مقاطعة الباطرونا للقاء المشترك بين رجال الأعمال المغاربة ونظرائهم الأتراك، وإن استند إلى حيثيات وأسباب رأى البعض أنها معقولة، في حين اعتبر البعض الآخر أنها حجج واهية، خاصة أنها ركزت على سوء التنسيق وتفاقم العجز التجاري بين المغرب وتركيا، ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة الخلافات الدائمة والعميقة بين رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب مريم بنصالح ورئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، والتي تضرب مستقبل الاقتصاد الوطني في العمق. بدا حبل الود دائما هشا بين حكومة بنكيران والباطرونا، وفي كثير من المرات كان الجميع يتوقع انقطاعه غير أن الأمور تعود إلى نصابها ويتكرر مسلسل «الابتسامات الصفراء» والمداهنة التي تخفي مآرب أخرى بين مريم بنصالح وعبد الإله بنكيران. ما وقع بداية هذا الأسبوع عندما قاطعت نقابة الباطرونا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ورجال أعماله الأتراك، لم يكن سوى حلقة أخرى في مسلسل الحرب الخفية بين الاتحاد العام لمقاولات المغرب وحكومة بنكيران. والتصعيد الذي وصل إلى حد القول بأن نقابة مريم بنصالح لا تمثل جميع رجال الأعمال في المغرب هو، في نظر المحللين، مجازفة بمستقبل العلاقات بين الحكومة وأرباب المقاولات التابعين لهذا التنظيم، وبالتالي مجازفة بالاقتصاد الوطني عموما. مطالب تعجيزية في أول لقاء مع بنكيران بعد تنصيب الحكومة بأسابيع قليلة، ارتأى عبد الإله بنكيران فتح باب الحوار مع نقابة الباطرونا عبر عقد أول اجتماع بالدارالبيضاء. كان رئيس الحكومة يعتقد أن هذه الخطوة التواصلية ستكون فرصة لتعزيز الروابط مع رجال الأعمال المغاربة، غير أنه لم يكن يدرك أنه بذلك سيفتح الباب أمامهم لمطالب تعجيزية، فقد استغل أرباب المقاولات اللقاء من أجل تمرير لائحة طويلة من المطالب، التي تنوعت في مجالاتها بين الضريبة والتنافسية وقانون الإضراب وغيرها. وقد دعت مريم بنصالح الحكومة في هذا اللقاء إلى متابعة التدابير المتعلقة بتبسيط وعقلنة وتحديث النظام الضريبي، مبرزة أنه «ينبغي تحسين الفعالية الضريبية من خلال وضع نظام مندمج لفرض الضريبة، وتحسين الخدمات لفائدة من يؤدونها، وإجراء تعديلات ضريبية للمقاولات». وطالبت بنصالح بإعادة النظر في النظام الحالي لاسترجاع الضريبة على القيمة المضافة، خاصة ما تعلق بإلغاء آجال شهر من أجل استرداد هذه الضريبة، الذي نادرا ما يتم احترامه، مشددة على ضرورة مباشرة إصلاح عميق للنصوص التنظيمية للضريبة على القيمة المضافة، موضحة أن الحكومة التزمت بإدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال اللقاءات المتعلقة بالجبايات التي ستعقد في فبراير 2013، والتي ستعقد اجتماعاتها الإعدادية بتشاور مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب ابتداء من شتنبر 2012. ودعت رئيسة الباطرونا إلى بلورة ميثاق جديد للنمو والتنافسية بين الحكومة والاتحاد. وقالت إن الاتحاد الذي يتطلع إلى وضع هذا الميثاق الجديد، ينتظر أجوبة صريحة وواقعية تتعلق بمختلف المسائل والإشكاليات المطروحة على المقاولات. وأضافت أن الأزمة العالمية، التي تضرب الشركاء الدوليين للمغرب، وتنعكس على الاقتصاد الوطني، تحتم «تغييرا في منهجية العمل»، لأن العالم تغير. وختمت بنصالح مطالبها قائلة: «إننا نريد جميعا أن نكون فاعلين ولدينا مواقف وقرارات متواصلة، فالوضعية صعبة لكنها ليست غير قابلة للتجاوز». وأضافت أنه «لهذا السبب حددنا موعدا لاتخاذ التدابير الملموسة على المدى القصير والمتوسط والبعيد». التقارب بين الباطرونا والنقابات يفجر المواجهة أياما قليلة بعد هذا اللقاء كانت كافية لتشعل فتيل المواجهة بين الحزب الإسلامي ونقابة مريم بنصالح، التي تتحرك، في نظر مجموعة من المحللين، بناء على تعليمات من جهات خفية، حيث اجتمعت بنصالح مع النقابات الأكثر تمثيلية في المغرب، وعلى رأسها نقابة الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، واستثنت الحكومة من هذه اللقاءات، وهو الأمر الذي اعتبره قياديون في العدالة والتنمية استهدافا مباشرا لحكومة بنكيران وخطوة للإعداد لانقلاب اجتماعي عليها. مباشرة بعد ذلك، خرج جمال بلحرش، رئيس لجنة الشغل في الاتحاد العام لمقاولات المغرب، في تصريحات ل«المساء»، قائلا: «نحن لسنا ضد حكومة بنكيران أو حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية، ولكن نحن ضد طريقة تدبير رئيس الحكومة للظرفية الاقتصادية الراهنة. وأضاف لحرش أن «الخوف على مستقبل المغرب هو الذي يحرك نقابة الباطرونا، وليس الصراعات والمصالح الضيقة، وعلى الحكومة أن تتقبل انتقادات رجال الأعمال وتصورهم للإصلاح الاقتصادي، طالما أنها تقبلت اللعبة الديمقراطية وانخرطت فيها للوصول إلى الحكم». وعن التقارب بين الباطرونا والنقابات قال لحرش إن «هذا التوجه انطلق منذ سنوات، وقبل أن تنتخب مريم بنصالح على رأس الاتحاد، وذلك في ظل عدم جدوى اللقاءات الثلاثية التي تجمع الحكومة والنقابات والمقاولات، حيث إن اجتماع حوالي 100 شخص في قاعة واحدة خلال تلك اللقاءات حول الحوار الاجتماعي إلى «سوق»، وبالتالي لم نخرج منها بأي نتيجة».
قانون المالية يعمق الفجوة بين الباطرونا والحكومة
لم تكد معركة التقارب بين الباطرونا والنقابات تضع أوزارها، حتى تفجرت صراعات بالجملة بين وجوه بارزة في العدالة والتنمية وفي الاتحاد العام لمقاولات المغرب، فمباشرة بعد الإعلان عن تفاصيل مشروع قانون المالية، استغلت مريم بنصالح انعقاد المجلس الإداري للاتحاد العام لمقاولات المغرب من أجل توجيه انتقادات شديدة اللهجة لمضامين مشروع قانون مالية 2013، معلنة بذلك انتهاء «أيام المشمش» التي لم تدم طويلا بينها وبين رئيس الحكومة. وقالت رئيسة الباطرونا إن أرباب المقاولات، وفي إطار الوعي التام بمسؤولياتهم الاجتماعية والمواطنة بذلوا جهدا كبيرا في إعداد مقترحات تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاقتصادي داخل المغرب وخارجه، لكن الحكومة أبت إلا أن تقبر هذه المقترحات، وتعلن عن مجموعة من الضرائب الجديدة التي ستعرقل الإنتاج وتعوق تطور الاقتصاد الوطني. وأضافت بنصالح أنه في الوقت الذي كان فيه الاتحاد ينتظر قانونا للمالية يدعم مستويات النمو الاقتصادي في المغرب، فوجئ أرباب المقاولات باستمرار طغيان الهاجس الموازناتي على مشروع قانون المالية، مشيرة إلى أن العجز الذي أبانت عنه الحكومة على المستوى الاجتماعي يفرض خلق نظام تضامني حقيقي مبني على إصلاح جبائي شامل ومتكامل يضمن إعادة توزيع الثروة بشكل عادل. وعبرت بنصالح عن أسفها لعدم التزام الحكومة بإدراج مقترحات الباطرونا في مشروع قانون المالية، رغم المجهودات التي بذلها الاتحاد في هذا المجال، مؤكدة أن الاتحاد العام لمقاولات المغرب اكتشف بعد الإعلان عن مضامين المشروع أنه لم يؤخذ بعين الاعتبار جولات الحوار التي جمعت بين الحكومة وأرباب المقاولات منذ الصيف الماضي. رفاق بنكيران لم يستسيغوا موقف نقابة الباطرونا، حيث خرج عبد العزيز أفتاتي بتصريحات نارية، مؤكدا أن «ما يعيبه بعض الإخوان في العدالة والتنمية على تصريحات الباطرونا أنها جاءت في سياق يخدم أجندة جهات معينة». وأضاف أفتاتي أن «بعض رجال الأعمال حاولوا إيهام الشعب بمعطيات غير حقيقية حول قانون المالية، خاصة منها تلك المتعلقة بالضريبة المفروضة على الأجور المرتفعة، حيث روجوا لكونها ستضر بكل الطبقة المتوسطة، في الوقت الذي تفيد فيه الأرقام أن هذا الإجراء لن يهم سوى نسبة ضئيلة جدا من الأجراء».
حروب الحكومة والباطرونا تضع أوزارها مع اقتراب موعد المصادقة على قانون المالية، فوجئ الجميع بتغير في مواقف الاتحاد العام لمقاولات المغرب، فقد علمت «المساء» من مصادر موثوقة، حينذاك، أن رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب مريم بنصالح تلقت الضوء الأخضر لوقف حملتها ضد بنكيران وفتح صفحة جديدة مع رئيس الحكومة، بالنظر إلى أن المؤشرات الحالية تؤكد حاجة المغرب إلى مزيد من الاستقرار الاقتصادي والسياسي، خاصة في ظل الأوضاع المتأزمة التي تشهدها مجموعة من البلدان العربية. وكشفت المصادر ذاتها أن من المنتظر أن يخضع مشروع قانون المالية لتعديلات «شكلية» تحافظ على ماء وجه «الباطرونا» وتضمن لرئيس الحكومة تمريره بجميع مضامينه الأساسية، مشيرة إلى أن المقترحات التي تقدم بها الاتحاد العام لمقاولات المغرب تدخل في هذا الإطار. ولم تخف المصادر عدم ارتياح جهات عليا من تبعات الصراع بين الحكومة ورجال الأعمال على الوضع الاقتصادي والسياسي للبلد، وهو ما فرض توجيه تعليمات إلى جميع الأطراف التي دخلت في الصراع من أجل مراجعة مواقفها، وفي هذا الإطار جاء اللقاء الذي جمع بين رئيس الفريق البرلماني للعدالة والتنمية عبد الله بوانو، وصلاح الدين القدميري نائب رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب، واللذين حاولا خلاله تقريب وجهات النظر بين «الباطرونا» والحكومة حول مشروع قانون المالية، مؤكدين أن جميع الخلافات يجب أن تحل على طاولة المفاوضات وبعيدا عن الخرجات الإعلامية غير المحسوبة. من جهتها، خففت رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب مريم بنصالح من لهجتها ضد الحكومة في المقترحات التي تقدمت بها، كما أنها خفضت سقف مطالبها بخصوص قانون مالية 2013 بشكل مثير، حيث أعدت لائحة من 9 صفحات من المقترحات الداعية إلى إدخال تعديلات بسيطة على مستوى مساهمة الشركات في صندوق التضامن، واستقطاب القطاع غير المهيكل، وإعادة النظر في طريقة تطبيق الرسوم المفروضة على الرمال وحديد البناء والرسم البيئي. استمر ار المناوشات بعد فترة من الهدنة اعتقد معها الجميع أن الأمور استقرت بين الباطرونا والحكومة، عادت مريم بنصالح لتنتقد الأداء الحكومي، حيث وجهت في رسالة مبطنة إلى رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، على هامش لقاء حول الاستثمار في وجدة، نيرانها من جديد نحو مناخ الأعمال في المغرب، معتبرة أنه يشكل أحد الأضلع الثلاثة لمثلث الإكراهات التي تواجه الاستثمار في المغرب، إلى جانب إشكاليتي العقار والتمويل. واعتبرت بنصالح أن المبادرة الخاصة تبقى الحل الوحيد لإعادة الدينامية إلى الاقتصاد الوطني، مشيرة إلى أن المشاكل التي يعيشها المستثمرون تظل متشابهة، سواء في وجدة أو الدارالبيضاء أو أكادير أو العيون أو غيرها من المدن. ومنذ ذلك الحين، سادت فترة أخرى من الهدوء تم خرقها هذا الأسبوع بعد قرار مقاطعة نقابة الباطرونا لرجال الأعمال الأتراك، والذي يرى المحللون أنه لن يمر دون أن تكون له انعكاسات كبيرة على مستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين.