سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
علماء النبات المغاربة يقدمون للبشرية بديلا ممكنا عن الأدوية المعاصرة خبراء يؤكدون أن توظيف علوم النبات يمكن من تحقيق الأمن الدوائي والصحي وحتى الأمن الاقتصادي ببلادنا
على مر الحضارات التي تعاقبت على تاريخ المغرب القديم والوسيط، كان أجدادنا المغاربة يبدعون في مجالات مختلفة، ويقدمون أمثلة عديدة على التطور الكبير الذي حققوه في مجالات الطب والعمارة والبناء والعلوم والأدب والشعر، في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال غارقة في بحر من الجهل والتخلف والأمراض، وهذا ما دفع بعدد من العلماء الأوروبيين الى ترجمة أعمال الأطباء والعلماء المغاربة ومحاولة الاستفادة منها، في أوروبا، وكمثال بسيط على ذلك، فإن جامعة القرويين لعبت دورا كبيرا في انتشار العلوم والأرقام العربية إلى ربوع أوروبا... في هذا الخاص نتوقف لنلقي الضوء على أبرز مفاخر المغرب المنسية التي قد لا يعرف عنها الجيل الحالي أي شيء تقريبا.. إتماما لما بدأناه في الحلقة السابقة من تعريف بجهود علماء النبات والصيادلة المغاربة، نواصل فيما يلي تقديم أهم المؤلفات في هذه المجالات دون أن نغفل الإشارة إلى أنها ليست منفردة في بابها وأن جهود النباتيين المغاربة أفضت إلى إنتاج عشرات الكتب والرسائل، ولكننا سنقتصر على ذكر بعضها مع التنبيه إلى أن أبحاث النبات المغربية كانت أبحاثا وظيفية غايتها تطوير علوم الصيدلة والطب والرقي بالعادات الغذائية وتهذيبها، فضلا عن تحسين الإنتاج الزراعي وربط علم النبات بمجال الصناعة من خلال وصف الأدوار الصناعية لبعض النباتات والمزروعات. عمدة الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب يظلل الغموض الكثير من جوانب حياة أبي الخير الإشبيلي فلا يعرف تحديدا تاريخ ميلاده ووفاته، ولكن هناك من الإشارات ما يكفي للقول بأنه عاش بإشبيلية في زمن المعتمد وفي زمن الحكم المرابطي بعد سقوط إمارة بني عباد. وكتاب «عمدة الطبيب في معرفة النبات» واحد من أهم الكتب التي تبحث في الاستعمال الطبي للنبات، ولا عجب أن يبلغ فيه أبو الخير الغاية وأن يصير مرجعا لمن بعده من الأطباء والنباتيين، فقد ولد بالأندلس التي قال عنها الحموي: «لا تقع العين بها إلا على حقول ناضرة ورياض غناء ومراع واسعة وأنهار جارية»، وكما أن الشاعر ابن بيئته فالعالم كذلك ابن بيئته، فكان من البديهي أن يتأثر أبو الخير بالطبيعة وأن ينجذب إليها. اهتم أبو الخير في العمدة بوصف أجناس النبات وخصائصه، وطاف بالكثير من الأقطار لمعاينة أصناف أخرى من النبات غير تلك الموجودة بالأندلس، ومن المهم أن نشير في هذا السياق إلى أن أبا الخير التفت مبكرا إلى توظيف المخزون الثقافي والتراثي للأقطار التي أمها في خدمة الطب، فكان كما أشار في «العمدة» يسأل بعض شيوخ المرابطين والمصامدة والأعراب عن أهمية بعض الأعشاب كالقتاد والتيكوت ويدون ذلك أثناء تجوله بأغمات ومراكش وغيرها من مدن المغرب الأقصى، فجاء كتابه فريدا في بابه شاملا للكثير من الأصناف النباتية، وقد اجتهد أبو الخير في تقديم معلومات مفصلة عن كل نبات من النباتات التي أشار إليها في كتابه، تشمل اسم النبات وجنسه واستعمالاته الدوائية دون إغفال الحديث عن المقادير اللازمة من كل نبات أثناء الاستعمال العلاجي يقول مثلا في مادة «الجلبهنك» «يقيء بشدة وينفع المفلوجين، الشربة منه درهم وإن شرب منه أكثر قتل» و»العمدة» إضافة إلى ما تقدم يضم 1739 مادة نباتية ودوائية مرتبة على حروف المعجم وهو عدد ضخم يجعل من هذا الكتاب موسوعة حقيقية في علم النبات. كتاب في الأدوية المفردة لهذا الكتاب أسماء عديدة تتشابه فيما بينها، وهو من تأليف أبي جعفر محمد بن السيد الغافقي، أحد أهم علماء النبات في المائة السادسة، قال عنه سارتون «أعظم خبراء زمانه في الأدوية المعالجة، وكان الأكثر دقة ممن وصفوا النباتات في الحضارة الإسلامية وقد أعطى كل نبات ثلاثة أسماء عربية ولاتينية وبربرية». وقد عد كتابه هذا من المراجع الأساسية التي اعتمد عليها ابن البيطار في أبحاثه، حتى إنه كان لا يستغني عنه في حله وترحاله، كما ظل مرجعا لا غنى عنه لكل النباتيين على مدى ثمانية قرون من تأليفه، ومن خصوصيات هذا الكتاب التي امتاز بها عن سائر المؤلفات في علم النبات والصيدلة النباتية أنه يهتم بوصف النباتات بدقة متناهية إلى درجة أنه يصف رائحتها أحيانا، يقول عن «هرنوه» «هو حب صغير أصغر من الفلفل تعلوه صفرة قليلة ويشم منه رائحة العود». ولا يكتفي الغافقي بالوصف اللغوي لنباتاته، بل يعزز ذلك برسومات توضيحية لأوراقها وجذورها وثمارها إن كانت من النباتات ذات الثمار، وهي في مجملها رسومات ملونة قريبة من الألوان الحقيقية مما يجعل الكتاب سهل الاستعمال عظيم الفائدة بالنسبة للمتخصصين وعامة القراء على حد سواء. ومن الإضافات التي يقدمها هذا الكتاب اهتمامه بعلم النبات الصناعي، إذ وردت فيه إشارات غاية في الأهمية إلى الاستخدامات الصناعية لبعض النباتات من قبيل وصف دور مستخلصات شقائق النعمان والصمغ في صيانة المخطوطات والكتب.
ضياء النبراس كان لكتاب ضياء النبراس دور هام في تخليص علم الطب من الكثير من الشوائب التي علقت به في عهود الانحطاط التي مر بها المغرب منذ سقوط الأندلس، وليس من قبيل الصدفة أن يقول هنري رونو المتخصص في تاريخ العلوم عن صاحب هذا الكتاب، عبد السلام بن محمد العلمي، أن جهوده مثلت لحظة مفصلية في تاريخ الطب بالمغرب فحكمه صادر عن إلمام عميق بأثر الطبيب العلمي من خلال «ضياء النبراس» خصوصا في إحداث طفرة هامة في علوم الطب بالمغرب. وقد عمد العلمي في كتابه هذا إلى فك رموز الاصطلاحات العلمية الغامضة في الطب والنبات وترجمتها وتقريبها من الأذهان، ثم انتقل إلى وصف خواص الأدوية وأثرها في العلاج، يقول في البصل «البصل ضد المسك، وحتى أنه من حصل له نزيف من شم المسك إما من الأنف أو من النفث يعالج بشم البصل فإنه يقطعه حالا». ويشير إضافة إلى ذلك إلى بعض القواعد العلمية العامة قائلا «لا يجتمع في البدن التهابان قويان في عضو لأن القاعدة أن يجذب الالتهاب القوي الضعيف». ويقول عن البنج «البنج الذي يغيب به المريض المسمى كلورفورم ويشم في مدة ثواني، والطبيب قابض للنبض أو طبيبان أو ثلاثة، وكل واحد يقبض نبضا، فإن ظهرت زيادة في النبض تبعد عنه القارورة، وإلا هلك المريض حالا». وقد لجأ العلمي في كتابه إلى تصنيف الأدوية وفق خواصها، فنجده، مثلا، يميز بين الأدوية القابضة التي تحدث انكماشا في الأعضاء، وبين الأدوية المنبهة التي تزيد من شدة الوظائف الحيوية في الجسم، وبين الأدوية المعرقة والمخدرة والمتسببة في القيء إلى غير ذلك من أنواع الدواء. هل فقدت أبحاث العلماء المغاربة بريقها؟ لقد صار من الأهمية بمكان أن نتساءل لماذا يستمر التداوي بالأعشاب رغم التقدم الذي تحرزه الصناعات الدوائية الكيماوية يوما بعد يوم؟ ولماذا تستمر الحاجة إلى الطب التقليدي في الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها؟ إن هذه الأسئلة تغدو أكثر إلحاحا كلما لمسنا عجز الصناعة الدوائية الحديثة عن تلبية حاجيات الإنسان المعاصر، وهو عجز مركب لأن الكثير من الأدوية ليست في متناول الشرائح المتوسطة والضعيفة الدخل بسبب غلاء ثمنها ومن ثمة لا تقدم حلولا عملية فعالة لمعضلة التطبيب في الأوساط الفقيرة، ومن جهة أخرى، فإن الكثير من المركبات الدوائية ذات الطبيعة الكيماوية غالبا ما تكون لها أضرار جانبية تجعل من تعاطيها مقدمة لإصابات مرضية أخرى، ومن هنا يصير البحث عن بدائل للعلاج الكيماوي أكثر إلحاحا، ووفق الإحصائيات فالعلاج التقليدي يغطي اليوم حاجيات ثمانين بالمائة من مجموع المرضى بالعالم، وفي أمريكا نفسها يلجأ خمسة وعشرون بالمائة من المرضى إلى الوسائل التقليدية، وعليه فإن الرجوع إلى اجتهادات المتقدمين في مجال علم النبات عمل لا يخلو من فائدة ليس فقط على المستوى الصحي وعلى مستوى الاستعمال الدوائي بل على المستوى الصناعي والاقتصادي كذلك. إن الغطاء النباتي المغربي اليوم واحد من أهم الأغطية النباتية في العالم بأسره، وقد أثبت الدكتور الحماموشي، رئيس معهد النباتات الطبية والعطرية بتاونات، بعد جهود ميدانية مضنية أن المغرب يتوفر على ثمانية وأربعين نوعا نباتيا تستعمل في علاج الأمعاء والجهاز الهضمي، وعلى ثلاثة وأربعين نوعا تستخدم في علاج آلام الطمث، وعلى اثنين وأربعين نوعا خاصة بعلاج أمراض القشرة وسقوط الشعر، وعلى ثمانية وعشرين نوعا صالحة لعلاج السكري والعديد من الأنواع الأخرى الخاصة بعلاج احتباس البول والزكام وآلام الرأس وغير ذلك من الأمراض. إن من شأن استثمار هذا التنوع النباتي بالمغرب على ضوء ما توفره الأبحاث التاريخية والمعاصرة في علم النباتات أن يحقق العديد من المكتسبات إن على المستوى الاقتصادي أو على المستوى الطبي الصرف. وفي هذا السياق، يرى الدكتور الحماموشي أن الأبحاث الإثنونباتية والإثنوصيدلية قد سلطت الضوء على أهمية ثمانمائة نوع نباتي تستعمل في ستمائة وصفة، ونضيف هنا أن الآثار الاقتصادية للاستثمار في مجال النباتات الطبية والعطرية أوضح من أن نوضحها، فهذا النوع من الاستثمار لا يحقق للمغرب استقلاله الدوائي عن شركات تصنيع الأدوية الأجنبية وكفى، مع ما يتبع ذلك من توفير لنفقات استيراد الأدوية، ولا يجعل ثمن الأدوية في متناول كل الشرائح فقط، بالنظر إلى شساعة الفرق بين ثمن اقتنائها من الشركات الغربية وثمن تصنيعها محليا انطلاقا من النباتات المتوافرة في المجال النباتي المغربي، ولا تقتصر أهميته على توفير مناصب للشغل والتقليص من نسب البطالة، بل إنه يوفر عائدات ضخمة إذا ما تم ترشيده وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فلتر واحد من زيت الياسمين، على سبيل المثال لا الحصر، يصل ثمنه إلى مائة وثلاثين ألف درهم، ويصل ثمن لتر واحد من زيت الصبار إلى عشرة آلاف درهم ومعلوم أن المناخ المغربي مناخ ملائم لنمو النباتات التي تستخلص منها هذه الزيوت. هذه لمحة مقتضبة عن أهمية توظيف علوم النبات في تحقيق الإقلاع نحو الأمن الدوائي والصحي، ولمَ لا الأمن الاقتصادي نفسه ببلادنا، والواضح أن البحث الإثنونباتي والإثنوصيدلي، بتعبير الحماموشي، سيشكل قطب الرحى في عملية الإقلاع هذه متى صح العزم وتوفرت الإرادة، مما يتيح لنا أن نقول بأن «عمدة الطبيب» و»ضياء النبراس» و»حديقة الأزهار» وغيرها من أبحاث أجدادنا لما تفقد بريقها بعد. الإشعاع العلمي للطب المغربي في الشرق والغرب إن ممارسة الطب بالمعنى العلمي السليم لم تزدهر بأوربا إلا بعد احتكاكها بالغرب الإسلامي تحديدا، ونستطيع القول أن هجرة العلماء المغاربة وتنقلهم بين الأقطار الأوربية، واختيار ثلة منهم أوربا مكانا للإقامة الدائمة بعد هزيمة الموحدين بالأندلس، ينضاف إلى ذلك ظهور حركة الترجمة بالمدارس الأوربية وانتقال الأوربيين أنفسهم إلى مدارس الغرب الإسلامي للنهل من علومها ومعارفها، كل ذلك كان سببا في نهضة أوربا الطبية. نعم، لقد ساهم المغاربة في انتشال الغرب المسيحي من وهدة التخلف في ميدان الطب والصيدلة، ففي مدرسة ساليرن الإيطالية ساهم قسطنطين الإفريقي في ازدهار علوم الطب بفضل دراسته لكتب المغاربة وعمل على ترجمة بعضها وتدريسها، ومن بين تلك الكتب «زاد المسافر» لابن الجزار، واستفادت مدرسة مونبيليه الفرنسية من نزوح المسلمين واليهود بعد هزيمة الموحدين، وبها لمع نجم أرنو دي فيلنوف، وأرمنجو بلازن، وبيار دي كابستان وثلة من المستعربين الذين اهتموا بدراسة مؤلفات المغاربة والمشارقة المسلمين في الطب، يقول أستروك «من الصحيح أن مونبيليه علمت ولوقت طويل الطب الإسلامي لكن في الحقيقة لم يكن لها الاختيار» ومن مونبيليه وباريس انتقل الطب إلى كل أوربا، حتى إنه ليقال إن ثمانين مدرسة بأوربا في نهاية القرون الوسطى كانت تدرس الطب الإسلامي، ومن خريجي هذه المدارس نجد روجيه باكون وتوماس الأكويني وغي دوسولياك وجمع غفير من العلماء الذين أسسوا للنهضة الأوربية. معلوم أن بلاد الأندلس قد ضمت إضافة إلى المسلمين الفاتحين أقواما آخرين من القوط والإسبان الذين انصهروا في المجتمع الإسلامي ممن أطلق عليهم اسم المسالمة، وعناصر أخرى من المستعربين الذين عاشوا في كنف الدولة الإسلامية وكانوا يتقنون العربية واللاتينية، ثم كان أن ظهرت عناصر أخرى أطلق عليها اسم المولدين، وهم ثمرة الزواج المختلط بين المسلمين والإسبانيات كل أولئك سيكون لهم دور عظيم في نقل علوم الأندلس والمغرب والطب من بينها، وفي منتصف القرن العاشر الميلادي نشطت حركة الترجمة بأوربا أيما نشاط، وهكذا فقد تم نقل كتب ابن زهر وابن طفيل والغافقي وابن البيطار والشريف الإدريسي وابن رشد فأحدثت أثرا عظيما في الطب الأوربي، وتأسست مدارس للترجمة بعد ذلك كمدرسة «ريموند» بطليطلة وظهر مترجمون كبار من أمثال يوحنا بن دريد والأسقف دمينكوس غوند يسالفيني، وستبلغ حركة الترجمة ذروتها على يد جيرارد الكريموني بطليطلة، وكانت كتب التيسير والجامع لمفردات الأدوية والأغذية وعمدة الطبيب وغيرها من الكتب المغربية في الطب أهم مكونات البرنامج الدراسي في المدارس الأوربية. ولم يقتصر أثر الإشعاع المغربي في هذا العلم الجليل على أوربا، فقد يمم العلماء المغاربة صوب المشرق الإسلامي أيضا وكانت لهم مساهمات هامة في إقراء الطب ونقل الجهود العلمية المغربية فيه إلى المشرق، ومن هؤلاء الأفذاذ عبد الرحمن الكرماني، وأبو مروان عبد الملك بن محمد بن زهر، الذي تولى رئاسة الطب ببغداد ومصر، ويوسف بن أحمد بن حسداي، والسموأل بن يهوذا، وموسى بن ميمون الذي كان يطب صلاح الدين الأيوبي وجمع غفير غير هؤلاء ممن شهد لهم القاصي والداني بالفضل في صنعة الطب.