في السنوات الأولى التي أعقبت حصول المغرب على الاستقلال، كان الجو مشحونا ومفتوحا على كل الاحتمالات، يومها، كان جميع الفاعلين على الخريطة السياسية المغربية يريدون الإمساك بزمام السلطة والبحث عن المناصب في مغرب ما يزال راغبا في استكمال وحدته الترابية والتخلص من سيطرة الاستعمار على كل هياكل الدولة. انشغل الفرقاء السياسيون بإشكالية تقاسم السلطة، وبدأت لعبة «موازين القوى» تتشابك بين المؤسسة الملكية من جهة والأحزاب السياسية بزعامة حزب الاستقلال من جهة أخرى، وهي اللعبة التي أشعلت الكثير من الحروب الجانبية وأسقطت الكثير من الحكومات، بل بلغت ذروتها حينما شرع حزب «علال» في التغلغل إلى مفاصل الدولة. بطبيعة الحال، أدركت المؤسسة الملكية أنها مطوقة من كل الجهات: حزب الاستقلال بزعمائه التاريخيين يسعون بكل الوسائل المتاحة إلى فرض الهيمنة على الدولة، وهامش يغلي، يحمل في ذهنه تصورات مدموغة بالتفاؤل من مستقبل المغرب بعيدا عن حجر الاستعمار. في غمرة كل هذا الغبار الكثيف الذي أحاط بتلك المرحلة، كان الريفيون ينتظرون أن ينالوا حصتهم من التنمية ومن الإدماج في الإدارة العمومية، طموح كان يغذيه الانتماء إلى المدرسة الخطابية التي ما تزال طرية في الأذهان ومازالت الرواية الشفوية تتواتر عن بطولاته في الكفاح ضد المستعمر وعن اللدغات والخيانات التي تلقاها من كل الأطراف، بداية بالأحزاب السياسية ومرورا بموقف السلطان من حركته ووصولا إلى الزوايا، التي لعبت دورا مهما في تقويض جهود ابن عبد الكريم في دحر الغزاة. في هذا الجو المشحون، خرج المغرب من معاهدة «إيكس ليبان» مسكونا بهاجس بناء الدولة الحديثة وطامحا إلى تجاوز الصراعات السياسية الطاحنة التي بدأت تنشأ بين حزب الاستقلال والمؤسسة الملكية وما فتئ هذا الصراع ينحو صوب السيطرة على المشهد السياسي برمته. من هنا قد نفهم بعض مواقف علال الفاسي المناوئة للتوجهات العامة للمؤسسة الملكية. اتقد الصراع وحاولت الملكية أن تخلق أحزابا جديدة تقلم أظافر «الحزب العتيد»، وعلى هذا المنوال ظهر حزب الحركة الشعبية بزعامة المحجوبي أحرضان. والحال أن الريف لم يكن بعيدا عن هذا التدافع السياسي المحموم، وحاولت كل الأحزاب أن تبسط سيطرتها على المنطقة. ولذلك، تذهب الكثير من المصادر التاريخية إلى القول إن الخطيب وأحرضان، بمعية حدو أبرقاش، أول كاتب عام لحزب الحركة الشعبية، كان لهم دور كبير في إشعال فتيل الأحداث في الريف سنتي 1958-1959، علاوة على دور الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان وليا للعهد وقتئذ، في شن هجوم عنيف راح ضحيته المئات من أبناء الريف. مهما تكن التخمينات، فإن الثابت أن الريفيين، الذين يمتلكون رصيدا كبيرا في محاربة المستعمر، وجدوا أنفسهم في مواجهة الفقر والبطالة في مغرب الاستقلال، وهي عوامل كانت كافية ليثور سكان المنطقة لكن بمطالب اجتماعية وسياسية يقول بعض المؤرخين إنها جاءت مباشرة بعد اغتيال عباس المساعدي وحدو أقشيش، أحد أبرز وجوه جيش التحرير المغربي في خمسينيات القرن الماضي، خاصة وأن أصابع الاتهام كانت تشير إلى ما يسمى في بعض كتاب التاريخ ب«ميليشيات حزب الاستقلال» فيما يقول البعض الآخر إن رماد الثورة بالريف كان خامدا ينتظر الفرصة للاشتعال من جديد أما الحسن الثاني فقد سماها في كتابه «ذاكرة ملك» التمرد الفكري الرامي إلى إحداث قلاقل سياسية. على العموم، فإن انتفاضة أو ثورة الريف التي تزعمها محمد الحاج سلام أمزيان، أجهضت في بداياتها الأولى عبر دك المناطق الريفية بالطائرات وشتى الأسلحة، والحصيلة: مئات القتلى واغتصاب النساء واختطاف المئات من دون محاكمة، وتعذيب دشن مرحلة الحكم الأولى لمحمد الخامس بعد نيل المملكة الشريفة استقلالها. في هذا الملف، تعيد «المساء» تركيب وقائع أحداث الريف لسنة 1958-1959، وترصد أهم الفاعلين فيها، متوسلة بشهادات لرجال عايشوا المرحلة وأبناء المرحوم محمد الحاج سلام أمزيان. في الملف كذلك مذكرات تنشر لأول مرة، يسرد فيها قائد ثورة الريف لسنة 1958-1959، كيف تدخل الجيش المغربي في الريف وعن دور ما يسميه ب«الحزبية» في إذكاء شرارة الأحداث ومحاصرة الريف.