تشكل رواية «ملائكة السراب» للكاتب والفيلسوف موليم لعروسي فضاء جديدا لمراكمة رأسمال أدبي وتأملي في قضية جوهرية و حيوية؛ قضية مصير المغرب. والواقع أن العودة إلى التاريخ المغربي القديم أو الحديث أو المعاصر، في مجال التخييل الأدبي، قليلة جدا وضئيلة، مقارنة باتساع المدى التاريخي لبلد عمره من عمر دول كبيرة وعريقة. ومن الملاحظ أنه رغم قلة الروايات الموسومة بالتخييل التاريخي، فإنه يمكن أن نسجل وجود ثلاثة نماذج منها في مدونة الرواية المغربية؛ نماذج عادت إلى التاريخ لدعم المشروع السياسي والاجتماعي لبعيد الاستقلال، ونماذج استلهمت التاريخ لصياغة تواريخ محلية (إثنية)، ونماذج رجعت إلى التاريخ لفهم ما جرى، وصياغة تاريخ تخييلي لفهم الذهنيات والطبائع والعلاقات الاجتماعية والثقافية، مع قناعات جمالية وشعرية؛ كتذويب الحدود بين الأجناس الأدبية، وتوظيف الموروث السردي العالم والصوفي والشعبي، وتوظيف العناصر الأوطوبيوغرافية في محاولة لاكتشاف الذوات والكشف عن حالات توتر الوعي. وتندرج رواية «ملائكة السراب» في هذا النموذج الأخير، وفق خلفية نظرية محددة تتمثل في «رواية ما بعد الحداثة» كما نظر لها النقد التاريخي الأمريكي والأوروبي عند أمثال هايدين وايت ولاكابرا وهاتيشون وبول فين وبول ريكور. تستقطع رواية موليم لعروسي فترة من التاريخ المغربي طويلة نسبيا (منذ القرن 17 إلى مشارف القرن 20) متتبعة، وفق منطق التوازي السردي، وقائع وأحداثا متشعبة لملوك مغاربة تحت أسماء مغايرة (ملك مراكش أبو القاسم الذي هو صورة مركبة للعديد من الملوك العلويين، في تلك الفترة وابن أخيه عبد الله حاكم بولعوان) وأشراف وزعماء قبائل وطوائف دينية وأولياء صالحين (أحمد لعروسي ورحال البودالي، الأول من الساقية الحمراء والثاني من قلعة السراغنة)، وجواسيس متربصين من الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين والأتراك العثمانيين، وغيرهم كثير. كل ذلك مع رصد دقيق ومستمر لصور الهزيمة والسقوط واصطراع الأهواء وفاعلية العجائبي وسلطانه على النفوس والعلاقات الإنسانية. وتكمن حداثة رواية «ملائكة السراب» في اجتراح الحكي بدل السرد، وهو ما نلحظه في تدفق الحكايات وتواليها وقوتها لدرجة الاختناق، مع غياب مركزية موضوعاتية حتى لكأن الرواية هي محاكاة لخريطة الذهن لا لخريطة جاهزة لهندسة روائية قارة. وغياب المركزية هو ما يقتضي من القارئ أن يقرأ النص الروائي دفعة واحدة، حتى لا يضيع منه جزء من أجزاء المتاهة الحكائية. ومن تجليات غياب المركزية النصية والحكائية غياب مكون البطل، الذي هو أيقونة في معظم نماذج التخييل التاريخي المغربي باستثناء بعض روايات بنسالم حميش. وفي المقابل، نجد فاعلية لبطولة من طراز مختلف؛ السعي إلى التفكير في وحدة المصير، والتفكير الذي كان يجمع المغاربة ويؤلف بينهم، بمختلف انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الاجتماعية. زد على ذلك أن التشظي وعدم اكتمال المسارات الحكائية ، يكادان يشكلان بمفردهما سمتان جماليتان في هذه الرواية. كل المسارات الحكائية لا تنتهي. ليس هناك شبع ولا إشباع لنهم القارئ. هناك فقط عواصف حكائية تأخذ القارئ إلى أكثر من مكان وزمان ، لكن وفق تخطيط محكم ناظمه أسئلة ناظمة: ما الذي حدث للغرب الإسلامي حتى تحول إلى هدف تتقصده الأطماع وتبرز من خلاله الخيانات وتتوجه الهزائم والانكسارات؟ لماذا تبدو صورتنا، نحن المغاربة، مهتزة ومشوشة كلما اعتقدنا أن الأمور تسير في الطريق الصحيح؟ ومن أجل جعل التخييل التاريخي حاضرا بقوة الفعل، اختار الكاتب لنصه لغة قريبة من الفترة التاريخية التي قرر إخضاعها للتأمل والتفكيك والمساءلة. لغة أقرب إلى السجل التاريخي لأسلوب صاحب الاستقصاء مثلا. لغة تنطلق كي لا تتوقف. إن رواية «ملائكة السراب» هي عملية حكائية معقدة جدا ، وفضاء لتفكيك الترميزات الحاضرة والغائبة في أنساق المجتمع المغربي، ولبنة لصياغة تخييل تاريخي يفكر في المجتمع من خلال تاريخه، وتجاوز لكثير من مفاهيم الكتابة، وذلك بالخوض في قضايا ملتبسة تجعل من النص نسيجا، ومن الواقع مرآة، ومن التاريخ أداة لتأويل وصياغة هوية متعددة لمجتمع لا تزال فيه العلاقات غامضة وملتبسة.