تعيش طنجة على وقع جريمة مثيرة وقعت ليلة الخميس -الجمعة، حيث اعترض شخصان سيارة وقتلا أحدَ ركابها رميا بالّرصاص في الثالثة فجرا.. أفزعت الطلقات النارية القوية في عزّ الليل السكان المجاورين لمكان الحادث، في شارع مولاي رشيد، وعندما استطلعوا ما يحدُث وجدوا أنّ الجريمة غير عادية، فقد كان شاب في حوالي الخامسة والعشرين من عمره مضرّجا في دمائه، وقد اخترقتْ جسمَه عدّة رصاصات، وقربه سيارته التي كان يمتطيها رفقة أحد رفاقه، الذي لاذ بالفرار.. حوادث مثيرة تأتي هذه الجريمة يوما واحدا على حادث عرفته طنجة، حين هاجم مغربي -يقيم في الخارج- شخصا عراقيا بمسدّسه وتسبب له في جروح، لكنه -وفق رواية أمنية- لم يطلق الرّصاص لأنّ المسدس كان مخصّصا للعب وليس حقيقيا.. لكنّ مجرّد استعمال مسدس في شجار بين شخص يكتري منزلا وآخر جاء يطالبه بواجب الكراء يجعل الأمورَ عصية على الفهم في مدينة صارت تعيش على وقع أحداث كان الناس يرون فصولها في الأفلام فقط. لم تقتصر الحوادث المتعلقة بإطلاق النار على هذين الحادثين فقط، فخلال السنوات، أو حتى العقود الماضية، وقعت حوادثُ مشابهة تم فيها استعمال الرّصاص، ومن أهمّ هذه الأحداث ما جرى في سنوات التسعينيات حين تم استعمال السلاح الناري بين خصوم متحاربين في ساحة الرّوداني، المعروفة باسم «ساحة النجمة»، وهو الحادث غير المسبوق في تاريخ المدينة، والذي يمكن اعتباره البداية الفعلية لموجة تصفية الحسابات بالرّصاص بين جهات يسميها السكان «مافيا دولية للمخدرات»، خصوصا أن ذلك الحادثَ كانت بعضُ أطرافه أجنبية، أو على الأقل من المغاربة المقيمين في الخارج والمرتبطين بشبكات دولية للتجار في المخدّرات. وقبل بضعة أشهر، عرفت طنجة حادثا مثيرا عندما هاجم بضعة أشخاص شابا في شارع العام، وانهالوا عليه ضربا بالسكاكين والسيوف، وكاد هذا الشاب يلقى حتفه، لكنه نجا بمعجزة.. وقبل بضعة سنوات، عرف منتزه «منار بارك»، القريب من كورنيش طنجة، جريمة مثيرة، إذ قتِلَ شخص أمام الملأ بالسّكاكين والسيوف، وهي الجريمة التي تشابهت مع أفلام هوليودية في طريقة تنفيذها، حيث اعترض بضعة أشخاص راكب سيارة وأنزلوه منها ثم شرعوا في تمزيق جسده أمام المئات من زوار المنتزه، وبينهم أطفال كُثر، وهي الجريمة التي كشفت تفاصيلُ محاكمة الجناة أنها مرتبطة بشبكات للاتجار الدولي في المخدرات بين المغرب وأوربا، وأطرافها تتوزّع بين عدد من البلدان الأوربية والآسيوية.. هناك حوادث وجرائم أخرى كثيرة مشابهة حدثت في طنجة خلال السنوات الماضية، والتي تكشف أنّ المدينة تحولت إلى مسرح لتصفية الحسابات بين شبكات متعارضة المصالح، وأحيانا يكون أعضاء هذه الشبكات أجانبَ، مثلما هو الحال في قضية جريمة «منارْ باركْ»، حيث إنّ أحد أطرافها جزائريّ.. كان الشخصان اللذان نفذا جريمة أمس في طنجة يرتديان قناعا، وهو ما يشير إلى أنّ الجريمة مدبرة ومخطط لها. وهناك رواية قوية تقول إنهما دخلا المغرب قبل ساعات فقط من تنفيذ الجريمة، ثم غادرا البلاد في الليلة نفسها، وهو ما يشير إلى أنّ خيوط هذه القضية لها ارتباطات مافيوزية من الصّعب على أمن المدينة أن يفكّ طلاسمها بين لحظة وأخرى. التقرير الشهير.. لكن السؤال الكبير الذي يطرحه سكان طنجة اليوم هو: هل هناك مافيات حقيقية في المدينة؟ وهل يُنذر المستقبل بأن تتحول طنجة إلى مدينة شبيهة بنابولي أو صقلية أو نيويورك ولاس فيغاس وموسكو.. حيث المافيات تنهش بعضَها وتجعل من الشّارع العام مكانا لتصفية الحسابات. حتى الآن ليس هناك دليل يُثبت بالملموس أن الجريمة الأخيرة مافيوزية، لكنّ طريقة تنفيذها تشبه إلى حد كبير الطرُق التي تنفذ بها المافيات جرائمها. لم يكن تمركُز نشاط المافيات الدولية في طنجة وليدَ اليوم، ففي أواسط تسعينيات القرن الماضي أصدر المرصد الدولي لتجارة المخدرات تقريرا خطيرا وصف فيه طنجة بأنها «كارتيل» دوليّ لتجارة المخدرات، وكلمة «كارتيل» كانت من قبلُ مرتبطة بكولومبيا، وبالضبط بمنطقة «ميدلين»، التي تنشط فيها تجارة الكوكايين. في التقرير الدولي لتجارة المخدرات، الذي صدر وقتها، برزت أسماء مغربية قيل إنها مرتبطة بهذه التجارة، والغريب أنّ عددا من الأسماء المذكورة في تلك الفترة ما تزال إلى اليوم تمارِس مهامّ سياسية أو حزبية في المدينة، وهناك شخص شهير ورد اسمه في ذلك التقرير ما يزال إلى اليوم يُصرّ على أن يكون فاعلا سياسيا وحزبيا مهمّا في طنجة.. «دوق دو طوفار» قبل التقرير الدولي حول تجارة المخدرات، شهدت طنجة أطوارا مثيرة لاكتشاف شبكة مافيوزية أعضاؤها مغاربة وإسبان، وهي الشبكة التي استولت على كل أملاك الثري الإسباني «الدوق دو طوفار»، وهي أملاك لا تعَدّ ولا تحصى، من بينها أموال كثيرة وعقارات بلا حد ولوحات فنية نادرة وضيعات ومجوهرات وحليّ لا تقدَّر بثمن.. وكان الدوق دو طوفار، وهو «نبيل» إسبانيّ شهير، قد عاش في طنجة خلال الفترة الدولية وعشقها إلى حدّ الوله، ثم كتب وصية يهَب فيها أملاكَه كلها تقريبا للمدينة، وأوصى ببناء مستشفيات ومدارس ودور للأيتام والعجزة وغيرها.. غير أنّ ما حدث يصعب على الوصف، حيث إنّ المافيا قامت بالاستيلاء على كل شيء تقريبا.. والغريب هو أنّ هذه المافيا كانت لها أيادٍ داخل المجلس البلدي وقتها، وهناك أشخاص معروفون في طنجة ساهموا في نهب أملاك الدّوق دو طوفار، وما يزالون يُصرّون على البقاء في الواجهة إلى اليوم، وهو ما يُحتّم إعادة فتح تحقيق فعليّ حول هذا الموضوع وإعادة محاكمة المتورّطين في القضية وإنزال أشدّ العقوبات بهم. آثار المافيا كانت طنجة، أيضا، ملجأ لعدد من أشهر المافيوزيين العالميين. وهناك حكاية غريبة لواحد من أشهر لصوص العالم، اسمه فرانسوا بيس، الذي جاء إلى طنجة في ثمانينيات القرن الماضي بحثا عن ملجأ آمِن، فكان أن «وقع» وهو يحتسي كأسا من الكونياك، وهو الرّجل المولود في منطقة فرنسية تدعى «كونياك».. كانَ فرانسوا بيس أشهرَ من نار على علَم، إنه «ملك الملوك» في الهروب من كل الكمائن التي نُصبت له في أوربا، لذلك حمل لقب «ملك الهرُوب» عن جدارة واستحقاق، لأنْ لا شيء كان يقف في طريقه في سبعينيات القرن الماضي. لم تكن «آثار» المافيا في طنجة حاضرة اليوم فقط، بل إنه خلال الفترة التي كانت المدينة خاضعة للانتداب الدولي كانت مرتعا لشبكات مافيوزية أو تجسسية من مختلف الجنسيات، وأصبحت المدينة مسرحا لتصفية الحسابات أو تبادل المصالح بين شبكات مرتبطة بجماعات مافيوزية أو دول عظمى، وفي كثير من الأحيان كانت تصفية الحسابات أو عمليات الاغتيال تتمّ في واضحة النهار وفي الشوارع، أمام الملأ.. وخلال السنوات الأخيرة، لم تعد طنجة مرتبطة بمافيا المخدرات فقط، بل إنّ مافيا خطيرة أخرى جعلت من طنجة مركزَها الأساسي والمحوري، وهي مافيا العقار، التي استولت على غابات ومناطق خضراء وأملاك عامة وأراضي الأحباس، وسطت على عدد من أراضي اليهود وبنت عمارات شاهقة على حافة الوديان، بل تم أحيانا «طمرُ» وديان بأكملها وتم بناء عمارات كبيرة فوقها.. والمثير في قضية مافيا العقار هو أنّ الكثير من أطرافها مرتبطون بمافيا المخدّرات، حيث إنّ تبييض الأموال القذرة في المدينة تم في أغلبيته الساحقة بواسطة الاستثمار في العقار، ومن الغريب أن أشخاصا تم ذكر اسمهم في التقرير الدولي لتجارة المخدرات هم أنفسهم الذين توجه لهم التهم بتبييض الأموال والسّطو على أراض كثيرة، بما فيها أراضي اليهود.