لا يمكن اعتبار الحكامة الحزبية مجرد نمط للتدبير الديمقراطي للشأن الحزبي دون استحضار بعدها الإيديولوجي الذي يروم تكريس فعالية الأداء الحزبي، وذلك لا يتحقق إلا من خلال مستويين، مستوى تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية ومستوى تقوية القدرات التدبيرية. يتمثل مستوى تحجيم المرجعيات الإيديولوجية في مظهرين أساسيين، أولهما مرتبط بالانتقال من المشروع المجتمعي إلى المشروع السياسي، وثانيهما ذو صلة بالانتقال من الحزب العقائدي إلى الحزب البرغماتي: يفيد المظهر الأول، المتعلق بالانتقال من المشروع المجتمعي إلى المشروع السياسي، تحولا من الاشتغال بمنطق الحركة الاجتماعية إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي، ذلك أن الحركة الاجتماعية تعمل أساسا من خارج النظام السياسي القائم وتسعى إلى تقويض أركانه والحلول محله، وعليه فهي حاملة لمشروع مجتمعي بديل أو مضاد للمشروع المجتمعي الذي يستند إليه النظام القائم، لذلك فكل حركة اجتماعية تكون ملزمة، لإضفاء الفعالية على أدائها، بالإعلاء من مرجعيتها الإيديولوجية، وهي مرجعية تضفي بعدا شموليا على مشروعها الذي لن يكون إلا مشروعا مجتمعيا باعتبار أنه مشروع يطال كل مناحي حياة المحكومين، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. يتأسس مفهوم الحكامة الحزبية، كخيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي في مظهره الأول، على تأمين التحول بالعمل من خارج النظام السياسي القائم إلى العمل من داخله؛ وبتعبير أوضح، توفير شروط التحرر من طموحات الحركة الاجتماعية إلى القبول بإكراهات الحزب السياسي. وكم تبدو بعض الزعامات السياسية خارج السياق وهي تتحدث عن رغبة أحزابها السياسية في تطبيق مشاريعها المجتمعية؛ فالحزب السياسي بطبيعته، وفق منطق الحكامة الحزبية، لا يمكنه إلا الانخراط في المشروع المجتمعي العام للنظام القائم، وبذلك فأقصى ما يمكن أن يعمل الحزب السياسي على بلورته هو مشروع سياسي لا يشكل بديلا للمشروع القائم وإنما يعمل على إعادة إنتاجه مع إدخال بعض التعديلات والتحويرات التي لا تمس، بأي حال من الأحوال، بجوهره وماهيته. من هذا المنظور، تغدو الحكامة الحزبية، في مظهرها الأول والمرتبط بمستوى تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية، محاولة لتحرير الأداء الحزبي من طوباوية الحركات الاجتماعية ليعانق واقعية الأحزاب السياسية باعتبارها تنظيمات تروم تأطير المواطنين والمشاركة في تدبير الشأن العام ليس إلا. يرتبط المظهر الثاني، المتعلق بالانتقال من الحزب العقائدي إلى الحزب البرغماتي، بالمظهر الأول شديد الارتباط؛ فالتحول من الاشتغال بمنطق الحركة الاجتماعية الحاملة لمشروع مجتمعي إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي المدافع عن مشروع سياسي يقود إلى تغيير في طبيعة الحزب السياسي نفسه، حيث يغدو حزبا برغماتيا متحررا من أوهام الإيديولوجيا. وغالبا، عندما يصبح الحزب غارقا في نزعته البرغماتية فإنه لا يتذكر مرجعيته الإيديولوجية إلا عندما يجد نفسه في حالة دفاع تجاه خصومه ومناوئيه السياسيين. تعبر النزعة البرغماتية للأحزاب السياسية، التي تسعى إلى التحرر من طابعها العقائدي عن نفسها، من خلال العديد من التجليات: أول هذه التجليات ذو صلة بالتبريرات التي تقدمها هذه الأحزاب لتغيير مواقفها كلما تغيرت مواقعها. إن الإغراق في ممارسة النقد الذاتي هو أحد تعبيرات النزعة البرغماتية، حيث من خلاله، أي النقد الذاتي، يتحقق الالتفاف على ثوابت الإيديولوجيا؛ وهذا الالتفاف قد يوصف بكونه مراجعات من منظور الحزب الذي يعتبر نفسه برغماتيا، وقد يوصف بكونه تراجعات من منظور الحزب الذي يعتبر نفسه عقائديا؛ ثاني هذه التجليات ذو ارتباط بالخيارات المنتهجة على صعيد اختيار المرشحين؛ فقد ظلت الأحزاب التي تعتبر نفسها عقائدية، ولمدة طويلة، مدافعة عن خيار ترشيح المناضلين، غير أن هيمنة النزعة البرغماتية عليها جعلتها تتجه نحو خيار ترشيح «الأعيان» والبحث عن تمثيلية برغماتية من خلال هؤلاء الأعيان لتمنحها مضمونا عقائديا هي لا تمتلكه في الأصل؛ ثالث هذه التجليات ذو علاقة بالتحالفات التي تبرمها الأحزاب السياسية ذات المنحى العقائدي مع أحزاب سياسية ذات منحى برغماتي صرف، من أجل تشكيل أغلبيات حكومية. وفي هذه الحالة، تنتصر البرغماتية وتنمحي الحدود الفاصلة بين المرجعيات الإيديولوجية. إذا كان المستوى الأول متمثلا في تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية كخيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي، فإن المستوى الثاني لهذا الخيار يتجسد في تقوية القدرات التدبيرية التي تعبر عن نفسها من خلال مظهرين أساسيين: أولهما يركز على تحول الحزب السياسي إلى قوة اقتراحية، وثانيهما يشدد على القدرة على إعداد الأطر: - يفيد المظهر الأول لمستوى تقوية القدرات التدبيرية تحول الحزب السياسي إلى قوة اقتراحية، حيث ينتقل من مجرد أداة للتعبئة وتقديم المطالب إلى أداة لصياغة البرامج السياسية القادرة على المساهمة في تحسين أوضاع المحكومين. يشكل البرنامج السياسي لأي حزب سياسي مدخلا أساسيا لقياس وزنه. وتستدعي إثارة إشكالية البرنامج السياسي إبداء توضيحين: يرتبط أولهما بكون البرنامج السياسي يتجلى من خلال صيغتين: يكون هذا البرنامج السياسي في صيغته الأولى بمثابة برنامج انتخابي عندما يعرضه الحزب على الكتلة الناخبة ليحظى بثقتها؛ ويكون في صيغته الثانية بمثابة برنامج حكومي عندما ينجح الحزب السياسي في تصدر نتائج الاستحقاقات الانتخابية ويكلف بتشكيل الحكومة، سواء بمفرده في حالة الحكومة المنسجمة أو بمعية أحزاب أخرى في حالة الحكومة الائتلافية؛ ويتعلق ثانيهما بكون البرنامج السياسي يتضمن شقين أساسيين: يرتكز الشق الأول على القيام بتشخيص دقيق للأوضاع العامة للبلاد، ويرتكز الشق الثاني على تقديم الحلول من أجل النهوض بالأوضاع العامة وفق ما يستوجبه التشخيص الدقيق لتلك الأوضاع. وعليه، فإن البرنامج السياسي، حتى لا يتحول إلى مجرد وعود سياسية، يجب أن تتسم الحلول التي يقترحها بالواقعية والقابلية للتنفيذ. - يفيد المظهر الثاني لمستوى تقوية القدرات التدبيرية قدرة الحزب السياسي على إعداد أطر تتصف بالكفاءة المتطلبة لتدبير الشأن العام إذا كان الحزب في الأغلبية أو تتابع عن كثب كل ما يتعلق بالسياسات العمومية المنتهجة وإعداد التصورات البديلة إذا كان الحزب في المعارضة. إن مفهوم الحكامة الحزبية، على مستوى تقوية القدرات التدبيرية من مظهره الثاني، يقتضي التمييز بشكل واضح بين مجال تكوين النخب ومجال إعداد التأطير: أكيد أن الحزب السياسي تتحدد هويته وخياراته عبر نخبته السياسية التي غالبا ما تتميز بامتلاكها قدرات عالية على صعيد الانخراط في السجالات السياسية من أجل الدفاع عن التنظيم ومرجعياته، من جهة، وإفحام الخصوم، من جهة أخرى. غير أن مثل هذه النخبة قد تلحق ضررا بالحزب السياسي عندما تتولى تدبير الشأن العام باسمه لافتقادها المؤهلات التدبيرية اللازمة. وعليه، فقد أضحت الحكامة الحزبية تفيد، من بين ما تفيده، قدرة الأحزاب على إعداد أطر قادرة على تحمل المسؤوليات العمومية أكثر مما تفيد قدرتها على إنتاج نخب لا تتقن إلا الجدل السياسي. إجمالا، يمكن القول إننا نقصد بالحكامة الحزبية نمطا من التدبير الديمقراطي يرتكز على جملة من المبادئ، كالمشاركة وثقافة المحاسبة والرقابة المزدوجة: رقابة من أعلى إلى أسفل تمارسها القيادة الحزبية على المناضلين ومدى التزامهم بأخلاقيات العمل الحزبي، ورقابة من أسفل إلى أعلى تمارسها القواعد على القيادة ومدى قدرة هذه الأخيرة على تحقيق الأهداف المسطرة، تنظيميا وسياسيا. غير أنه لا يمكن اختزال الحكامة الحزبية في مجرد إجراءات ومساطر، فهي في نفس الآن خيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي من خلال القدرة على صياغة استراتيجيات وتنفيذها لتحقيق التنمية في مختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية. إن الخطاب المهيمن حول الحكامة الحزبية، باختزاله لهذه الأخيرة في مجرد إجراءات ومساطر، يروم إخفاء حقيقة أساسية تتمثل في كون الحكامة الحزبية هي إيديولوجيا لمواجهة الإيديولوجيات الحزبية، حيث يتحول التنافس بين الأحزاب السياسية من تنافس موجه بمرجعيات إيديولوجية إلى تنافس محكوم بمنطق امتلاك القدرات التدبيرية من عدمها من خلال إحداث نوع من التماهي بين الفعل السياسي والأداء التقنوقراطي، وذلك بإضفاء المشروعية على تحول التقنوقراطيين إلى سياسيين، كما يصبح السياسيون من أجل الاستمرار ملزمين بالتحول إلى تقنوقراطيين.