الخزف أو «الفخار» صناعة إنسانية تُصنف ضمن الدراسات الحضارية للشعوب، نظرا لارتباطه بالبدايات الأولى للبشرية في علائقها مع المجال والمحيط الطبيعي وتسخيره في خدمة حاجياتها الفطرية، مع ذلك لم يأخذ فن الخزف مكانة لائقة ضمن مواضيع البحث الثقافي والأكاديمي والتاريخي المغربي، باستثناء مجموعة من الأبحاث والدراسات التي قامت بها قلة من الأسماء في خطوة صامتة ومعزولة. تضمنت مجلة «مغربنا» التي كان يديرها المثقف والمعمر الفرنسي بول بوري في النصف الأول من القرن الماضي، مقالا عن تاريخ الخزف بآسفي كتبه الباحث روني كريميو في عدد يناير من سنة 1953، والمقال عبارة عن توطئة تاريخية لذاكرة الخزف بآسفي من النشأة والمنطلق إلى الشهرة والتراجع. إنها قراءة متأنية وبسيطة بعيون أجنبية كانت ترى في كل ما هو جامد ومتحرك بالمغرب مادة صالحة للبحث العلمي. يقول روني كريميو في مقاله المترجم من الفرنسية والموقع سنة 1953: «يرجع أصل الخزف بآسفي إلى فترة جد متأخرة، ومن المحتمل جدا أن يكون أصل أول صناع الخزف بحارة أقاموا منذ أكثر من ستة قرون على مصب وادي الشعبة، وخلال هذه الفترة الغابرة كانوا يستعملون بفضل التجربة غير الخاضعة لقاعدة نظرية، الخزف والطين المحلي في صناعة خزفيات مشتركة للاستعمال العائلي، ولم تكن منتجاتهم الطينية لا بالملونة ولا بالمزخرفة. شيئا فشيئا عمد الصناع الأوائل إلى صنع وإنتاج زهريات وأواني خزفية موحدة اللون، وخلال هذه الفترة أبدعوا ربما المربعات الطينية المستعملة على الجدران. بعد هذا التاريخ بفترة طويلة -منذ حوالي 150 سنة- حل بآسفي عامل من أصل فاسي دون اسمه وحفظته أخبار أوائل الصناع الخزفيين، إنه الحاج عبد السلام اللانكاسي، وقد كان دخوله مدينة آسفي من أجل قضية تتعلق بالإرث، وشاءت الظروف أن يستقر بالمدينة قبل أن يفد عليه عدد من صناع الخزف من فاس، حيث أقاموا على ضفة وادي الشعبة، ويرجع إليهم الفضل في إدخال ونشر تقنيات التزيين والأشكال المتفرعة عن الفن الخزفي الفاسي. وهكذا عرف خزف آسفي الذي كان مزخرفا بشكل دقيق ومتعدد الألوان شهرة كبيرة وامتدت مساحة بيعه إلى نطاق واسع في الجنوب، وهي الفترة التي امتدت إلى حوالي 100 سنة، ليعرف الخزف وصناعته تراجعا بسبب الظروف السياسية غير المستقرة وحالات العصيان التي عرفها المغرب التي منعت أي شكل من أشكال التواصل بين الشمال والجنوب وبين آسفيوفاس، مما دفع مجموعة صناع فاس إلى التراجع والانمحاء. وأمام هذا الوضع، أجبر صناع آسفي، الذين كانوا محرومين من المواد الملونة المشكلة من أوكسيد الحديد ومنغنزيوم تافيلالت المتواجدة بالسوق التجارية الفاسية، على استعمال اللونين الأبيض والأزرق، لأن المواد الملونة الزرقاء كانت سهلة المنال، هي الآتية من إنجلترا عن طريق البواخر التجارية التي كانت ترسو بميناء آسفي. يجب القول بأنه مع تثبيت نظام الحماية بالمغرب كانت الصناعة الخزفية بآسفي قد وصلت إلى درجة خطيرة من الانحطاط بسبب قلة اليد العاملة وصعوبة الظروف المادية غير المستقرة التي كان يشتغل فيها الصناع، مما أفقد الأساليب المستعملة في هذا الفن قيمتها. وكان المارشال ليوطي (معروف عليه اهتمامه بصيانة فن الخزف) قد كلف مصلحة الفنون الجميلة، التي كانت ملحقة إليها إدارة الفنون الأهلية حاليا، بتجديد وإصلاح فن الخزف بآسفي، وهو ما مكن هذه المصلحة من دعوة السيد العملي، معلم السيراميك والتلميذ السابق بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر والمتدرب السابق بسيرف الفرنسية، إلى الإشراف على خزف آسفي كتقني ومنشط للورشة الرائدة (أول ورشة رائدة بالمغرب) من 1918 إلى 1935. ومشهود للسيد بوجمعة العملي مجهوده في الحفاظ على فن الخزف بآسفي وتجديده وإغناءه، وبالإضافة إلى عمله في البحث على خزف آسفي القديم من أجل الاطلاع عليه والرجوع إلى أصوله، دأب دائما إلى تنبيه الصناع بضرورة تنقية وتصفية الطين المحلي من الشوائب. واستطاع العملي تلقين وتعليم فنون الخزف لعدد كبير من التلاميذ بالفصل التعليمي الذي كان مفتوحا بالموافقة التامة للإدارة، فاستطاع أن يعلم تلامذته أن يديروا ويرسموا الأشكال الهندسية التقليدية بدون الحاجة إلى بركار، وجدد في موضوعات الشكل من غير إفساد لروح المنتوج الخزفي، وقد سبقت تصفية الأشكال المتواجدة والمثقلة والآخذة في طريق الانمحاء عملية تدقيق للطلاء الخزفي المناسب والبديل، وهكذا تم تجديد وتصفية وإغناء الطين وطرق التزيين والبرنيق. أخيرا، ومع منح خزف آسفي شكل الانعكاسات المعدنية التي فقد سرها مع القرن الرابع عشر ولم تتم استعادتها إلا بعد أبحاث طويلة ومتأنية، استطاع المعلم بوجمعة العملي أن يعطي لهذا الميدان الإشعاع الذي جعل في السابق أوراش خزف الفرس وسيسيليا وما بين النهرين في العراق وإسبانيا مشهورة وذائعة الصيت، ولا يمكن حاليا سوى لأصفهان الإيرانية أن تأخذ كبرياءها من صناعتها ومكانتها بينهم. إن المجموعة الرائعة واللافتة للنظر المجتمعة بالمصالح البلدية للمدينة، وهي تتجاور مع أشكال التزيين والصباغات الزرقاء والبيضاء القديمة وأشكال هندسية مجددة ومتعددة الألوان، هذا إضافة إلى الصحون والكؤوس والزهريات والأقداح ومنفضات السجائر... إنما تشهد كلها على النتائج البارزة التي تحققت خلال هذه الفترة من التجديد والإصلاح لورش الدولة. ولعل في المجموعة الخاصة من أعمال السيد بوجمعة العملي والمتواجدة بالقشلة والقصر البرتغالي بآسفي ما يدفع إلى فضول محلي وجب على السائح النوعي معرفته والاطلاع عليه، هي المشكلة من مجموعة من القطع كلها فريدة ورائعة، ولقد كانت في مشاركة خزف آسفي منذ سنة 1922 بالمعارض المغربية والفرنسية والدولية ما يكفي لجعل شهرته تتجاوز مجال شمال إفريقيا. إلى ذلك، فقد استعملت المصنوعات الخزفية الآسفية في تكسية الجدران، وهي التقنية التي تم كذلك تجديدها وإعطاؤها أهمية خاصة وبرزت بشكل كبير في واجهات البنايات الإدارية والخاصة، وعليها يمكن مشاهدة البرنيق على القرميد الأخضر لآسفي. إن تصنيف تل الخزف في عداد الآثار مكن من حفظ أمكنة هذا الفن التي مازالت حية إلى يومنا، مما يدفع إلى القول بضرورة إعادة تنظيم وترتيب اتحادية الخزف نظرا لما يعانيه سوق البيع من تراجع، هو عام على كل حال، سينتهي يوم ترتبط الإدارة العليا في علاقة مع الهيئات الخارجية من أجل تأمين أسواق ضرورية للمنتجات الخزفية المحلية»، انتهى مقال روني كريميو. لقد قارب الكاتب بحذر رسم الملامح التاريخية الأولى لهذا الفن، متسلحا بالمقومات الموضوعية والفرضيات العلمية المطلوبة، وتابعنا كيف استطاع روني كريميو أن يحدد مسؤوليات كل فاعل عبر التاريخ ساهم في صناعة هذا الفن وإغنائه، ولم يكن دور مدينة فاس سوى حلقة بارزة انتهت مع مرحلة معينة بسبب الظروف السياسية المضطربة التي عاشها المغرب، وهي على كل حال ليست سوى بصمة ضمن عدة بصمات بشرية وإدارية ومناخية أسست لفن الخزف بآسفي. والمثير أنه حتى المؤرخ المغربي محمد الكانوني، رغم ما عرف عليه من إلمام واسع بتاريخ المجال، لم يعر موضوع الخزف الأهمية اللائقة به، واكتفى في كتابه، الذي صدر في الثلاثينيات، بأن يضمه ضمن باب الحالة الاقتصادية ويقول في فقرة من كتابه «آسفي وما إليه»: «يوجد بآسفي من الصناعات والحرف ما تتوقف عليه ضروريات العمران، ففيها صناعة الخزف والفخار، وهذه الصناعة، أعني الفخار، من أكبر مميزات آسفي، فلقد حازت فيه أجمل ذكر وأجل إكبار بوجود تربتها الطينية، فسارت بذكر أوانيها الركبان وزينت بها المتاحف والبيوت... وهي من الصناعات القديمة بآسفي، صرح بعض المؤرخين الإفرنجيين بأنها وجدت بآسفي منذ الفينيقيين قبل الميلاد المسيح بقرون». ومع هذا، فقد قدم روني كريميو عدة تفسيرات تاريخية مقنعة، منها سبب استعمال خزف آسفي وتخصصه في اللونين الأبيض والأزرق، وقد كان ذلك راجعا إلى حالة الحصار بين شمال المغرب وجنوبه، مما دفع الصناع إلى الاكتفاء باللون الأبيض مع الأزرق الآتي من إنجلترا عن طريق البحر. وتكلم روني أيضا عن الدور البارز للمعلم بوجمعة العملي خريج مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر والفنان الرائد في صناعة خزفية فاقت شهرتها كل أنحاء العالم، وأصبحت معه قطعه تشكل ثروة حقيقية نادرة لمن يمتلكها، ووصل الأمر إلى حد أن الآسفيين أصبحوا يطلقون على الخزف اسم العملي في إشارة لسانية رمزية وعفوية إلى مكانة الرجل في تاريخ هذا الفن. لقد ذكر روني كريميو في مقاله وجود مجموعة نادرة من التحف الخزفية موقعة باسم بوجمعة العملي معروضة ببهو بلدية آسفي، وهي المجموعة التي اختفت في فترات زمنية متفرقة، حتى بقيت أماكنها فارغة حتى اليوم دون تقص في مصيرها، كما أن خزفيات العملي التي تعرض حاليا بأشهر المزادات العلنية بباريس ولندن ومدريد والدار البيضاء، عرفت حالات تزييف كبرى وصلت إلى حد تعويض تحف حقيقية له بأخرى مزيفة، هي الآن معروضة بأحد أكبر متاحف الخزف لوزارة الثقافة بآسفي. اليوم هناك قرار من وزارة العدل بهدم وإعادة بناء مقر محكمة الأسرة بمدينة آسفي، وهي البناية التاريخية التي تزينها مئات قطع القرميد الأخضر من صنع المعلم بوجمعة العملي نهاية الثلاثينيات، ولعل الوزارة برغبتها في الإصلاح تجهل أن تلك القطع من القرميد تساوي عشرات الملايين، وهي نفسها المبالغ التي يتنافس حتى اليوم كبار أثرياء المغرب والأجانب على صرفها، فقط لحيازة وامتلاك خزفيات بوجمعة العملي التي حملتها الندرة إلى مصاف ندرة أحجار الماس.