يوسف الحلوي حين يقول هنري رونو بأن عبد السلام بن محمد العلمي قد مثل لحظة مفصلية في تاريخ الطب بالمغرب، فهو يصدر في حكمه عن نظرة متفحصة لتطور هذا العلم ببلادنا وعن إلمام عميق بالطفرة التي طرأت عليه بفعل جهود العلمي، فرونو واحد من كبار المتخصصين في دراسة تاريخ العلوم وتقييمه لمآثر العلمي جزء من حقيقة الرجل الذي يظل واحدا من كبار أطباء المغرب، ولم تكن الطفرة التي حققها بجهوده المتواصلة وعمله الدؤوب قاصرة على كم الأبحاث ونوعها فحسب بل تعدتهما إلى التأصيل المنهجي لطب حديث يقطع مع الكثير من تصورات المدرسة التقليدية المتنافية مع الأسس والقواعد العلمية للطب المعاصر (حينئذ). كان اجتهاد العلمي في بناء أسس الطب الحديث ينطلق من ترجمة وتشذيب إبداعات معاصريه الغربيين ويضيف إليها باكورة أبحاثه التي شغلت سحابة عمره، وجدير بالذكر أن العلمي الذي تشبع بالثقافة المغربية الأصيلة منذ نشأته لم يفصل نظريته في الطب الحديث عن موروثه الثقافي، فجعل يرد كثيرا من تقريراته العلمية إلى أصولها الشرعية، نقرأ في كتابه «ضياء النبراس في حل مفردات الأنطاكي بفاس»: «إن كل مرض يكون سببا للموت ولو بعد مدة طويلة ليس له دواء البتة، وإذا لم يكن سببا له فقد ينفع فيه الدواء وقد لا ينفع إذا لم يرد الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم «الدواء من قدر الله وقد ينفع بإذن الله..» ومفهومه عدم النفع مع الإذن، وذلك مشاهد لكثير بالتجاريب، فقد يستعمل كثيرا من الأدوية فلا يحصل بها نفع». والعلمي واحد من أولئك المغاربة الذين لا يشبع نهمهم علم واحد، فقد أبدع في الفلك تدريسا وتنظيرا واختراعا، كما أبدع في الرياضيات والشطرنج والشعر واللغة وغير ذلك من العلوم، فكان مرآة صافية تعكس بجلاء سمة الموسوعية التي جبل عليه جيل المثقفين والعلماء من معاصريه . ولد عبد السلام بن محمد بن أحمد بن العربي العلمي بفاس عام 1246ه وقال «الطعارجي» إن ولادته تأخرت عن ذلك وأنها كانت عام بضع وخمسين ومائتين وألف دون أن يشير إلى السنة بالتحديد، وفي طفولته درس علوم اللغة وغيرها من العلوم الشرعية بالقرويين وبها احتك بعلماء الفلك والحساب والتوقيت، ومن بينهم والده محمد العلمي والشيخ الأغزاوي والعلامة أبو إسحاق التادلي الرباطي، فكان من ثمرة اتصاله بأولئك الأفذاذ أن حصّل معرفة عميقة بدقائق الفلك والحساب، وقد نقل عنه طلبته أنه كان يحدد التوقيت بالدقائق متى طلبوا منه ذلك سواء بالليل أم بالنهار، فإذا كان الليل نظر إلى النجوم وأشار إلى الساعة بدقة متناهية أما إذا كان النهار فيهتدي إلى الساعة بالنظر إلى موقع الشمس، ويحكى أنه كان جالسا مع أهله يوما في فناء منزله فأخبرهم أن صاعقة ستصيب موضع جلوسهم بعد حين، ولم يكد يغادر مكانه حتى حدث ما توقعه وفي الموضع الذي أشار إليه. توج العلمي نبوغه في الفلك باختراع آلتين فلكيتين هما «جعبة العالم» التي قدمها هدية للملك محمد الرابع و»ربع الشعاع والظل» التي ألف فيها رسالة «إرشاد الخل لتحقيق الساعة بربع الشعاع والظل» وهي آلة تساعد على ضبط التوقيت كما توضح الرسالة التي تشرح كيفية استعمال تلك الآلة، ولما كان المغرب يومها في حاجة إلى تطوير الطب وما يتصل به من كمياء وعلم الأدوية أرسل الملك الحسن الأول العلمي إلى مصر وبها تتلمذ لجلة من العلماء الذين ورد ذكرهم في كتابه «ضياء النبراس» ومنهم محمد علي البقلي ومحمد أفندي شكري والأقرباذيني علي أفندي رياض وغيرهم وعنهم أخذ علم الجراحة وطب الأمراض الباطنة والتشريح العصبي والكمياء الطبية وتشخيص الأمراض والعلل. فلا عجب - بعد جهوده المضنية في طلب العلم الذي قضى باغترابه سنوات طويلة عن وطنه - أن يعود إلى وطنه ليساهم في تخليص الطب من أثر الممارسات التقليدية التي سادت عصره وليؤسس لطب حديث ممارسة وتنظيرا حتى عده الباحثون في تاريخ العلوم أب الطب الحديث في المغرب. اجتهد العلمي في تصنيف الأمراض وتشخيص أسبابها على قدر اجتهاده في وصف الأدوية وخواصها وتصنيفها وفق تلك الخواص، كما قام بعمل محمود في ترجمة جهود الأطباء الغربيين وفك طلاسم اصطلاحاتهم الغامضة، يقول العلمي: «لما توجهت بالإذن الشريف لمصر القاهرة بقصد المزيد من علم الطب الجديد، ووجدته مطلسما باصطلاحات غامضة، وأسماء غريبة متنافرة، شرعت في مؤلف خاص ببيان تلك الاصطلاحات، وكاشف لرموز تلك الأسماء والعبارات وهو مؤلفنا المسمى بالأسرار المحكمة في حل رموز الكتب المترجمة». فكان يعمد إلى أسماء المركبات الكيميائية الإفرنجية فيعربها وإلى أسماء النباتات الطبية فيضع مقابلها بالعامية المغربية، ولا يخفى أثر ذلك في تيسير تداول تلك العلوم بين الطلبة وتقريبها إلى أذهانهم. عني العلمي بتدريس الرياضيات بجامع القرويين وتخرج على يديه فيها جماعة من النوابغ كالشيخ محمد بن علي بن عمرو الأغزاوي، وعبد الكريم بن العربي بنيس، ومحمد بن أبي بكر الجامعي وغيرهم، كما كان يقدم دروسا في لعبة الشطرنج وله فيه كتاب يشرح ألغازه، وإضافة إلى براعته في علوم الفلك والطب والرياضيات كانت للعلمي مشاركات رائقة في نظم الشعر، وقد ضمن كتاب النبراس قصيدة في مدح الحسن الأول يقول فيها: ملك له انطوت القلو ب على المحبة والوداد حسن الصفات ومذ بدا ما حاد عن نهج السداد كالغيث في يوم الندا والليث في يوم الجلاد ورث الملوك فخارهم وعليهم أربى وزاد لا زاد فينا حكمه يبدي معالم للرشاد وله قصائد أخرى في مدح شيوخه ومنظومات في التشريح والشطرنج قصد بها إلى تلخيص قواعد الشطرنج وأساليب علم التشريح جريا على عادة المتقدمين من فحول العلماء . أغنى العلمي الخزانة المغربية بمؤلفات نفيسة مثلت ثمرة جهاده العلمي على كل الأصعدة وفي كافة المجالات، منها «ضياء النبراس» و»البدر المنير في علاج البواسير»، ورسالة «إرشاد الخل لتحقيق الساعة بربع الشعاع والظل» و»إبداع اليواقيت على تحقيق المواقيت» وهو كتاب يضم مبادئ علوم عصره من جبر وتعديل وميقات ومساحة وبصريات وجغرافيا وطبيعيات وغير ذلك ويمثل لوحده مؤشرا على مساهمة مبكرة في التنظير لنهضة علمية سبق فيها المؤلف زمنه وكان سيكون لها ما بعدها لو حرص من بَعدهُ على تطوير جهوده ومتابعتها . أصيب العلمي بداء الشلل النصفي فلازم بيته ولم ينقطع عن أداء واجبه العلمي فكان طلبته يزورونه ببيته للاستفادة من دروسه وتوجيهاته إلى أن وافته المنية في يوم الخميس 19 جمادى الثانية من عام 1322ه /1904م وقد ووري الثرى بمقبرة العلميين بفاس، وعلى قبره وضعوا لوحة يستطيع زائره أن يقرأ فيها ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله هذا قبر الشريف الفقيه العلامة المختار في المعقول والمنقول ذو التآليف العديدة في آلات التوقيت وفي الطب وفي غيرهما مولاي عبد السلام بن الفقيه الأستاذ سيدي محمد العلمي الحسني توفي يوم الخميس 19 جمادى الثاني 1322 ه.»