حماية حرية التعبير والرأي في عدد من بلدان العالم، والعمل على استيرادها لأيسلندا، والعمل على تحسينها كلما أمكن ذلك. وبعد مرور ثلاث سنوات من العمل الحثيث، توضح السيدة جونسدوتير بأنه تم قطع نصف المشوار: «نمتلك اليوم بين أيدينا قوانين ممتازة حول حماية مصادر الصحفيين، وحق المواطنين في الولوج الحر للمعلومات التي تحتفظ بها الدولة، وحول شفافية تمويل وسائل الإعلام وطريقة اشتغالها.» الدور المحوري للنائبة جونسدوتير أما الخطوة القادمة فتتمثل في اقتراح مشروع قانون يصبو لحماية الصحفيين والمدونين من أي متابعات قضائية تنتهك حريتهم، وقانون آخر يمنع الشركات التي توفر خدمات الانترنت من الاحتفاظ لوقت طويل بالمعطيات حول استعمال المستخدمين للشبكة العنكبوتية. كما يسعى الفريق الساهر على إنجاز المبادرة إلى بلورة الرؤى بشأن إمكانية إقرار وضع قانوني يوفر الحماية للأشخاص الذين يبلغون عن التجاوزات التي تقترفها الشركات أو المؤسسات، سواء كانوا مواطنين أيسلنديين أم أجانب مثل إدوارد سنودن. الأشخاص الذين يعملون على إحقاق الشفافية بالمعنى الحقيقي للكلمة. بموازاة ذلك، أسست بيرجيتا حونسدونتير سنة 2012 حزب القراصنة الأيسلندي، من خلال استلهام برامج «القراصنة» السويديين والألمانيين، التي تنص على التنقل الحر والشامل للمعطيات على الشبكة العنكبوتية، وإعادة النظر بشكل كلي في الملكية الفكرية، وعدم كشف هوية مستعملي الانترنت، واستعمال التكنولوجيا الحديثة لأجل بناء نظام سياسي يتأسس على الشفافية والديمقراطية التشاركية. وخلال الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 27 أبريل، تمكن حزب القراصنة من الظفر ب 5.1 في المائة من الأصوات، وثلاثة مناصب داخل البرلمان الأيسلندي، وهي سابقة في تاريخ دول العالم. استطاعت بريجيتا جونسدونتير الحفاظ على منصبها كنائبة برلمانية، لكن تحت يافطة جديدة. ورغم أن الحكومة الجديدة المؤلفة من تيار الوسط واليمين كانت أقل تحمسا للمبادرة الأيسلندية لوسائل الاتصال الحديثة مقارنة مع الحكومة السابقة، فإن جونسدوتير ليست قلقة بشأن هذا المستجد. «المبادرة رأت النور من خلال تصويت برلماني، ويتعين اقتراح تصويت برلماني جديد قبل إلغاء المبادرة. هذا الأمر لن يحدث أبدا.» وفي خضم هذه المعركة الحقيقية، لا تتحرك بريجيتا جونسدونتير لأجل الدفاع عن الآخرين فحسب، بل هي نفسها يطاردها القضاء الأمريكي، في إطار التحقيق الذي تم الشروع في إنجازه بعد نشر موقع ويكيليكس للوثائق السرية الأمريكية. فنهاية سنة 2010، طلب مدعي عام فيدرالي أمريكي من عدد من الشركات الأمريكية التي توفر خدمة الانترنت، مده بشكل سري بمعلومات عن سجلات استخدام الشبكة العنكبوتية من قبل بعض «المتعاونين مع ويكيليكس»، التي كانت من بينهم. رفضت شركة «تويتر» الاستجابة لهذا الأمر القضائي، وقررت خوض هجمة قضائية مضادة تهدف لحماية رواد موقع التواصل الاجتماعي، أو الحصول على الأقل على الحق في تحذيرهم من المراقبة التي تسعى السلطات الأمريكية لفرضها. حاولت بيرجيتا جونسدونتير الوقوف في وجه طلب المدعي العام من خلال إشهار وضع الحصانة البرلمانية الذي تتمتع به. لكن بعد مرور سنة كاملة على الإجراءات القضائية، اضطر موقع تويتر لمد القضاء الأمريكي بالمعلومات التي يحتفظ بها عن النائبة البرلمانية الأيسلندية. وفي تلك المناسبة، أكدت قاضية فيدرالية أمريكية أن كل المعطيات الشخصية التي تحتفظ بها الشركات الأمريكية التي توفر خدمات الانترنت يتم وضعها تحت تصرف قضاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، حتى وإن كان صاحب المعلومات شخصا أجنبيا، ويستعمل الانترنت من بلد آخر غير الولاياتالمتحدةالأمريكية. الإكواتور تبدي اهتمامها رغم هذه الإخفاقات، تمضي المبادرة الأيسلندية لوسائل الاتصال الحديثة في التأكيد على طموحاتها على الساحة الدولية. وتتمنى بريجيتا جونسدونتير، التي تشارك بمنصبها في لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الأيسلندي، أن تتمكن من قول كلمتها بشأن مشاريع القوانين الأوربية بخصوص مراقبة الانترنت وكيفية تدبير هذا المجال. كما أن دولة الإكواتور اتصلت بها، في إطار مساعي الدولة جنوبالأمريكية لإطلاق مغامرة مماثلة. وتظل الحكومة الإكواتورية جد نشيطة في هذا المجال، وذلك بعد منحها حق اللجوء السياسي لصاحب موقع ويكيليكس، جوليان آسانج. ومنذ نحو سنة، مازال آسانج يعيش داخل أسوار سفارة الإكواتور بلندن، وذلك لتجنب ترحيله نحو السويد، حيث يطالب القضاء بمثوله أمامه بتهمة العنف الجنسي، مع ورود إمكانية ترحيله بعد ذلك نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية لأجل متابعته بتهمة التجسس على الوثائق السرية الأمريكية. وفيما وراء المبادئ والقيم الكبرى، يعرف أصحاب المبادرة الأيسلندية لوسائل الاتصال الحديثة والقراصنة الأيسلنديين كذلك كيفية التصرف بمنهجية براغماتية. أحد النواب القراصنة الثلاثة بالبرلمان الأيسلندي يدعى هون تور أولافسون، كان يشتغل في السابق في ترميم الطرق، يسهر على إدارة برنامج يسعى لتشجيع شركات المعلوميات الأجنبية على القدوم والاستقرار بالبلاد. ولأجل جلب أصحاب تلك الشركات، يسعى بالأساس لإبراز المناخ التشريعي الجديد جد المشجع والقادر على استمالة المقاولات الناشئة التي تعنى بتطوير شبكة الانترنت الحرة، والمفتوحة، وغير خاضعة للمراقبة. ولأجل بلاده، يتخيل مستقبلا تسوده أجواء الترحيب الكبيرة بالشبكة العنكبوتية بدون وجود أي أعداء يترصدون حرية التعبير والرأي والكشف عن الخروقات: «في كل الربوع، نلاحظ تزايد الطلب على الأنظمة التي تمكن من تفعيل الديمقراطية التشاركية، أو تضمن شفافية المؤسسات، أو تحمي الحياة الشخصية لمستعملي الشبكة العنكبوتية. هذه الكوة في وسعها أن تتحول في حد ذاتها إلى قطاع يدر الكثير من الأموال.» كما في وسع ذلك أن يجعل أيسلندا مركزا للانترنت ذا صيت عالمي ومكانا للازدهار والدفاع عن حرية الإرادة. وبصيغة أخرى أن تتحول أيسلندا لجنة من جليد يحج إليها المهووسون بالشبكة العنكبوتية من العالم بأسره. * عن جريدة «لوموند»