اليوم، وبعد عدة قرون على ظهور صناعة الخزف والفخار بآسفي على أيدي البحارة الفينيقيين على حافة وادي الشعبة الذي حفر مساره وسط المدينة القديمة، ليس هناك اختيار للمتجول والسائح وسط تل الخزف، المصنف موقعا تاريخيا سنة 1920، سوى استنشاق الغاز الذي عوض أفران الحطب التقليدية. الغاز، كأحد مصادر الطاقة البديلة عن المحروقات، وجد من سوقه بين بسطاء الحرفيين خلال السنوات الماضية، حيث تم إيهام هؤلاء أن استغناءهم عن الحطب في أفرانهم سيجلب لهم الربح بكل بساطة وسذاجة، وتم تناسي أن تحديث الصناعة الخزفية لا تتم من مؤخرة الإنتاج، بل من مقدماته، وأساسا التكوين والبنية التحتية والمعرفة التاريخية بكل تطورات المدرسة الخزفية الآسفية والصناعة الخزفية العالمية. ما وقع قبل يومين في فاس وفي أحد أكبر وأشهر المركبات الخزفية المغربية المعاصرة، يعد فاجعة، حيث تم استبدال الأفران التقليدية لتل الخزف المصنف موقعا تاريخيا والمتميز بجمالية الضيق في الممرات، بأخرى جديدة تشتغل فقط بالغاز، حتى إن السياح أصبحوا يتجنبوه مثلهم مثل المارة المغاربة الذين يصابون باختناق جراء الانبعاثات الكثيفة وغياب كل شروط السلامة في أقصى تجليات الفوضى. اليوم هناك أصوات كثيرة، خاصة من قبل بعض الحرفيين المتشبثين بصناعة الفخار وتطويره من داخل أفران الحطب، إلى جعل تجربة أفران الغاز والكهرباء تخرج من تل الخزف إلى فضاءات عصرية أخرى مساعدة وتتوفر على كل شروط السلامة، وأن تل الخزف، باعتباره موقعا تاريخيا مصنفا والنواة التاريخية الأولى لبداية هذه الصناعة التي واكبت جميع الأجيال والعصور والمتغيرات المناخية والإدارية والبشرية، عليه أن يبقى محافظا على صناعة الفخار بكل الطرق والوسائل التقليدية التراثية الأصيلة والعتيقة. خزف آسفي مات على مراحل، واليوم تشيع جنازته، فالقطاع عرف قمة تألقه ومجده مع الرواد من الحاج عبد السلام اللانكاسي الفاسي الذي قدم إلى المدينة سنة 1875، إلى المعلم اسعيد السوسي الذي بدأ بربط القوافل التجارية الخزفية بين آسفي ومنطقة السوس، قبل أن يتحول إلى أول حرفي مغربي وضع توقيعه على تحفه الفخارية التي صدرها إلى كل أرجاء العالم قبل وفاته سنة 1952، حتى بوجمعة العملي الرائد الخزفي القبائلي الذي نقل تجارب المدارس الأندلسية والفارسية والأوربية سنة استقراره بآسفي سنة 1920 حتى وفاته سنة 1971، ومازالت تحف هؤلاء تجوب أروقة المتاحف العالمية وتظهر بين الفينة والأخرى في المزادات العلنية. الجشع قتل الخزف بآسفي، والجهل أداة الجريمة، «حين وصل فخار آسفي إلى درجة يباع فيها على قارعة الطريق» بأثمان بخسة وبأشكال تفتقر إلى الجمالية. تلك قمة الاندحار الذي توقعه المعلم ابن إبراهيم الفخاري قبل وفاته، هو الذي وصلت منتجاته الإبداعية الخزفية الآسفية إلى طاولة غداء الملك الراحل الحسن الثاني.