لا يوجد تفسير وراء قيام إدارة أوباما بحشر أنفها ومراقبة تسجيلات هواتف الصحفيين، وفحص بريدهم الإلكتروني بعناية، وتتبع تحركاتهم في محاولة لمنعهم من جمع الأخبار. هذه التصرفات الجائرة لا تبعث أبدا على الإحساس بالفخر، بل تصيب المرء بالصدمة. كما أنها خطوة تتعارض كليا مع مبادئ الدستور الأمريكي. وحسب قراءتي لبنوده، فإن التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي ينص على «حرية... الصحافة»، ينبغي أن يستبعد كليا القيام بالتوصل، سريا، بما قيمته شهرين من تسجيلات الهواتف الشخصية والمهنية لمراسلي وكالة «أسوشيايتد بريس» ورؤساء التحرير، بما في ذلك الاتصالات التي تمت انطلاقا من رقم هاتف الوكالة في مكتبها داخل مبنى الكونغرس الأمريكي. لكن هذا تحديدا ما أقدمت وزارة العدل على القيام به. هذا التجسس الذي لا مبرر له، والذي انكشف الأسبوع الماضي، كان سيبعث على الانزعاج حتى لو كان حادثا معزولا. لكن الطامة الكبرى هي أنه جزء من مخطط كبير يهدد بإعادة تحديد معالم صحافة التحقيق ووضعها في خانة العمل الإجرامي. نشرت صحفية «واشنطن بوست»، يوم الاثنين، خبرا يقول إن وزارة العدل حصلت، بشكل سري، على تسجيلات الهاتف والبريد الإلكتروني لمراسل قناة «فوكس نيوز»، جايمس روزن، وزاد الخبر في التوضيح حين أشار إلى قيام عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي بتتبع تحركات الصحفي داخل وخارج المبنى الرئيسي لوزارة الخارجية الأمريكية. أما الانتهاك الظاهر والوحيد الذي قام به روزن فهو قيامه بما يفترض أن يقوم به أي مراسل، أي البحث عن الأخبار. وفي كلتا الحالتين، كان المدعي العام يحاول رفع قضايا إجرامية بالاعتماد على قانون التجسس لسنة 1917 في حق الموظفين الفيدراليين الذين تحوم الشبهات حول قيامهم بتسريب المعلومات السرية. وقبل وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، تمت الاستعانة بقانون التجسس لمعاقبة مسربي المعلومات في ثلاث حالات فقط، بما في ذلك قضية دانييل إلسبيرغ سنة 1971 وقضية وثائق البنتاغون؛ أما وزارة العدل أثناء ولاية أوباما فاستعملت القانون ست مرات، والعدد مرشح للارتفاع. الحكومة، وبكل تأكيد، تتحمل واجب حفظ الأسرار. لكن المشكل يكمن في توجه كل إدارة أمريكية، وبدون أي استثناء، إلى إساءة استعمال ختم «سري للغاية»، أحيانا بسبب الحذر الزائد على حده، وأحيانا لمنع انكشاف المعلومات غير اللائقة أو المحرجة. في هذه الحلقة بالذات يبرز دور الصحفيين؛ فعملنا، بكل بساطة، هو القيام بالبحث عن الأخبار التي لا ترغب حكومتنا في أن يعرفها القراء. أحيانا، يصادف المراسلون بعض الأخبار التي يمكن أن يترتب عن نشرها تهديد الأمن القومي للبلاد. وعندما يناشد المسؤولون المؤسسات الصحفية بناء على مخاوف كهذه، فإن رؤساء التحرير يمتثلون لمطالبهم. القضية التي تهم وكالة «أسوشيايتد بريس» مثال جيد، فالقضية برمتها، التي نشرت تفاصيلها شهر ماي، تتعلق بعمليةٍ قادتها وكالة المخابرات المركزية باليمن، تم من خلالها إحباط مخطط إرهابي لتفجير طائرة لنقل المسافرين. المدير التنفيذي للوكالة، غاري برويت، قال إن مصلحة الأخبار وافقت على عدم نشر الخبر بعد تحذيرات المسؤولين بالإدارة الأمريكية مما يحمله القيام بنشره من تهديدات للأمن القومي. ولم تقم الوكالة بنشر الخبر إلا بعد طمأنتها من قبل مسؤولين في مؤسستين حكومتين بأن الخطر قد زال، حسب ما صرح به برويت. وبصفة متناقضة، كان الخبر يعبر عن نجاح آخر في محاربة الإرهاب. وهذا ما يدفعني إلى التساؤل حول الهدف الحقيقي للإدارة الأمريكية من وراء تحديد هوية الشخص الذي كشف عن هذه المعلومات الحساسة وعما إن كانت تسعى إلى ثني أشخاص آخرين عن تسريب معلومات سرية محتملة وأخبار غير سارة في المستقبل. أما حالة قناة «فوكس نيوز» فهي أكثر سوءا، فالقضية تعود تفاصيلها إلى خبر نشر سنة 2009 حول ردود الفعل المتوقعة التي ستصدر عن كوريا الشمالية بخصوص قرار لمجلس الأمن ينتقد التجارب النووية التي تجريها البلاد. حاليا، تتابع وزارة العدل أمام القضاء ستيفان جين-وو كيم، الذي كان يعمل آنذاك كخبير لدى وزارة الخارجية، بتهمة تسريب تقرير لروزن، مراسل قناة «فوكس نيوز»، حول ردود الفعل التي يمكن أن تصدر عن كوريا الشمالية. قامت النيابة العامة بالتدقيق في جميع الاتصالات الهاتفية التي أجراها روزن، وبقراءة بريده الإلكتروني، وقامت كذلك بتتبع الزيارات التي أجراها لمبنى وزارة الخارجية. لكن ما هي المسوغات التي وضعها المسؤولون لفسير هذا التجسس؟ قاموا بذلك من خلال إفادة لمكتب التحقيقات الفيدرالي تؤكد أن روزن خرق القانون «في أقل حالة، إما كمساعد أو محرض و/ أو كمشارك في مؤامرة». وبصيغة أخرى، وفي ظل غياب أي قانون يمنع نشر هذه المعلومات السرية، تدعي وزارة العدل أن عملية الحصول على هذه المعلومات يخرق قانون التجسس. لم يتم إلى حد الساعة توجيه أية تهمة إلى روزن، لكن الصحفيين المختصين في صحافة التحقيق أضحوا يتعاملون بحذر شديد مع مصادرهم. إذا كانت هذه نفس وجهة نظر الإدارات السابقة، لكان بوب وودوارد (شارك في كشف فضيحة ووترغيت) يقضي أيامه، بدون أدنى شك، في أحد السجون الفيدرالية. وربما كانت ستشغل الزنزانة المجاورة الصحفية دانا بريست، التي كشفت عن شبكة السجون السرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية، أو الصحفيين جايمس رايزن وإيريك ليشتبلو، اللذين كشفا برنامج التنصت لوكالة الأمن القومي. إن قانونا فيدراليا يوفر الحماية للصحفيين لكي لا يكشفوا عن مصادرهم الخاصة لن يعني أي شيء إذا كان ينص على حالات استثنائية بخصوص القضايا المرتبطة بالأمن الوطني، كما يحبذ أوباما. على الرئيس أن يستوعب أن تصرفات متعارف عليها تحت اسم «كشف الفضائح» و»الصحافة» لا ينبغي أبدا تأويلها كأعمال للتجسس.