أتت الأشغال الجارية بشارع محمد السادس بالدارالبيضاء على مركز الشرطة الذي ظل منتصبا وسط «كراج علال» لسنوات عديدة، وصار أثرا بعد عين، استعدادا لاستقبال الرئيس الفرنسي، فرونسوا هولاند، الذي سيحل بالمغرب في زيارة رسمية. وإذا كان تدمير مخفر «كراج علال» يأتي في إطار تزيين شارع محمد السادس، فإن عددا كبيرا من البنايات الشبيهة أصبحت خارج نطاق الخدمة، وتحول كثير من مراكز شرطة القرب التي تنتشر في أحياء وساحات عدد من المدن المغربية، إلى بنايات مهجورة تستغل من طرف المشردين والمنحرفين، وأصبح بعضها مأوى للحيوانات الضالة، كما تعرض عدد منها للتخريب من طرف مجهولين. الكثير من الأمور الغريبة أصبحت تحدث في هاته المراكز، بينما غابت عنها الأدوار التي أنشئت من أجلها، في الوقت الذي يتم استغلال عدد منها لأغراض إدارية أو إنسانية، وتتعالى في الآن ذاته دعوات لعودة العمل إليها في ظل ارتفاع معدلات الجريمة في عدد من المدن المغربية. سيوف بباب المخفر على حين غفلة من المارين في أحد الشوارع الهامشية بمقاطعة بن مسيك في الدارالبيضاء، يرتفع صراخ عدد من الشباب الذين تبدو على ملامحهم علامات «لا تبشر بالخير»، يختلط المشهد ليظهر سكين من الحجم الصغير في يد أحدهم ملوحا به نحو آخر، ثم تنقلب الصورة بشكل دراماتيكي عندما يستل الآخر سيفا من الحجم الكبير، كان مخفيا داخل ملابسه، ليطلق المارة أرجلهم للريح في كل اتجاه، هربا من ضربة طائشة من هذا الطرف أو ذاك. ينتهي الشجار دون ضحايا، بعد تدخل بعض رفاق صاحب السيف، الذي كان قريبا من رقبة خصمه، ويسحبونه ليستند على جدار بناية لا تبعد سوى ببضعة أمتار عن مكان الشجار... إنها بناية مخفر «شرطة القرب»! هي واحدة من بين عشرات البنايات الشبيهة، التي تنتشر في أحياء وشوارع الدارالبيضاء ومثلها المئات في مختلف المدن المغربية الكبرى، أنشئت بغرض فرض جو من الأمن باعتماد سياسة القرب من المواطنين، وانبعثت فكرتها بالتزامن مع إنشاء شرطة القرب، التي عرفت بين المغاربة في أيامها بشرطة «كرواتيا»، والتي لم يكتب لها الاستمرار طويلا، شأنها شأن هاته البنايات. بداية الحكاية في 17 أكتوبر من سنة 2004، قرر المدير العام للأمن الوطني آنذاك، الجنرال حميدو لعنيكري، إنشاء فرقة خاصة للشرطة، تتمثل مهمتها في القيام بجولات ميدانية في أحياء وشوارع عدد من كبريات المدن المغربية، بغرض فرض حضور جيد لقوى الأمن في مختلف المناطق، مما يعزز شعور الأمن لدى المواطنين، ويرفع فرص القبض على المجرمين، وحملت هاته المجموعة اسم «الفرقة الحضرية للأمن». الفرقة التي عرفت في الأوساط الشعبية بشرطة «كرواتيا» بالنظر إلى المربعات الحمراء والبيضاء التي حملتها قبعاتها وتشبه ألوان قميص المنتخب الكرواتي، لم تعمر طويلا كما كان يخطط الجنرال لعنيكري، فبعد مرور أقل من سنتين على إنشائها رحل هذا الأخير عن منصبه، مخلفا مكانه للشرقي الضريس على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني، وكان أول قرار اتخذه المسؤول الجديد هو «إعادة انتشار» أفراد المجموعة الحضرية للأمن، وهو ما كان يعني عمليا إنهاء «شرطة القرب»، وتصفية تركة لعنيكري. القواعد التي انطلقت منها «شرطة القرب» في القيام بحملاتها كانت مراكز صغيرة، بنيت في عدد من الأحياء والساحات التي تعرف بكونها نقاطا سوداء من الناحية الأمنية، غير أن قرار حل شرطة القرب ترك هاته «القواعد» فارغة من أهلها، باستثناء بعض منها يقع في مراكز ذات حساسية خاصة. مأوى المشردين ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد كان من غير المتوقع أن تستمر مراكز الشرطة الصغيرة خاوية على عروشها لوقت طويل، وهو ما حذا بأصناف متعددة من «المستوطنين» إلى اتخاذ هذه المراكز مقرات لممارسة أنشطة مختلفة، بعضها يتناقض تماما مع الوظيفة التي أنشئت من أجلها. ومن هاته الأدوار الجديدة لمراكز شرطة القرب، «إيواء» عدد من المشردين الذين اقتحموا حرمتها، وصاروا يتخذونها مراكز للمبيت، خصوصا في الأحياء التي صارت المراكز فيها مهملة، ولا تحظى بالزيارات الموسمية لرجال الشرطة، كما هو الشأن بالنسبة لبعض المراكز الأخرى. ورغم أن هاته الفئة لا تشكل تهديدا للسكان بشكل مباشر، فإن وجودها داخل الأحياء السكنية يقلق راحة بعض الآباء الذين يخشون اعتراض هؤلاء سبيل أطفالهم، أو أن يكون المشردون أنفسهم ضحايا لعمليات عنف تروع أسرهم. غير أن استغلال «المشردين» لهاته المراكز لا يتم دائما بشكل سلبي، فمع مسلسل انهيارات المنازل التي شهدتها بعض المدن المغربية خلال موسم الأمطار الحالي، وهروب عدد من العائلات من البنايات الآيلة للسقوط خوفا من الموت تحت أنقاضها، اتخذت السلطات إجراءات مؤقتة لإيواء الأسر المشردة، وكان من بين الحلول التي لجأت إليها إيداع عدد من العائلات داخل مراكز شرطة القرب الفارغة. وتشتكي هذه العائلات اليوم إهمالها من طرف السلطات بعد إيداعها هاته المراكز، ويخشون من أن يتفاقم الوضع أكثر لتصير مخافر الشرطة سكنا دائما لهم، مع ما ينقلونه من معاناتهم مع الإزعاج المستمر من طرف المنحرفين الذين اعتادوا التجمع عند هاته البنايات. «مخافر الانحراف» وعلى النقيض تماما من أدوار حفظ الأمن التي أنشئت من أجلها هاته المراكز، اتخذ بعض المنحرفين وتجار المخدرات تلك البنايات مستقرا لممارسة أنشطتهم المشبوهة، كما يشاهد عدد من متعاطي المخدرات مستندين على جدران المراكز، ويشهد محيطها أعمال عنف وسرقة وقطع طريق. وعاينت «المساء» لجوء بعض تجار المخدرات إلى هاته المراكز بغرض ترويج بضاعتهم، كما هو الشأن في أحد المراكز بمقاطعة بن مسيك بالدارالبيضاء، حيث جلس أحد الأشخاص على كرسي داخل المركز الفارغ، وهو ينفث دخان لفافة التبغ، بينما تردد عليه عدد من الشباب من أجل اقتناء قطع الحشيش، ووقف شخصان على جانبي المركز، في ما يبدو انه عمليات مراقبة، تحسبا لقدوم ضيوف غير مرغوب فيهم. ولأن المراكز تتخذ في العادة موقعا استراتيجيا لمراقبة تحركات المنحرفين وسط هاته الأحياء الشعبية، فإن المنحرفين هم من أصبحوا في موقع يسمح لهم بمراقبة أي تحرك محتمل لرجال الشرطة، أو تصيد المارة بغرض السرقة في ساعات الليل أو الصباح الباكر. كما لا تزال عالقة في أذهان المواطنين بمقاطعة اسباتة في الدارالبيضاء، حوادث اعتداء واغتصاب تعرضت لها فتيات داخل بعض مراكز الشرطة، من طرف ما يبدو أنها عصابات إجرامية منظمة، احترفت هاته الأعمال خلال مدة معينة. سرقة وتخريب بعض مراكز شرطة القرب لم توفر الحماية حتى لنفسها، فقد لجأ مجهولون إلى انتزاع الأبواب والنوافذ الحديدية لبعضها، فيما تعرض البعض الآخر لتكسير الزجاج وتلطيخ الجدران. عبارات مختلفة خطها «الخطاطون» العشوائيون على جنبات هاته المراكز، بعضها يحمل ألفاظا نابية، وأخرى شكلت رسومات متفاوتة الجمال والبشاعة. المراكز التي انتزعت أبوابها أصبحت ما تشبه «المراحيض العمومية»، حيث تزكم أنف من يحاول الدخول إليها روائح المخلفات البشرية، وتستوطنها الكلاب والقطط الضالة والجرذان في كثير من الأحيان، كما يستخدمها البعض مكبا للنفايات التي أصبحت تتراكم داخل عدد منها. شهود عيان من أمام أحد المراكز المخربة بمدينة طنجة أكدوا أن مواطنين نزعوا الأبواب والنوافذ الحديدية للمركز، واستولوا عليها بغرض الاستعمال المنزلي، وذلك إبان فترة شهدت ازدهارا كبيرا للبناء العشوائي بعيد الانتخابات التشريعية الأخيرة، دون أن تتدخل أي جهة رسمية لمنعهم من ذلك. وتبدو على مركز آخر علامات «الدمار الشامل»، حيث تم تكسير زجاجه الخارجي، واللافتة التي تحمل اسم المركز، بينما تحول إلى مرتع للجرذان من الداخل، ويؤكد مواطنون أنهم لم يروا أي شرطي يدخل باب البناية الصغيرة منذ إنشائها. تصحيح الإمضاءات ومن المبادرات التي تروم استثمار هاته البنايات، والتي لاقت استحسانا من طرف المواطنين، إقدام مقاطعة الفداء بالدارالبيضاء على فتح بعضها وتحويلها إلى مراكز لتصحيح الإمضاءات، بقرار من مجلس المقاطعة، يتضمن أيضا المداومة على العمل خلال يومي السبت والأحد، لكن مبادرة مقاطعة الفداء هذه تبقى الوحيدة من نوعها. هاته المراكز أصبحت تحمل لافتات وكتابات تشير إلى أنها «ملحقات» لتصحيح الإمضاءات والتصديق على الوثائق، في خطوة وصفها مصدر من المقاطعة بأنها ترمي إلى تقريب هذه المصلحة من سكان المنطقة خصوصا، والبيضاويين عموما، ومن أجل تخفيف الضغط على مكاتب الحالة المدنية، سواء منها المتواجدة بمقر المقاطعة أو ببعض الملحقات الإدارية. وقد عاينت «المساء» انتظام العمل في هاته الملحقات الجديدة، وعبر عدد من المواطنين عن ارتياحهم لسير العمل فيها، وتخفيفها من الاكتظاظ الذي يطبع العمل في مصالح تصحيح الإمضاءات في المقاطعة، وطالبوا بتعميمها لتشمل باقي المصالح التي تعرف إقبالا كبيرا.
لهذه الأسباب أخلى الأمن مخافر القرب
ترجع مصادر أمنية اللجوء إلى إخلاء عدد كبير من المراكز، والاقتصار على بعض المراكز الحيوية إلى التكلفة المرتفعة التي يتطلبها الاستمرار في تشغيل هاته البنايات، وقيام رجال شرطة بالمرابطة فيها بشكل مستمر، كما أن تجهيزها بالمعدات يتطلب ميزانية إضافية، لم ترصدها الإدارة العامة للأمن الوطني كما كان منتظرا. وتحدثت المصادر عن أن خطة العمل التي كانت مقررة للمراكز عند بداية العمل بها استهدفت في البداية بناء 400 مركز شرطة للقرب، على أن يصل عدد هذه المراكز إلى ألف مخفر في غضون سنة 2007 بمختلف المدن، وقد رصد لبناء هذه المخافر مبلغ مالي يقدر بحوالي 22 مليار سنتيم، وطاقم بشري تجاوز تعداده 12 ألف رجل أمن. وأفادت المصادر بأن إعادة انتشار «شرطة القرب»، واندماجها في باقي أسلاك الشرطة، جعل مهمة هاته المراكز ثانوية، كما أن أعداد رجال الشرطة لا تسمح بتوفير المداومة في كل المراكز الصغيرة، لذا تم الاقتصار على بعض منها، مع اللجوء إلى الدوريات الأمنية، سواء بالسيارات أو الدراجات النارية، لتغطية مختلف المناطق أمنيا، كما أن التكلفة الباهظة لبنائها وتسييرها جعل الاستغناء عنها يبدو أقل كلفة. في حين يرى مراقبون أن سياسة بناء هذه المراكز، كانت خاطئة منذ البداية ولم تؤد إلى النتائج المرجوة، ويعتبر هؤلاء أن إلزام عناصر الأمن بالمكوث وسط أربع جدران يبقى بلا معنى، ولا يخدم أمن المواطن، حيث سجل وقوع عدة اعتداءات وسرقة على بُعد أمتار قليلة من هذه المخافر. ويبقى السؤال مطروحا من طرف المواطنين حول نجاعة السياسات الأمنية المتبعة في الأحياء الهامشية، وجدوى صرف أموال طائلة على إنشاء هذه البنايات ثم إهمالها، بينما أطلق ناشطون شباب مبادرات على الشبكات الاجتماعية في الإنترنت، تطالب بإعادة العمل بشرطة القرب، وفتح هاته المخافر من جديد، نظرا لما يمثله تواجد رجال الشرطة من عامل إضافي لتعزيز الأمن في الأحياء الشعبية بالمدن.