نقل المؤرخون عن السلطان المريني يعقوب المنصور أنه كان صواما قواما دائم الذكر كثير الفكر لا يزال في أكثر نهاره ذاكرا وفي أكثرليله قائما يصلي، مكرما للعلماء كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعا في ذات الله لأهل الدين متوقفا في سفك الدماء كريما جوادا، وكان مظفرا منصور الراية ميمون النقيبة لم تهزم له راية قط، ولم يكسر له جيش، ولم يغز عدوا إلا قهره، ولا لقي جيشا إلا هزمه ودمره ولا قصد بلدا إلا فتحه. وكانت سياسة المنصور المريني تجمع بين الشدة واللين، شدة على خصومه وأعدائه، ورحمة برعيته وعامة المسلمين الذين لم يتأخر عن مد يد العون لهم حين كانت تواتيه الفرصة. والمنصور المريني إلى جانب براعته في خوض المعارك والحروب واشتهاره بالفروسية والشجاعة، كان محبا للعلم والعلماء، وقد اشترط على سانشو الإسباني أن يعيد الكتب التي نهبت من الأندلس كأساس لعقد الصلح بينهما، فرد عليه سانشو ثلاثة عشر ِحملا من الكتب من بينها مؤلفات في الفقه والتفسير والمنطق والبلاغة. وقد خص العلماء وطلبة العلم بالأعطيات وأجرى عليهم رواتب شهرية تصرفهم عن الانشغال بغير العلم، وله فضل عظيم في تشييد المدارس ودور العجزة والأيتام والمساجد والأسوار التي حمت المدن المغربية من صولة المعتدين وغاراتهم. وعلى الجملة فقد كان المنصور المريني واحدا من أعظم ملوك الإسلام، وليس من المبالغة في شيء أن يطلق عليه هذا الوصف فالدارس لسيرته يحار كيف أمكنه أن يجمع العلم مع العمل، والرفعة والسمو وعلو الهمة مع التواضع، والشدة والبأس في ساحات المعارك مع نكران الذات. تلك حقيقة المنصور الذي قاد المغاربة لنصر «الدونونية»، وقد قال عنه لسان الدين بن الخطيب بعد أن أخدته الدهشة حين كان يقلب صفحات حياة هذا الملك العظيم، «أشبه بالشيوخ منه بالملوك في إخمال اللفظ والإغضاء عن الجفوة والنداء بالكنية». وقد لا يستسيغ من هو دون الملك شأنا أن ينتقده الناس وأن ينبهوه إلى أخطائه وهفواته، ولكن المنصور ما كان لتأخذه العزة بالإثم إذا أمر بمعروف أو نُهي عن منكر. يروى أن الفقيه أبا إبراهيم بن إسحاق بن يحيى الورياغلي كان شديدا في الحق وقد أغلظ القول للمنصور المريني يوما بجامع السلطان بفاس، فغضب منه وأمر بإخراجه من المدينة وسرعان ما ألم به مرض شديد بعد رحيل الورياغلي فأمر برده، فقال الورياغلي لا نكون أنا وهو في بلد واحد، فأمر المنصور ببناء البيضاء بجوار فاس ليتيح للفقيه العودة إلى وطنه، وكان في إمكانه أن يقتله كما فعل المعتضد بن عباد مع الهوزني، وهو بعدُ أجل شأنا من المعتضد والهوزني لم يغلظ القول للمعتضد على ملأ من الناس كما فعل الورياغلي، ومع ذلك فقد وُجد من المهتمين بالتاريخ من أسهب في وصف عظمة ملوك الطوائف ومن بعدهم بنو الأحمر فقيل أن عظمتهم تجلت في العناية بالشعر والشعراء وفي التأنق في البناء، وما الحمراء إلا واحدة من آثار عهدهم الزاهر وحسنة من حسنات مجدهم الغابر، لكن عظمة المغاربة غير عظمة الأندلسيين الجوفاء وعظمة المنصور المريني غير عظمة ابن الأحمر، وسيلاحظ المهتمون بالمعمار المغربي أن المغاربة في أوج عزهم في الفترة المرابطية والموحدية والمرينية كانوا أبعد ما يكون عن الاهتمام بالزخرفة والإقبال عليها، وأن الزخرفة إما وليدة الانحطاط أو مفضية إليه بعد حين، وإذا كانت «الحمراء» تمثل أوج الازدهار الأندلسي في فنون الزخرفة فإنها مثلت أيضا بداية نهاية الوجود الإسلامي بالأندلس. ولئن كان ابن الأحمر قد صرف همته إلى زخرفة القصور والتأنق في البناء فإن ملك المغرب عاش في معارك متصلة لايكاد يفرغ من واحدة حتى ينخرط في أخرى لينقذ الأندلس وأهلها، وقد قال لبعض خاصته بعد أن انتصر في إحدى معاركه الأندلسية «يكون حظ بني مرين من هذه الغزوة الأجر والثواب مثل ما فعل ابن تاشفين يوم الزلاقة» ثم تنازل لابن الأحمر عن الغنائم. وابن الأحمر هذا كان يرتعد فرقا بين يدي ملوك الإسبان وما كان لدولته أن تستمر لولا المنصور المريني، حتى إنه كان يحكم باسم ملوك قشتالة قبل أن ينصره ملك المغرب، وأما يعقوب المنصور فيذكر التاريخ أن هيراندة ملك الإسبان جاء يستنصره على ابنه «سانشو» بعدما عزله عن ملكه، وقد تقدم هيراندة ذليلا متضرعا نحو أمير المسلمين وقبل يديه على ملأ من العرب والعجم فغسلهما المنصور ليعلم هيراندة مقامه من ملك المغرب، فأين مقام بني الأحمر ودولتهم من مقام المنصور ودولته مهما بالغوا في الزخرفة واجتهدوا في بناء القصور؟