ثمة ثلاثة أمور أساسية, لا بد من توفرها لنجاح أي مشروع يتغيأ إنشاء قناة تلفزيونية ثقافية ومعرفية, أيا ما تكن مرجعياتها وخلفياتها: + الأمر الأول ويكمن في ضرورة التحديد الدقيق لمعنى ومضمون ومجال الثقافة والمعرفة, بالسياق العام وبسياق البث التلفزيوني المقتني للأقمار الصناعية. إن هذا التحديد لا يعين فقط على تثبيت المضمون, مضمون الثقافة والمعرفة, بل يساعد في رسم المجال الذي من المفروض أن يكون ميدان وفضاء بث ذات القناة في الزمن والمكان. إن التأكيد على هذا الأمر إنما القصد منه ليس فقط تأطير إدارة برامج القناة إياها, أو مستويات الإنتاج والاقتناء وما سواها, بل وتوجيه ذات الإدارة أيضا بجهة إنتاج أو اقتناء البرامج الثقافية, والمواد المعرفية بما يتساوق وهذا التحديد. إنه من قبيل دفتر التحملات النظري العام, الذي لا يمكن تجاوزه أو تمطيط معناه, عندما يلقى الرضا ويعتمد نهائيا من لدن أصحاب المشروع. + أما الأمر الثاني فيتمثل في تحديد مفاصل العلاقة المضطربة بين المجال الثقافي من جهة, ومجال اشتغال التلفزيون من جهة أخرى, من زاوية تباين الغايات, ومن زاوية اختلاف المرجعية. فالثقافة غالبا ما تخاطب العقول والضمائر, في حين أن التلفزة تبقى محكومة بمنطق الانطباع والإثارة والسبق الإعلامي, المهووس دائما بمبدأ نسب المشاهدة, ثم استباق حاجات الجماهير, ثم تقديم هذه الأخيرة للمعلنين عن قصد بالنسبة للتلفزيونات التجارية, ودونما قصد مباشر من لدن "تلفزيونات المرفق العام", أي التلفزيونات العمومية, الممولة من الدولة أو الأجهزة التابعة لها. إن التركيز على هذا الجانب, إنما استدعته الضرورة إلى تجاوز هذا المبدأ والاشتغال بالارتكاز على مبدأ آخر, مفاده أنه ليس الغرض من القناة التلفزية المزمع إقامتها, الاستجابة للحاجيات الثقافية للأقلية المتنورة والمثقفة, بل تسهيل بلوغ الجماهير الواسعة للمواد الثقافية والبرامج المعرفية التي لا تستطيع بلوغها بسبل أخرى. + الأمر الثالث ومفاده التركيز على حقيقة أن التلفزة اليوم لم تعد فقط أداة ثقافية, بإمكان الجمهور أن ينفذ إليها, ويتمثلها من خلال هذا البرنامج الثقافي أو ذاك, ولكن أيضا مجالا ثقافيا بامتياز, ينتج الأفكار والمعرفة, يستنبت الجمال والفن, ويروج للقيم السامية وللآراء المختلفة المتواجدة بالفضاء العام. والغرض من هذه النقطة, إنما الإلحاح على واقع أن الثقافة التلفزيونية لا تتماهى دائما مع تلفزيون الثقافة, وأنه إن كان لهذا الأخير أن يتنافس, على خلفية من نسب المشاهدة واستقطاب المعلنين, فعليه أن يقوم بذلك من داخل ومع التلفزيونات المتخصصة في الثقافة, لا مع تلك التي لا تعتبرها إلا عنصرا من عناصر شبكتها البرامجية ليس إلا. وعليه, فإن المراد الإشارة إليه في كل ما سبق, إنما معطيان أساسيان اثنان: °- المعطى الأول: تحديد الخط التحريري للقناة, أية قناة, لا سيما إذا كانت ثقافية ومعرفية, بالبناء على مفاهيم ذات مضامين دقيقة, تشتغل بفضاء وإطار محددين, على الإدارة البرامجية أن تلتزم بهما في تأثيث الشبكة, وعلى الإدارات الأخرى أن تحتكم إليهما, قبلما تأمر بإنتاج هذه المادة أو تؤشر على اقتناء تلك. °- المعطى الثاني: تحديد هذا الخط لا يجب أن يكون دفتر تحملات مفصل, تحتكم إدارات القناة المختلفة إليه, بغرض الإنتاج أو الاقتناء, بل يجب أيضا أن يكون التعبير المادي والملموس عن هوية القناة وعن طبيعة رسالتها... وقبل كل هذا وذاك, عن المرجعية الناظمة لذات الهوية, كما لذات الخط التحريري.