بواسطة صحفيين نافذين ومناضلين على الشبكة العنكبوتية، كانت "ويكيليكس" في وقت ما، تنشر في واضحة النهار فضائح وأسرارا رسمية وتصنع منها قصصا مشوقة يتهافت عليها الناس. أما اليوم، فقد تبدل الحال ولم تعد تثير سوى جدل فارغ يدور حول الحصانة الدبلوماسية ومستقبل العلاقات البريطانية الإكواتورية وحول القانون السويدي المتعلق بالاغتصاب... لن نجازف إذا قلنا بأن جوليان أسانج الذي يحتمي اليوم في غرفة بدون نافذة بالسفارة الإكواتورية، وينام على فراش منفوخ بالهواء، لم يكن يتوقع أبدا هذا المصير البئيس وهو ينشئ موقعه المتخصص في فضح الأسرار ست سنوات قبل هذا الأوان. كيف وصل الرجل إلى هذا المآل؟ السؤال جدير بأن يطرح بالنظر إلى أن أسانج، الممنوع على ما يبدو من الالتحاق بالإكواتور الذي منحه حق اللجوء السياسي، يسبح في سراديب القانون الدولي، ويرى أن استمرار موقعه رهين بخيط عنكبوت، سيما وأنه يجتاز ضائقة مادية خانقة ويتعرض للطعن من شتى الجهات. كيف إذن لمنظمة كانت تتبجح بأنها مستقبل الصحافة المشرق، (وقد كان هذا الزعم مبررا في إحدى الفترات) أن تتداعى على هذا الشكل المثير إلى أن أصبحت كل مشاكلها اليوم تحصر في مأساة رجل واحد؟ إذا رجعنا شيئا ما إلى الوراء وتفحصنا الأمر مليا، فسوف نعثر على بعض الأخطاء الإستراتيجية الكبيرة التي كانت بدون أدنى شك وراء هذا الاندحار. أول هذه الأخطاء، هو أنه مع مرور الوقت، انخرطت ويكيلكس في برنامج سياسي محدد، وهو بالمناسبة برنامج أسانج نفسه. فكان بديهيا أن تقع تسربات عديدة كالتقارير حول الحرب الأفغانية وكذا عشرات الآلاف من البرقيات الصادرة عن الخارجية الأمريكية، والتي كانت كفيلة لوحدها بإثارة غضب واشنطن، هذا دون الحديث عن الإنجازات الباهرة الأخرى التي جاء بها الموقع. وقد حاول أسانج الدفاع عن نفسه ضد ما اتهمته به واشنطن من عداء متأصل للمصالح الأمريكية بتوضيح أن نشاطه هو شيء يصب في إطار معركة كونية يقودها ضد التستر. معاداة الأمريكان ينبغي الاعتراف بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن المستهدفة الوحيدة من طرف ويكيليكس، إذ كان أول تسريب أثار انتباه العالم هو ذاك المتعلق بالفساد الحكومي في كينيا. كما أن الموقع ابتعد في بعض الأحيان عن اعتماد استراتيجية يسارية خالصة، وعلى الخصوص فيما تعلق بقضية "كليمت كايت"، حيث سرب برقيات إلكترونية لباحثين بريطانيين من ولاية "إيست أنكليا". ولكن، منذ سنة 2010 ، أصبح من الصعب على الموقع الدفاع عن حياده سيما وأن أهم عملياته كانت في غالبيتها العظمى تستهدف إما الحكومة أو الشركات الأمريكية. فعندما بادر إلى نشر البرقيات الدبلوماسية الأمريكية، فإن هدفه المعلن كان هو إبراز تناقضات الموقف الرسمي الأمريكي مع ما كان يقال همسا وراء الأبواب. مقابل هذا، عندما نشر في شهر يوليوز برقيات حكومية سورية، فإن أسانج لم يتردد في الإشارة إلى أن هذه الوثائق ستحرج كلا من الحكومة السورية وخصومها على حد سواء. قال ذلك في وقت كان فيه نظام بشار الأسد قد حصد ما يزيد عن 14000 روح بشرية... كما أن مصداقيته لم تسلم من الشبهات أثناء حلقات بثت في برنامج تلفزيوني يسمى "العالم غدا"، وخصوصا في الحلقة الأولى التي أبدى فيها تسامحا كبيرا وهو يستنطق رئيس حزب الله حسن نصر الله. علاوة على ذلك، فإن القناة التي بُثت منها هذه الحلقات وهي قناة "روسيا اليوم" الممولة من طرف الحكومة الروسية، لم تساعد على ترسيخ هذه المصداقية، بدليل أن أسانج الذي يقدم نفسه كرسول للشفافية، وهذا من مكر الصدف، له علاقة بالرئيس الإكواتوري رفاييل كوريا المعروف بقلة تسامحه مع حرية الصحافة في بلاده، والذي سبق له بالمناسبة أن أجرى لقاء تلفزيونيا مع نفس المحطة. لا تسريب حول روسيا والصين ربما أن الحكومة الأمريكية ترى في أسانج تهديدا دائما لمصالحها، غير أن الأمريكيين كانوا مستعدين للاستماع إليه لو أن عداءه لهم لم يكن بذلك الحجم الكبير. وحتى أشدهم انتقادا لسياسة بلدهم الخارجية سيجدون صعوبة جمة في ربط علاقة مع رجل يعد بالإسراع في إبادة النظام الأمريكي الحالي. وقد كان بإمكان أسانج أن يدحض اتهام الأمريكيين له بالانحياز لو أنه سارع بنشر أسرار عن خصومهم السياسيين كروسيا والصين. ففي شهر أكتوبر من سنة 2010 ، صرح خلال لقاء صحفي له مع جريدة "إسفيستيا" الروسية بأنه يوجد في حوزة ويكيليكس وثائق مشبوهة حول الحكومة الروسية وحول رجال الأعمال الروسيين وأنه مع ذلك لا يعتزم نشرها. ثم أضاف بأن الأمريكيين يساعدونه عبر تزويده بكثير من الوثائق السرية حول روسيا. لهذا، فإن قضية قد تسمى في يوم من الأيام "كريملين كايت" تبدو بعيدة الاحتمال، مما يعني أن ما يدعيه الرجل إما لا يشكل أولوية بالنسبة إليه، وإما أنه فارغ الوفاض من تلك الوثائق، وهو بالتالي مجرد مفتر كذاب. فالتلويح بتسريبات يعزف الموقع عن نشرها، والمبالغة في إضفاء أهمية كبيرة على التي في حوزته، هي إحدى العلامات البارزة لدى أسانج. وخلال هذه السنة، نشرت ويكيليكس ما يزيد عن 5 ملايين رسالة إلكترونية صادرة عن "ستراتفور"، وهي شركة متعددة الجنسيات متخصصة في مجال الاستخبارات، قُدمت على أنها نسخة من الوكالة الأمريكية للإستخبارات "سي أي إي" تعمل في القطاع الخاص، وقد اتهمت بالخوض في عمليات مشبوهة بتشجيع ومباركة من الحكومة الأمريكية نفسها. وفي حقيقة الأمر، فإن تلك الرسائل الإلكترونية لم تكشف عن شيء ذي بال، اللهم إلا أن شركة "ستاتفور" بالغت نوعا ما في بيع خبرتها وكفاءتها الاستخباراتية لزبنائها الكبار. لنأخذ على سبيل المثال حالة فريد بيرتون، نائب رئيس الاستخبارات في شركة "ستاتفور" الذي تنبأ بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستعرف سيلا من الهجمات المشابهة ل11 شتنبر مباشرة بعد انهيار نظام حسني مبارك... ولننظر كذلك إلى الرسائل الإلكترونية التي ادعت بأنها ستثبت بالحجة والدليل تورط وزارة الأمن القومي الداخلي في التجسس على بورصة "وول ستريت" ، في حين، تبين بعد ذلك أنها فارغة من الصحة. علاقة معقدة مع الإعلاميين التقليديين عادة ما يشكو المدافعون عن ويكيليكس من العداء التي تناصبه الصحافة التقليدية لهذه المنظمة. ففي 16 غشت الماضي، نشرت جريدة نيويورك تايمز مقالا شحنته بكثير من الطرائف حول الإكواتور وحول الركود الاقتصادي الذي يعرفه ذاك البلد، ومن ثمة تطرقت للحديث عن أسانج بكثير من التهكم والسخرية، فصورته مرة وهو يعنف القطط ومرة أخرى وهو يرفض جر طرادة الماء... وبهذا يبدو جليا أن ويكيليكس لما قطعت علاقتها مع شركائها الإعلاميين تحملت نصيبا من المسؤولية في تلك العلاقة المتوترة. فقد حل بساحتها غضب جريدة "الكوارديان"، أول شريك لها في النشر، وذلك حينما نقضت اتفاقا أبرمته معها، وشرعت تشرك جريدة منافسة في نشر نفس الأخبار. أما فيما يتعلق بجريدة نيويورك تايمز، فقد انقلب أسانج كليا على رئيس تحريرها "بيل كيلير" حين نشر هذا الأخير حوله مقالا لم يرقه. ومن ثمة شرع يتهم الجريدة بالتواطؤ مع الحكومة الأمريكية، واستمر هذا التوتر إلى أن أقدمت ويكيليكس في شهر يوليوز المنصرم على نشر مقال مزور لبيل كيلير، وهو في حد ذاته تصرف غير مسؤول لا يخدم في شيء مصداقية منظمة تدعي أنها تعتمد الدقة في كل الأخبار التي تنشرها. بيد أن أم المشاكل لدى ويكيليكس، هي أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من "معتوه أستراليا" (إذا ما استعملنا عبارة مانينك.) إذ قلما تجد منظمة يدافع عنها الناس ورئيسها متهم باعتداءات جنسية، وهذا ما يدفع إلى القول بأن ويكيليكس، كان بإمكانها أن تصمد أمام أعاصير هذه النزاعات لو أن أسانج لم يسمها بميسمه. فقد سبق له أن قال في دردشة على الشبكة العنكبوتية ل "هيربير سنوراسون" أحد المتطوعين الإرلنديين في المنظمة: "أنا روح هذه المنظمة وقلبها النابض، أنا منشؤها ومنظرها والمتحدث باسمها وأول مشفر ومنظم وممول فيها، وإذا كانت هذه الحقيقة لا تروقك فاغرب عن وجهي..." وكذلك كان، إذ أعرض عنه "سنوراسون" على غرار العديد من حلفائه الأولين، وصرح على أعمدة جريدة "وايرد": "إن جوليان دفع بالكثير من الكفاءات الكبيرة إلى الباب." ونذكر من بين المستقيلين، دانييل دومشيت برك، الناطق الألماني السابق لويكيليكس، الذي أنشأ موقعا منافسا فأتلف في هذه العملية لوحدها 3500 برقية لم يسبق نشرها من قبل. وهو اليوم واحد من أشد وأشرس المناوئين لأسانج، سيما بعد أن أصبح له صيت ولكلمته سماع. مستقبل الصحافة على امتداد شهور عديدة، ظلت ويكيليكس في مجال السياسة الدولية مادة دسمة مدهشة تشد إليها الأنظار بحدة، وبالخصوص في سنة 2010 . ففي كل مرة، كانت الصحف ومعها القراء ينتظرون على أحر من الجمر أن يكشف الموقع عن دفعة جديدة من الأخبار المثيرة. وليتخيل المرء 250000 برقية دبلوماسية تنتظر دورها في النشر دون احتساب تسريبات أخرى مخبأة في مملكة أسرار أسانج، أليس هذا ما يبعث فعلا على الدهشة والذهول؟ لقد أعطت ويكيليكس الانطباع بأنها قلبت مجال الصحافة رأسا على عقب وأنها باتت تتحكم في مستقبله تحكما مطلقا، وأن الصحفيين التقليديين صاروا خارج نطاق المنافسة بعدما أصبحوا في حاجة إلى سنوات وسنوات من الكد والعمل للالتحاق بركب زملائهم المجهولين الذين ينشطون كخلايا النمل على الإنترنيت. غير أن الأمور لم تسر كما أريد لها على هذا المنوال، فبسرعة كبيرة، أدرك الناس أن الغالبية العظمى من تلك البرقيات لا تشكل أي خطر محتمل. وحتى الملفات الأكثر إثارة لدى ويكيليكس (كملف سورية وستاتفور)، ليس فيهما ما يثير أحدا. كما أن مواقع أخرى شبيهة (كموقع دومشيت برك المسمى أوبين لينك) لم يعد بمستطاعها قلب الموازين وإحداث تلك الثورة المزعومة. وهاهي ذي ويكيليكس اليوم، ترى نفسها تندثر شيئا فشيئا عبر محاكمة قضائية ليس لها أي علاقة بالموقع وبما أُنشئ من أجله. أما كان بإمكان هذه المنظمة أن تكون أكثر مصداقية وتألقا لو أن أسانج لم يكن محركها وواجهتها في نفس الآن؟ ذلك ما لن ندره أبدا حتى وإن عرفت قضية الرجل المتواجد الآن في السفارة الإكواتورية انفراجا، وبهذا يحق لحراس الأسرار الحساسة في العالم أن يتنفسوا اليوم الصعداء بعد سنتين من الارتباك والوجل الشديد. جوشيا كيتينك عن موقع "سلايت"
ويكليكس والربيع العربي ربما أثبتت البرقيات السورية أن بعض الشركات ورجال السياسة الغربيين أبانوا عن شيء من التسرع في الالتزام مع نظام بشار الأسد. وما عدا ذلك، فإنها لم تتضمن سوى قدر يسير من المعلومات المشبوهة التي لم تنشرها صحيفتا "بلوممبيرغ" و"وول ستريت جورنال". لأجل ذلك، أصيبت انتظارات القراء بخيبة شديدة وهم يتوقعون بتشوق كبير الاطلاع على قنابل مدوية. وحتى في قضية "كابل كيت"، التي تعتبر إحدى نجاحات ويكيليكس الكبيرة، فإنها لم تنشر شيئا ذا أهمية عن الممارسات المشينة للدبلوماسيين الأمريكيين وإن كانت قد تسببت لربما في إحراج وزارة الدولة وزرع شيء من الشبهات حول بعض المصادر الحكومية الأمريكية. إن المسألة أظهرت بالكاد أن الدبلوماسيين كانوا أكثر دراية بمكان تعيينهم مما قد كان يفهم من تصريحاتهم العمومية. بالمقابل، كانت الوثائق التي تحدثت بتفصيل عن تجاوزات أسرة بن علي بداية 2011 ، واحدة من الأسباب التي ساهمت في اندلاع الثورة التونسية. ولكن، أن تدعي ويكيليكس بأن الربيع العربي هو نتيجة مباشرة لنشاطها، فذاك شيء يدعو إلى السخرية حقا... فوق ذلك، أبانت المنظمة في مرات عديدة عن قصورها في إثبات قدرتها على إدارة المعلومات السرية. ففي سنة 2009 ، اختلطت عليها الأسماء في إحدى البرقيات، فلم تميز بين "سي سي" و "بي سي سي"، مما جعل أسانج يفضح لمراسليه عن طريق الخطأ أسماء 58 من الداعمين الأوائل لمنظمته، وهو الخطأ الذي كان بدون شك وراء سلسلة الأحداث التي انتهت باعتقال "برادلي مانينك"، الواشي المحتمل. وفي نفس السياق، لم تستطع ويكيليكس أن تستثمر على أكمل وجه جواهر تاجها (المتمثلة في البرقيات الدبلوماسية التي يفترض أن يكون "مانينك" قد سربها) بعدما سمحت لجريدة نرويجية بالحصول عليها، علما بأن هذه الجريدة لم تكن ضمن قائمة الجرائد التي أبرمت المنظمة اتفاقا معها لنشر معلوماتها السرية سنة 2010. وإذا ما صدقنا أقوال بعض الناس، فإن أسانج ذهب إلى أبعد من ذلك حين سمح لمتطوع إسلاندي بالإطلاع على الملف برمته. والخلاصة هي أن ويكيليكس فضلت أن تدير ظهرها لشركائها بدون أن تقوم بستر أسماء مصادرها لتكشف بذلك بكيفية واضحة عن هوية المنشقين الذين لجؤوا إلى السلطات الأمريكية.