ليس لدينا كبير تحفظ على أن تقوم الدولة بتقديم الدعم، معنويا كان أو ماديا، إلى القناة التلفزيونية الثانية. يجب أن يكون الأمر واضحا حتى لا يزيغ الفهم أو يساء الظن. فالقناة قناتها، أو لنقل تابعة لها بمقياس رأس المال وطبيعته العمومية العامة، وما يستتبع ذلك من التزامات قانونية تحددها التشريعات واللوائح السارية، ناهيك عن الوصاية التي تفرضها ذات التشريعات واللوائح. والقناة قناتها، أو لنقل خاضعة لتوجيهاتها وتوجهاتها، بمقياس العقد/البرنامج الذي تبرمه الدولة معها والذي يحدد، بالواضح الصريح، ما على القناة استيراده أو إنتاجه أو الإسهام في إنتاجه أو تفويض إنتاجه... وما سوى ذلك، ناهيك عن تعيين من يثوي خلف ترجمة هذه التوجيهات نصا وروحا، واحترامها طيلة مدة العقد. ثم إن القناة قناتها، إذا لم يكن فقط من منظور الملكية ومبدأ الوصاية، فعلى الأقل من باب أنها تثوي خلف مرفق عام، قوامه الشمولية والمساواة في البلوغ، وعدم التمييز على أساس من هذا الاعتبار أو ذاك. القناة التلفزيونية الثانية هي، إذن، قناة عمومية جامعة، غير متخصصة، هدفها (وفق ميثاقها واحتكاما إلى دفتر تحملاتها وعقود برامجها) خدمة المرفق العام، من خلال خدمة الجمهور المستهدف، إخبارا وتثقيفا وترفيها، بشبكة برامجية المفروض أن تستشف ذات الثلاثية في خطها التحريري، وفي أدائها آناء الليل وأطراف النهار. ليس هذا فحسب، بل المفروض في ذات القناة أن تتكلم لغة جمهورها، أن تعمل على الرفع من وعيه، والسمو بذوقه، والرقي بمعارفه ومعلوماته، وتمرير القيم الراقية من بين ظهرانيه. هذا، في نظرنا، هو المفروض في قناة أطعمها المال العام من جوع وآمنها من خوف. لكن الذي تحصلنا عليه في الخواتم (بالمقابل أعني) إنما هو قناة لم ولا تحترم لا ميثاقها ولا دفاتر تحملاتها ولا مهمة الخدمة العمومية التي ألزمها بها القانون صراحة جهارة: - فالقناة لم تقم، ولاسيما منذ أن تم تأميمها بعد إفلاس المنظومة الخاصة التي ثوت خلفها منذ النشأة، إلا بصياغة وتقديم نشراتٍ في الأخبار، رسميةٍ في مفاصلها الكبرى، جامدةٍ في مضامينها، مكرورةٍ في تراتبية الأولويات، غير خاضعة لمبدأ المهنية والاحترافية في التناول والمعالجة. إنها أضحت ولكأنها وكالة أنباء رسمية، لا تدخل في مجال اشتغالها إلا البيانات الوزارية، والأنشطة الملكية، والمنافسات الرياضية المكثفة، والأخبار الفنية والثقافية التي قد لا تكون دائما فنا أو تمت إلى الثقافة بصلة. إننا، في حالة أخبار القناة الثانية، إنما نحن بإزاء قناة تتعامل بأحادية، بفوقية وبأبوية، لا ترى في الجمهور المتلقي إلا لحمة واحدة، موحدة ومتجانسة، وبالتالي لا يستأهل إلا معلومات للإخبار ليس إلا، عوض تقديم نشرة للأخبار؛ هي تخبرنا ولا فكرة من بين ظهرانيها لما نريده أو نتطلع إليه. - والقناة لا تعير كبير اهتمام للجانب الترفيهي في تطلعاتنا، بل تقدم إلينا «مواد فنية وثقافية» إما بغرض التنغيص علينا أو بغرض نشر الرداءة بين ظهرانينا، وليس أدل على ذلك من نماذج سيتكومات رمضان متردية الشكل والمضمون (ناهيك عن الدبلجة الكارثية لما يتم استيراده)، ثم الغياب شبه التام للبرامج الثقافية الجادة أو الهادفة أو ذات البعد المعرفي المباشر. إن ما تقدمه القناة الثانية من «مواد فنية وثقافية» إنما هو مواد لا صبغة جمالية فيها، ولا خاصية تثقيفية أو ترفيهية فيها.. إنها مواد دون مضامين، وبرامج دون محتويات، ونصوص دون روح... وإلا فلننظر في ما يقدم إلينا من مسلسلات تركية تبدأ لتستمر، ثم لا تنتهي. - ثم إن القناة تثير السؤال والتساؤل حول اللغة المستعملة في صياغة البرامج وتقديمها؛ فبين أخبار بالعربية الفصحى وأخرى بالفرنسية، يبدو لنا أن الدارجة باتت هي «اللغة» المفضلة لدى القائمين على القناة، إن في تقديم برامج «التنشيط» أو في الدبلجة التي تخضع لها المسلسلات الآتية من الخارج. إن المؤاخذة هنا لا تطاول الدارجة ذات المضامين والمعاني والإيحاءات السامية، بل تطاول نوعا من الدارجة المبتذلة التي تنفر المشاهد وتزرع في قاموسه مصطلحات هجينة، ذات مضامين سلبية، تقوض الذوق العام أكثر مما ترفع من منسوبه. في صلب كل ذلك، أو من بين ظهرانيه، فإن إشهار الخدمات والسلع بات هو المتسيد... حتى ليبدو للمرء حقا أن القناة ذات طبيعة تجارية خالصة، عوض أن تكون قناة مرفق عام. أهذا هو جزاؤنا من قناة أطعمناها من جوع، بالمال العام، وآمناها من خوف... خوف الإفلاس؟