نعيش اليوم في عالم يشهد تغيرات عميقة، وهذا ليس مجرد كلام بل هو عين الحقيقة، مع أن هذه التغيرات تقع، كما يحدث عادة في التاريخ، ليس تحت سيناريو مسبق وبعيدة عن كل الحسابات والتوقعات. ويكفي القول إن مسألة العولمة لم تؤد إلى ذلك التحول الذي سطره أتباعها منذ ما يزيد على 20 سنة مضت. وقد كان يفترض بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكي أن تعمل الدول الغربية المتطورة ومعها الشركات العملاقة على توسيع نطاق هيمنتها لتشمل العالم بكامله، وهذه المرة بدون أية قيود، ويصبح النظام الليبرالي الديمقراطي بديلا «ومنارة» تسعى نحوها كل الشعوب المسماة «متخلفة». ولكن، في الواقع من وراء هذه العولمة استفادت العديد من البلدان النامية، التي أنشأت صناعة جديدة وحسنت من مستوى عيش سكانها. هذا في الوقت الذي حاولت فيه الدول المتطورة اجتثاث التصنيع، والحد من الطبقة الوسطى وزيادة الفجوات الاجتماعية. ونحن نتحدث الآن عن البحث عن حلول تسمح بالتغلب على الاختلالات الهيكلية العميقة في اقتصاد الدول الأوربية والولاياتالمتحدةالأمريكية وعن احتمال أن تصبح الصين بعد 5 أو 6 سنوات الدولة الرائدة العظمى اقتصاديا، مع احتمال أن يصبح «الينّ» كذلك العملة الاحتياطية الرئيسية. وإلى حد الآن، لا تبدو أية بوادر تغيير على التضخم المتواصل في الاقتصاد الأمريكي والأزمة المطولة في أوربا بشكل عام، يمكن أن نتوقع خلال العشرين سنة المقبلة خريطة عالمية جديدة، وهذا قد يتطلب عملية مؤلمة لإعادة تكييف العلاقات الدولية. تشير العديد من العوامل إلى أن مرحلة تاريخية جديدة تأخذ بدايتها. وإذا كنا نريد التحدث تحديدا عن روسيا، فمن الواضح أن هذا يرتبط بإيجابيات وسلبيات ومخاطر وفرص جديدة؛ فمن جهة، نحن نجهل ولا نستطيع توقع مسارنا مع الغرب، ونقصد بالخصوص السوق الأوربية التي تعتبر شريكنا الأساسي في التبادل التجاري والتعاون التكنولوجي، كما تعتبر مستهلكا للمواد الهيدروكربونية الروسية، ومن جهة أخرى، مع هذا التوزيع الجديد للأوراق الذي يكتسي طابعا راديكاليا، سيكون من الممكن، على الأرجح، البدء بسجل نظيف بعيدا عن كل القواعد التي تحكم التسلسل الهرمي الدولي اليوم والتي ستتغير مستقبلا. اليوم، لا أحد يجادل في أن النظام الدولي الناشئ نظام متعدد الأقطاب. وبناء على هذا، تبني أبرز مؤسسات الفكر والرأي في أوربا والولاياتالمتحدةوروسيا تحليلها. شيء آخر، إلى حد الآن لا أحد يستطيع أن يتكهن بملامح النظام العالمي للقرن ال21 وإلى أي مدى سيكون نظاما مستقرا وفعالا. ولنمعن النظر في واحد من الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية وهي أن يكون النظام الدولي نزيها وعادلا وديمقراطيا من الناحية المثالية والتنظيم الذاتي. ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا عبر شراكات وإجراءات جماعية «اللاعبين» بقياديين على الساحة الدولية. ومن الواضح أيضا أن هذا المبدأ، الذي يحظى باتفاق الجميع، يبدو على المستوى العملي إجراء صعبا وبطيئا. نحن ذهبنا، اليوم، بعيدا كل البعد عن الأفكار التي كانت مشتركة في التسعينيات. وإن العالم يسير في اتجاه نموذج موحد مستوحى من نسخ متعددة لا تحصى من النمط الغربي، إضافة إلى طابعها المحلي. الآن، من المفترض -في ظل الاعتراف باقتصاد السوق والمبادئ الديمقراطية للحكومات كقناة رئيسية للعملية التاريخية ومع تعدد مراكز السلطة والنفوذ- تعدد نماذج التنمية كذلك. وأكثر من ذلك، وكما لاحظ هنتنغتون، يجب التوجه ببصيرة نحو زيادة القيمة الحضارية وعامل الهوية. إن الانخراط الذي عرفناه في عصر الإمبراطوريات الاستعمارية وانتشار المفاهيم الثورية أو القومية والتي هي، على كل حال، من جذور الإيديولوجيات الغربية كان من الصعب أن نتصور، بعد نصف قرن، نهضة قوية لإحياء الهوية الإسلامية. إن الاعتماد على الجذور الحضارية أصبح رغبة متزايدة في آسيا وفي أجزاء أخرى من العالم في السياسة الدولية. وهذا يمكن أن يؤدي إما إلى تقوية الصراع أو إلى فهم ضرورة وجود شراكة على أساس جديد، تستجيب للواقع المعاصر. الحل لهذه المعضلة الحقيقية يرتبط أساسا بالخط والمسار العملي الذي سيختاره شركاؤنا الغربيون، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدةالأمريكية. هذا يعتبر واحدا من الأسئلة المبدئية في السياسة الدولية المعاصرة، وله علاقة مباشرة بموضوع النظام العالمي في المستقبل. والمسألة هنا ليست عن حقيقة روسيا من حيث «القصور الذاتي» وأنها تعارض النفوذ الغربي أو أنها تضع «العصا في العجلة» لعرقلة المشاريع الغربية، لا بل المسألة حقيقة أن سياسة الترويج للديمقراطية «بالحديد والدم» بكل بساطة غير مجدية، وما نراه هذه الأيام يزيد من قناعتنا. وكذلك، خلال الخمس سنوات الماضية أو حتى لعقود، فالجميع يعرف العراق، والمشاكل التي لازالت تتخبط فيها هذه البلاد، ولا أحد يفهم ما الذي سيكون عليه الشرق الأوسط في النهاية، ففرض الديمقراطية بالقوة يعتبر خطرا كبيرا، يؤدي إلى المزيد من مظاهر الفوضى. هذه العناصر قد تؤدي إلى أزمة في السيطرة على المستوى العالمي. اليوم هناك خطر يحس به الجميع، وهو واضح كل الوضوح. زميلي من فرنسا، لوران فابيوس، تحدث مؤخرا عن كون المخاوف ليست من عالم متعدد الأقطاب، ولكن من عالم «مقسم على نفسه»، مع الأخذ بالاعتبار أن العالم لا يمكن أن يتوحد تحت رعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية أو تحت «مظلة» منظمة حلف شمال الأطلسي. للحد من هذه المخاطر لا بد من التفكير في شراكات حقيقية وفي أوربا والمحيط الأطلسي وعلى المستوى العالمي. وفي مقال نشر مؤخرا، قدم هنري كسنجر حججا مقنعة تثبت فشل استعمال القوة لتعزيز المصالح الأمريكية، بما في ذلك اللجوء إلى نشر مجموعة من القيم؛ وقال في هذا الصدد إن تكييف السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية مع الظروف الداخلية للمجتمعات الأخرى والعوامل المرتبطة بأمنها (المجتمعات)، لا يعني بتاتا التخلي عن المبادئ بل هذا، بكل بساطة، فهم متطور وحضاري مميز من أجل تحقيق أهدافنا، ومن الصعب عدم الاتفاق حول هذا الكلام. وقد أشار كيسنجر إلى أن المنهجية المبنية على التناقضات منهجية بشعة، وهي المعروفة باسم السياسة الواقعية، والمبنية على القيم بالطبع.