أخيرا، اعترف عبد الإله بن كيران بأن المغرب لم يقطع مع عهد الفساد والاستبداد. إنه اعتراف خطير ومفاجئ لأننا كنا نعتقد أن الفساد والاستبداد غادرا المغرب بشكل نهائي، وأنه في ظرف أيام أو أسابيع سيطلع علينا رئيس الحكومة لكي يقول إننا وألمانيا صرنا سواسية كأسنان المشط.. ثم نقرأ الفاتحة سوية على روح عهد «السّيبة». مشكلتنا مع بن كيران تشبه مشكلته هو مع التماسيح والعفاريت، فهو يتحدث عن هذه الكائنات من دون أن يراها أو يحددها، ونحن نسمع عن محاربته للفساد من دون أن نرى ذلك أو نحدده. نحن، إذن، نعاني من نفس المرض، أي نسمع عن أشياء لا نراها. كنا نعتقد أن بن كيران لم يبدأ في محاربة الفساد والاستبداد، وفي كل مرة «يضْبرُنا» صبرنا نجد للرجل أعذاره ونقول إن «ماشي واحدة اللّي فالرّاس»، وأنه سيأتي يوم سيشمر فيه عن ساعد الجد ويمسك سيف علي ويقول للفاسدين «والآن.. إما بيّا ولاّ بيكُم»، لكن يبدو أن المشكلة أعوص من ذلك بكثير، لأننا لم نكن نعرف بأنه بدأ أصلا في محاربة الفساد، ثم يخبرنا بأن الفساد والاستبداد لم ينتهيا بعد، وكأنه كان يُشرك الليل مع النهار في مطاردة الفاسدين، وأن كل ما تبقى له حفنة من الفلول التي تستعصي على الهزيمة. كل ما سمعناه، منذ أن وصل بن كيران إلى رئاسة الحكومة، هو أن وعد بمحاربة الفساد، لذلك توجه رأسا نحو جيوب المغاربة البسطاء وزاد في أسعار المحروقات، «فكمّدناها» وقلنا ربما هذا الرجل اللطيف يخفي مفاجأة مدوية للفاسدين، لذلك لا بأس أن يتراجع خطوة ليزيد خطوتين، ثم كشف عن لائحة قزمة للفساد تضم المستفيدين من ريع رخص النقل، فقلنا هذه هي البداية، ومن الأكيد أن الرجل سيفجر فضائح كبرى في المستقبل القريب، فجاءت المفاجأة سريعا حين قرر إلغاء صندوق المقاصة، وهو صندوق، يقال والله أعلم، إنه كان يسند القوة الشرائية للفقراء، لكنه تحول إلى زيادة الشحم في أكتاف الأغنياء، ومع ذلك قال الناس إن يوم محاربة الفساد آت لا ريب فيه، فجاءت المفاجأة المذهلة حين أصدر بن كيران عفوه الشامل عن الفاسدين بعبارة «عفا الله عما سلف»، فقرر الناس أن ينسوا حكاية الربيع العربي ومشتقاته. لو أن بن كيران صمت وقرر أن يمارس مهامه الوظيفية مثلما مارسها قبله وزراء أولون سابقون فلن نلومه بعد اليوم على شيء لأننا فهمنا الآن المعنى الحقيقي لعبارة «الاستثناء المغربي»، لكن مشكلة الرجل أنه يذكرنا بين الفينة والأخرى بأنه يحارب الفساد فيكون ذلك بمثابة رش الملح على جرحنا الكبير. كنا نتمنى فقط أن يتركنا ننسى.. ننسى أننا استثناء شاذ في عالم ينبذ الفساد. كل ما نريده من بن كيران هو أن يخبرنا عندما يقرر الشروع في محاربة الفساد لكي نكون على بينة عندما يخبرنا في النهاية بأنه نجح أو فشل في ذلك، أما اليوم فإننا لا نتذكر أنه قام يوما بمبادرة حقيقية في هذا الاتجاه، وكل ما سمعناه هو أنه قرر يوما أن يكون شجاعا فوق العادة فسمى الفاسدين الكبار بالتماسيح والعفاريت، ثم انتهى كل شيء، وكأن هذه «القيامة» في العالم العربي لم نكن نستحق منها سوى رجل يصل إلى رئاسة الحكومة بدستور جديد ثم يبدأ في الحديث بالألغاز. سوف نحترم بن كيران أكثر لو أنه اعترف بأنه يمارس نفس الدور الذي لعبه من قبل عباس الفاسي أو ادريس جطو، وحتى عبد الرحمن اليوسفي. وسنحترمه أكثر لو أنه قرر يوما أن يرمي «السّوارْت» ويقول للمغاربة إن محاربة الفساد مستحيلة، وأنه سيعود إلى حيث كان، وعلى الحاكمين الحقيقيين أن يبحثوا لهم عن موظف غيره. لكننا اليوم لا نعرف هل نحترمه أم نشفق عليه أم ندعو له بالهداية وهو يخبرنا بأن الفساد والاستبداد لا يزالان في المغرب. ما فعله معنا بن كيران يشبه حال تلك المرأة التي جاءت تخبر الناس بأنها تطلقت، فأجابوها بأنهم لا يعرفون أصلا أنها كانت متزوجة. أخبرنا يا رجل متى ستبدأ في محاربة الفساد حتى ندعو لك بالتوفيق وحسن الخاتمة.