يبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستتعرض لحرج كبير خلال الأيام القادمة مع مواطنيها، بسبب إقدام عنصر داخل وكالة الأمن القومي الأمريكي بالكشف عن وثيقتين لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية وصحيفة "الغارديان" البريطانية، توضح ممارسات الوكالة في مجال التجسس على الحياة الشخصية للأفراد. موظف الوكالة قال إن ما قام به جاء كتصرف تلقائي وبدون تحريض من أي أحد، للكشف عن انتهاكات تمارسها أقوى دولة في العالم في حق مواطنيها وعدد من دول العالم، إذا مضى نفس الموظف في الكشف عن المزيد من الوثائق السرية التي استطاع الحصول عليها. في الدقيقة التي وضع فيها الصحفي الأمريكي، غلين غرينوالد، على حسابه على موقع "تويتر" رابطا للمقابلة التي نشرتها صحيفة "الغارديان"، تحول إدوارد سنودن، البالغ 29 سنة، إلى بطل بالنسبة لجميع الأشخاص الذين يرون أن الأخ الأكبر استقر في العالم (الأخ الأكبر شخصية خيالية في رواية جورج أورويل، ويرمز للتعسف في استعمال السلطة الحكومية وخصوصا في احترام الحريات المدنية). "أتمنى أن أتمكن من إثارة النقاش بين مواطني العالم حول نوعية العالم الذي نود أن نحيا فيه"، كما وضح الدواعي وراء تصرفه في مقابلة صحفية أجريت معه بهونغ كونغ، المكان الذي يقول إنه لجأ إليه حتى يفلت من المتابعات في الولاياتالمتحدةالأمريكية. "لا أستطيع، حسب ما يمليه علي ضميري وشعوري، أن أدع الحكومة الأمريكية تدمر الحياة الخاصة، وحرية الإنترنت، والحريات الأساسية بالنسبة للناس في العالم بأسره من خلال الاستعانة بهذا النظام الضخم من المراقبة التي هي بصدد تأسيسه بشكل سري." وبعد مرور ثلاثة أيام على نشر صحيفة "الغارديان"، ثم صحيفة "واشنطن بوست"، لوثائق حساسة توضح حجم المراقبة الكونية التي تمارسها الوكالة الأمريكية للأمن القومي، أكد إدوارد سنودن، العنصر السابق بوكالة الاستخبارات المركزية، يوم الأحد 9 يونيو، أنه من يقف وراء التسريبات. "ليست لدي أي نية لأجل إخفاء هويتي لأنني أعلم أنني لا أقوم بأي شيء سيء"، كما وضح للصحفي ورجل القانون الأمريكي غلين غرينوالد، صاحب التحقيق الذي نشر ب "الغارديان". من جانبها صحيفة "واشنطن بوست"، التي كشفت يوم 7 يونيو عن وجود برنامج للتجسس على عمالقة الأنترنت، نشرت كذلك تقريرا عن اتصالاتها مع الجاسوس الشاب المختص في المعلوميات الذي اختار اسما لاتينيا كلقب له؛ وهو "فيراكس" (حامل الحقيقة). ومنذ أربع سنوات، اشتغل السيد سنودن لفائدة الوكالة الأمريكية للأمن القومي كموظف لدى عدد من الشركات التي تتعامل مع الوكالة، بما فيها شركة "ديل" و "بوز آلن هاميلتون"، الشركة التي وظفته منذ ثلاثة أشهر بفرعها بهاواي. "أسست وكالة الأمن القومي بنية تحتية تمكنها من الناحية العملية من الانتباه لأي شيء يقع"، يندد. "إذا أردت معاينة بريدك الإلكتروني أو الهاتف الشخصي لزوجتك، فما علي سوى الاستعانة بآليات التجسس. أستطيع الحصول على كلمات المرور الخاصة بك، وكشوفات الهاتف، والبطائق البنكية (...). لا أود أن أعيش في عالم يتم فيه تسجيل كل شيء أقوم به وكل شيء أقوله." سيناريو أحد أفلام التجسس قيام الجاسوس السابق بالكشف عن هويته جعل الدهشة تصيب عالم الاستخبارات. لقد جعل النقاش يحتذ حول السلطات السرية لوكالة الأمن القومي، وألقى الضوء ليس فحسب على كون إجراءات الوكالة تلفها السرية، بل بكون بعض أجزاء التشريعات التي تؤطرها تحيط بها السرية كذلك. كما أن رحيله بشكل سري نحو هونغ كونغ زاد من حدة سيناريو فيلم التجسس هذا. أنكر إدوارد سنودن انتقاله إلى "صف العدو"، لكن تسريباته تزامنت مع اختياره لمكان خاضع للسيادة الصينية، وفي اللحظة التي طالب فيها باراك أوباما من نظيره شي جين بينغ الكف عن أعمال قرصنة الشركات الأمريكية. ولدى سؤاله عن الاتهامات الأمريكية، جاء رده كما يلي: "نحن (الأمريكيون) نقرصن العالم بأسره طوال الوقت." ترعرع إدوارد سنودن بولاية ماريلاند، بمنطقة قريبة من "فورت مياد"، المقر الرئيسي لوكالة الأمن القومي الأمريكي. لم يتمكن أبدا من إنهاء تعليمه، لكنه انخرط في الجيش سنة 2003. وبعد تعرض رجليه لكسور أثناء التدريبات العسكرية، ترك الجيش ليتم توظيفه داخل وكالة المخابرات المركزية في مجال الأمن المعلوماتي. أدى صعوده المتسارع في تحمل المسؤوليات دهشة جميع الخبراء، وذلك بالرغم من عدم حصوله على شهادة إنهاء الدراسة بالمستوى الثانوي. كما اندهش نفس الخبراء لحظة إرساله في مهمة إلى جنيف سنة 2007، حاملا معه جواز سفر دبلوماسي. مسرب جديد بفضل ما أقدم عليه، يأمل سنودن أن تخضع المراقبة الإلكترونية التي تمارسها وكالة الأمن القومي على الأشخاص للمساءلة القانونية أمام القضاء. فمع بداية السنة، رفضت المحكمة العليا الأمريكية فتح الملف، وذلك بسبب عدم قدرة المشتكين على إثبات الوجود الفعلي للمراقبة. حاليا، في إمكان القضاة الحصول على الأدلة، على شاكلة ما تقوم به وكالة الأمن القومي من رصد لبيانات الاتصالات الهاتفية من شركة الاتصالات "فيرايزون"، كما كشفت عن ذلك صحيفة "الغارديان". تمكن الجاسوس الشاب المختص في قطاع المعلوميات من الدخول بسرعة إلى صف أكبر "المبلغين عن المخالفات" في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية، الأشخاص الذين يقررون من تلقاء أنفسهم القيام بمجابهة الإدارة التي يعملون تحت إمرتها أو شركتهم لأجل تبليغ الرأي العام بالأعمال غير القانونية التي تمارسها تلك الجهات. ويظل أحد أبرز هؤلاء هو المدعو دانييل إيلسبرغ، الموظف بوزارة الخارجية الأمريكية، الذي سرب "وثائق البنتاغون" التي تشجب حرب الفيتنام سنة 1971. "سنودن هو البطل الذي انتظرت مجيئه منذ أربعين سنة"، يوضح إيلسبرغ. أما أصغرهم سنا فهو برادلي مانينغ، المحلل العسكري بالعراق، الذي قام في سن ال 22، بتسريب نحو 700 ألف وثيقة لموقع ويكيليكس، الذي يملكه جوليان آسانج. هل يتعلق الأمر بمجرد صدفة؟ فالجندي الشاب يمثل منذ 3 يونيو أمام محكمة داخل "فورت مياد"، المقر الرئيسي لوكالة الأمن القومي الأمريكي. إدوارد سنودن يطالب بتوضيح بعض الأمور. حتى اللحظة، لم يقم بتسليم سوى وثيقتين للصحافة تعتبران "في غاية السرية". أما برادلي مانينغ فقد قام بتحميل جميع الوثائق التي مرت بين يديه، ليرسلها بعد ذلك إلى موقع "ويكيليكس". وفي كلتا الحالتين، يعود نفس السؤال ليطرح نفسه. كيف تمكن موظفون يتحملون مسؤوليات جد ضئيلة من الولوج لأنظمة جد سرية؟ الخبراء يلقون باللائمة في ذلك على التوظيفات التي تمت بشكل مستعجل التي تمت بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر. وبالمقارنة مع برادلي مانينغ، يظل ما قام به إدوارد سنودن تصرفا سياسيا بارز المعالم. إنه تنديد راديكالي بوضع برامج للمراقبة كما تم إطلاقها، في السر، من قبل جورج بوش والاستمرار في العمل بها من قبل باراك أوباما، بعد إدخال تعديل تشريعي. "وأنا جالس بمكتبي، كنت أتمتع بدون أي نقاش بكافة الصلاحيات لأجل مراقبة أي شخص، سواء كان ذلك الشخص أنت، أو المحاسب الذي يعمل لصالحك، وصولا للقضاة الفيدراليين وحتى الرئيس، إذا كان لدي عنوان بريد إلكتروني شخصي"، يؤكد سنودن لصحيفة "الغارديان". سياسيا، ينتمي سنودن لمذهب مؤيدي مبادئ الحرية، الحركة التي تستهوي فئات عريضة من الشبان اليوم، كما اتضح ذلك من خلال الإعجاب الشديد بمتزعم المذهب، الجمهوري رون بول، أثناء الانتخابات الداخلية للحزب الجمهوري سنة 2012. إدوارد سنودن، الذي ساهم بمبلغ 250 دولارا في تمويل حملة رون بول، يوضح بأنه لم يصوت لصالح أوباما سنة 2008. بعد إجراء الانتخابات، قام بدعمه لكنه أصيب بالخذلان لدى رؤيته عدم قيام أوباما بكبح وكالة الأمن القومي. اكتساب الوعي التدريجي يبقى التساؤل إذن كيف قرر سنودن الانتقال إلى الفعل؟ لم يتزامن ذلك مع أي حدث خاص. الأمر ببساطة يتمثل في "اكتساب الوعي تدريجيا بكون الرؤساء في وسعهم الكذب لأجل التمكن من الوصول للسلطة، وإخلاف وعودهم أمام العموم بدون أية عواقب". كما أنه أصيب بالاشمئزاز جراء بعض التصرفات التي تقوم بها وكالة المخابرات المركزية (فبجنيف، أكد أن زملاءه لدى محاولتهم توظيف إطار بنكي قاموا بجعله يحتسي الخمر، ليعمدوا بعد ذلك لتلفيق تهمة السياقة تحت تأثير الخمر له لدفعه وإجباره على العمل لصالح الوكالة). منتصف شهر ماي، شرع الرجل الشاب في الإعداد لما سيقوم به. قام بنسخ آخر الوثائق التي أراد كشفها أمام الرأي العام، انطلاقا من مقر وكالة الأمن القومي بهاواي. كما قام بإخطار رئيسه في العمل بأنه سيحصل على إجازة لعلاج علة في الجهاز العصبي تم تشخيصها سنة 2012. وقال لرفيقته بأنه سيتغيب لبعض الوقت من دون أن يمدها بأي تفاصيل. وفي 20 ماي، توجه نحو هونغ كونغ. "إنه لمحزن أن يضطر أمريكي للذهاب لمكان له سمعة سيئة في مجال الحرية"، يتأسف. يتوقع سنودن الحصول على الدعم الدولي، ويرى أن الدعاية هي أفضل وسيلة لحمايته. بالنسبة لباراك أوباما، الذي دافع بحزم عن أنشطة وكالة الأمن القومي، فإن تواجد سنودن في حد ذاته في الجانب الآخر من العالم هو تحدي واختبار للعلاقات الجديدة التي يود إقامتها مع بكين. لقد انتظرت الولاياتالمتحدةالأمريكية مجيء باراك أوباما لكي تستعيد هالتها بالعالم. لكن التسريبات الجديدة حول ممارسات وكالة الأمن القومي من شأنها تقويض السلطة الناعمة التي حاول الرئيس الأمريكي تلميع بريقها. * بتصرف عن «صحيفة "لوموند"»