يعود اهتمام المغرب، وتطوان خصوصا، بالقضية الفلسطينية إلى سنة 1928 عندما التحق أفراد النخبة التطوانية للدراسة بفلسطين بمدرسة “النجاح” بنابلس. كانت فلسطين لاتزال حينها ترزح تحت الاحتلال البريطاني، فكان من باب الوطنية أن يتولد الاهتمام بالأحداث التي تعيشها الدولة الفلسطينية، بسبب نشوب خلافات متعددة بين العرب واليهود الذين كانوا يحظون بحماية قوات الاحتلال البريطاني. ويعتبر المرحوم الطيب بنونة أول من سافر إلى فلسطين بمفرده للدراسة هناك سنة 1928، “كان والدي الحاج عبد السلام بنونة في رحلة إلى أوربا وتطرق مع عدد من رفاقه لموضوع الدراسة، فاتصل بالأمير شكيب أرسلان، فشجع هذا الأخير فكرة الذهاب إلى الشرق للدراسة، باعتبار أن هناك دراسة دينية وقيمة عكس ما كان يحدث في تطوان أيام الحماية الإسبانية”، يقول أبو بكر بنونة في لقاء له مع “المساء”. بعد الطيب، ستتوجه أول بعثة من مدينة تطوان للدراسة بمدينة نابلس بفلسطين، تتكون من المهدي بنونة، وأخيه إدريس وعدد آخر من شباب تطوان، كما انضم إليهم عبد المجيد حجي من مدينة سلا. وشكلت القضية الفلسطينية محور اهتمام المغاربة منذ ذلك الحين، حيث قرر حزب الإصلاح الوطني المشاركة في أعمال المؤتمر الإسلامي العام المنعقد في القاهرة للبحث في قضية فلسطين، وشارك الحزب بوفد كبير ضم رئيس الحزب عبد الخالق الطريس، وكاتبه العام الطيب بنونة، خصوصا وأن هذه “القضية مقدسة”، يقول أبو بكر بنونة، مضيفا أنها “كانت تطغى على اهتمام الحركة الوطنية بشمال المغرب حتى قبل خروج الحزب إلى حيز الوجود”. وفي هذا النطاق، تدخل العناية التي حظي بها حينها مندوب فلسطين الأديب الصحافي الطاهر الفتياني من طرف رجالات الحزب خلال زيارته للمنطقة. ويكتب الطيب بنونة بتاريخ 30 شتنبر من سنة 1938 رسالة إلى الأمير شكيب أرسلان اطلعت عليها “المساء”، يقول فيها إن “هناك ثلاثة عوامل دفعته إلى القيام بزيارة مصر، أولها تلبية دعوة اللجنة البرلمانية للدفاع عن قضية فلسطين، حيث سيمثل الشعب المغربي في المؤتمر”. دفاع مغاربة فلسطين عن القضية الفلسطينية لم يكن ينبع من فراغ، فرغم رزوحهم تحت الاحتلال الإسباني، فإن قضية فلسطين كانت تشكل محور اهتماماتهم وأولوية لدى الحركة الوطنية بشمال المغرب. ويقول محدثنا إن عائلات تطوانية مختلفة استقرت بفلسطين أشهرها عائلة الخطيب، حيث انتقلوا للعيش هناك بعدما كانوا قد توجهوا للدراسة. وسكنت أغلب الأسر المغربية حينها في حارة المغاربة، لكن بعد تفرق شمل العائلات المغربية بات التواصل الاجتماعي صعبا عليهم، وحتى القليلون منهم الذين بقوا قرب الحارة، أجبرتهم الظروف السيئة للغاية على الرحيل، ظروف لم تتوقف عند حد الأضرار التي لحقت بيوتهم، نتيجة منع قوات الاحتلال الإسرائيلي السماح لهم بترميمها أو هدمها وتأسيس غيرها. أصبح المغاربة يتحدثون اللهجة الفلسطينية أيضا، غير أنهم بقوا محافظين على أصولهم المغربية وأوراقهم الرسمية القديمة التي تحفظ لهم حقوقهم على أمل استعادتها في يوم من الأيام والتئام شملهم من جديد، حيث ضمت الحارة فلسطينيين من القرى والبلدات الفلسطينية من الذين اندمجوا مع المغاربة وكونوا أسرا وعائلات متعددة. أيام قليلة مرت بعد نكسة سنة 1967، تهاوى الجزء الشرقي من مدينة القدس في قبضة الاحتلال الصهيوني، فتم هدم أجزاء من المدينة، وكانت البداية على يد أبراهام شتيرن، الذي أصدر أوامره لموشي ديان بضرورة توسيع المكان عند حائط البراق (حائط المبكى)، الذي كان من المتوقع أن يستقبل خلال أيام آلاف اليهود في عيد نزول التوراة. فما كان من دايان سوى تنفيذ الأوامر، وشرع يوم 10 يونيو في هدم بعض المراحيض التي التصقت بالحائط، فأصبحت الحارة التي أطلق عليها المقدسيون «حارة المغاربة» لما يزيد على 774 عاما، أثرا بعد عين، حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بإجبار السكان على الخروج من المنطقة، وقامت جرافاتهم بهدم 138 بناية، بالإضافة إلى جامع البراق وجامع المغاربة، وكذلك المدرسة الأفضلية وزاوية أبي مدين ومقام الشيخ والزاوية الفخرية، معلنة بذلك مسح وشطب ثمانية قرون من تاريخ القدس أرخت لتشبث المغاربة بحارتهم. لكن رغم اندثار الحارة وشطبها من على خارطة القدس، إلا أنها بقيت بكل تفاصيلها بأزقتها وشرفاتها عالقة في ذاكرة سكانها المغاربة، الذين هُجروا منها قسرا، وباتت شوارع وأزقة الحارة محرمة على الجميع إلا على الإسرائيليين، الذين حولوا تفاصيلها إلى حائط المبكى، الرمز الأساسي لديانتهم وصلواتهم. في الجزء الرابع من وثائق آل بنونة، نجد عددا من مقالات الصحف التي كانت تغطي أخبار اهتمام سكان الشمال بالقضية الفلسطينية، كالرسالة التي بعثها سنة 1938 عبد الخالق الطريس إلى اللورد هاليفاكس، وزير خارجية إنجلترا، يبلغه فيها «استياء سكان المغرب الأقصى من السياسة الشاذة التي تتبعها إنجلترا في الديار الفلسطينية وتقديمها هدية سائغة للصهيونية الدولية»، ويحتج عبد الخالق الطريس، بصفته رئيس حزب الإصلاح، في الرسالة ذاتها، «ضد محاولة تكوين الوطن اليهودي بفلسطين أو تقسيمها لمصلحة الصهيونية». لقد كان العمل لنصرة فلسطين من أوجب الواجبات الدينية والدنيوية، يقول أبو بكر بنونة، فتضامن المغاربة وسكان الشمال منذ سنة 1938، كان هو «الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها إنقاذ الشعب الفلسطيني ودفع كابوس الضيق والألم عنهم». وهو نفس الانطباع الذي أكده عبد الخالق الطريس أثناء كلمته في المؤتمر البرلماني العربي المنعقد سنة 1938 بالقاهرة. وتجمع أغلب عائلات مغاربة فلسطين، والتي عادت فيما بعد إلى تطوان، على أن تضحيات المغاربة في سبيل نصرة القضية الفلسطينية كانت جسيمة للغاية، ففي 6 مارس من سنة 1939، وجه حزب الإصلاح الوطني رسالة إلى المقيم العام الإسباني بتطوان، خوان بيكبدر، يقول له فيها إنه جمع إعانة لمنكوبي فلسطين، «كبرهان على مشاركة الأمة العربية لإخوانها المسلمين في آلامهم ومصائبهم»، وكان الحزب قد تمكن حينها من جمع 200 جنيه إنجليزي. توصل حزب الإصلاح آنذاك بكتاب من لجنة إعانة منكوبي فلسطين تخبر بحاجتها الشديدة إلى استلام المبلغ. مما أدى به إلى تقديم طلب للمقيم العام الإسباني من أجل السماح له بتغيير العملة الإسبانية إلى الجنيه حتى يتم إرسالها إلى فلسطين. الأمر الذي تحقق فيما بعد، كما بدأت عائلات المغاربة المتواجدين في فلسطين بتنظيم وقفات داخل تطوان لنصرة فلسطين وتنظيم حملة لجمع التبرعات لفائدة ضحايا ومنكوبي فلسطين، ألقى حينها الطيب بنونة كلمة للتعريف بالقضية الفلسطينية، منددا «بتشريد الأسر الفلسطينية وإطلاق النار على الأبرياء وتشويه أجسام الشهداء وتهديم بيوت الله»، وهو الأمر لم يتغير إلى يومنا هذا. وقبل 70 سنة، في يوم فلسطين، رفعت اللجنة التنفيذية لحزب الإصلاح الوطني بالمغرب رسالتين خطيتين إلى وزارة الخارجية البريطانية تندد فيهما ب«السياسة الصهيونية الاستعمارية التي تنهجها بريطانيا في أرض فلسطين المقدسة»، كما دعت الرسالتان إلى «احترام مقدسات الإسلام وإعطاء العرب حقوقهم كاملة» حتى يعود السلم إلى تلك الربوع، مثلما دعت إلى مساعدة المجاهدين الفلسطينيين «حتى يتحقق النصر». في نفس اليوم اجتمع آلاف المغاربة في مساجد المنطقة الخليفية بشمال المغرب، حيث «أكدوا أحقية الجهاد المقدس في فلسطين». وحسب من التقت بهم «المساء»، فإن تضحيات مغاربة فلسطين وعائلاتهم في تطوان من أجل نصرة القضية مست حتى طقوس الأعياد، إذ اقترح العديد من المواطنين الاستغناء عن ارتداء الملابس الجديدة في الأعياد، إعلانا لألمهم وحدادهم على الشعب الفلسطيني، الأمر الذي لم يرق الإقامة العامة الفرنسية، إذ أذاعت بلاغا ضد الشكل التضامني غير المسبوق في تاريخ المغرب. ويقول أبو بكر بنونة إنه في سنة 1947 في مصر، وأثناء تأسيس مكتب المغرب العربي للأنباء من طرف المهدي بنونة، ذكر الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة للأمين العام لجامعة الدول العربية حينها، أنه من الضروري أن تتخذ جامعة الدول العربية موقفا صارما بشأن الاحتلال الأجنبي لشمال المغرب، فرد عليه الأمين العام عبد الرحمان العزام بالقول: «امنحني مهلة شهر أو شهرين، حيث سنحل قضية فلسطين وبعدها سنهتم بالاحتلال الإسباني لشمال المغرب». شمال المغرب استقل سنوات بعد ذلك، لكن قضية فلسطين مازالت تراوح مكانها منذ أكثر من 90 عاما، حيث الآلة الصهيونية القاتلة مازالت تفتك إلى حدود اليوم بأطفال ونساء وشيوخ فلسطين وسط صمت عربي ودولي رهيب.