سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
منازل ومقابر فاس... ذاكرة تؤرخ لمجد المدينة العتيقة كانت منازل المدينة العتيقة بمثابة منتديات لتداول قضايا الأمة المصيرية ومعاهد لبث العلم ومحاضن لاستقطاب الوطنيين
على مر الحضارات التي تعاقبت على تاريخ المغرب القديم والوسيط، كان أجدادنا المغاربة يبدعون في مجالات مختلفة، ويقدمون أمثلة عديدة على التطور الكبير الذي حققوه في مجالات الطب والعمارة والبناء والعلوم والأدب والشعر، في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال غارقة في بحر من الجهل والتخلف والأمراض، وهذا ما دفع بعدد من العلماء الأوروبيين الى ترجمة أعمال الأطباء والعلماء المغاربة ومحاولة الاستفادة منها، في أوروبا، وكمثال بسيط على ذلك، فإن جامعة القرويين لعبت دورا كبيرا في انتشار العلوم والأرقام العربية إلى ربوع أوروبا... في هذا الخاص نتوقف لنلقي الضوء على أبرز مفاخر المغرب المنسية التي قد لا يعرف عنها الجيل الحالي أي شيء تقريبا.. بلغ من عناية الأمم اليوم بعظمائها أن تحول منازلهم إلى متاحف وقبورهم إلى مزارات، وأن تقيم لهم النصب التذكارية، وأن تطلق أسماءهم على الشوارع والأزقة والساحات، وأن تجتهد كل الاجتهاد في تجميع مخلفاتهم حتى إنه ليأخذك العجب من حرص الناس على التباري في اقتناء أواني المشاهير وأحذيتهم وكل ماله صلة بهم عرفانا بأياديهم وإحياء لذكراهم ورغبة صادقة في السير على خطاهم. ولقد صار من واجبنا نحن المغاربة، كذلك، أن نولي علماءنا وقادتنا ومفكرينا ما يستحقون من الاهتمام من خلال الاعتناء بمآثرهم والتعريف بها واستنقاذ مخلفاتهم من براثن الإهمال، وما أكثر ما خلف أجدادنا مما يحمل عظيم العظات والعبر ويشكل دروسا غنية نستفيد منها في الحاضر والمستقبل. إن الاهتمام بمآثر هؤلاء ليس عملا عديم الجدوى قليل النفع ما داموا قضوا وانقطعت أسباب دنياهم من أسباب دنيانا، فنحن حين نبعثهم من مراقدهم نفهم كيف حصلوا ما حصلوا من العلوم والمعارف فنتدارك قصور تعليمنا عن إدراك غاياته، وبالنبش في العوامل التي صنعت انتصاراتهم نتوقى عوامل التفكك والهزيمة، ومن الوقوف على تدبيرهم للوقت ندرك أهمية الوقت في تسلق مراقي النبوغ والكمال. إن المغرب اليوم ليزخر بما يصله برجاله العظام، فلا تكاد مدينة من مدنه القديمة تخلو من مخلفاتهم وآثارهم ومن ذلك أضرحتهم ومقابرهم ومنه أيضا المنازل التي خصصت لسكناهم وكانت في الزمن الماضي محجا لزوارهم ومحبيهم، ومنتديات للتداول في قضايا الأمة المصيرية ومعاهد لبث العلم ومحاضن لاستقطاب الوطنيين وتربيتهم على التضحية والفداء في فترة الاستعمار. ولا شك أن مدينة فاس واحدة من أهم هذه المدن حيث يحيل كل شبر فيها وكل زقاق وكل درب على واحد من رجالاتها الأفاضل، ولا عجب في ذلك فهي منارة الدنيا التي اجتذبت أنوارها آلاف المشاهير والأعلام منذ بنائها. إن من أهم الأمور الكفيلة اليوم بإعادة الاعتبار لأعلام هذه المدينة أن نحفظ ما تبقى من آثارهم من الضياع، وأن نحيي أسماءهم بربطها بالدور التي سكنوها أو المدارس التي وفدوا عليها طلبا للعلم أو الأحياء التي ترعرعوا بها أو المساجد التي انتصبوا فيها للتدريس، مسترشدين في كل ذلك بما توفره كتب الفهارس وكتب التراجم وباقي المصادر التاريخية من معلومات قيمة في هذا الباب، فهي المفتاح لتأهيل المجال العمراني بكيفية تخدم العلم والتاريخ معا وهي روح العمران ودماؤه المتدفقة في عروقه، ولا يكون جسد هذا العمران ذا قيمة مالم تدب الحياة في أوصاله لأنه بغيرها ليس سوى جثة معرضة للتفسخ والانحلال. إنقاذ آثار فاس قضى العلامة محمد بن جعفر الكتاني أربعة عشر عاما في جمع مادة كتابه «سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس» وكان من حوافز تأليفه لهذا الكتاب الموسوعة وقوفه على اندثار الكثير من الزوايا والأضرحة التي تضم رفات خيرة علماء فاس والعالم الإسلامي، فانبرى لتدوين تراجمهم ليحفظ ذكرهم من الضياع إلى أن اجتمع لديه ما يناهز ألفي ترجمة، وقد تحرى مؤلف السلوة الدقة في وصف مَحَال دفن مترجميه معتمدا على بحوث ميدانية وجولات مضنية مكنته في نهاية المطاف من تأليف موسوعته التي تعد اليوم عمدة المؤرخين والباحثين الذين يتناولون سير الأعلام الذين أقبروا بمدينة فاس. إن هذه الموسوعة اليوم مدخل لا غنى عنه في إعادة تأثيث المجال العمراني بفاس القديم، وفق رؤية تاريخية تراثية تنهل من ثقافة هذه الأمة الأصيلة، وما أنفع أن ينبري لهذا العمل جمع من ذوي الاختصاص لربط الأزقة والدروب والدور بتاريخها المجيد، ولو بوضع جداريات أو لوحات تحوي بعض الإشارات التي تحفظ ذاكرة أعلام هذه المدينة العظيمة. إحياء أسماء الأعلام
صحيح أن كتب التراث تمدنا بمعلومات قيمة عن دُور العلماء ومنازلهم وأدوار هذه المنازل وتأثيرها في تاريخ المغرب لكنه ليس من الهين اليسير الوصول إلى تحديد أماكنها لاختلاف أسماء بعض الأزقة والدروب في عصرنا الحالي عن أسمائها في العصور الماضية، ولأن الكثير من هذه المنازل قد انتقلت ملكيته بالبيع من أسرة لأخرى حتى صار من المتعذر معرفة المنازل التي ترد الإشارة إليها في المصادر التاريخية على وجه التحديد، ويضاف إلى ما تقدم أن بعض هذه المنازل قد تهدم واندثرت معالمه فيما اندثر من معالم فاس القديمة، وهنا نشير إلى أن هذه المعيقات لا تحول دون الاستفادة من المصادر التاريخية التي لا يمكن بحال الاستغناء عنها في التنقيب عن معاهد الأعلام وبيوتهم، ومن هذه المصادر نذكر على سبيل المثال «الدر السني في بعض من بفاس من النسب الحسني» لصاحبه المؤرخ النسابة عبد السلام بن الطيب القادري، الذي اعتنى فيه بالتعريف بالشرفاء الحسنيين، ومنها أيضا «جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام بمدينة فاس» لأحمد بن القاضي المكناسي المعاصر للمنصور الذهبي، وقد اعتنى فيه بترجمة الأعلام الذين أموا مدينة فاس طلبا للعلم وأولئك الذين انتصبوا للتدريس بها، ومنها «بيوتات فاس الكبرى» للأديب الأمير إسماعيل بن الأحمر وموضوعه التعريف ببعض البيوتات الفاسية النبيهة وأنسابها مع الإشارة إلى مشاهير المنتسبين إليها . ومنها «زهرة الآس في بيوتات فاس» للعلامة عبد الكبير بن هاشم الكتاني، الذي نحى فيه مؤلفه منحى سابقيه في التعريف بالأسر الفاسية الشهيرة. إن هذه المصادر وغيرها مما كتب في بابها من الأدوات الهامة التي تضيء عتمات البحث التاريخي في جانبه المرتبط بسير الأعلام وآثارهم، فحين نمر من زنقة سيدي عبد الرحمان المليلي أو يعترض طريقنا مسجده المهجور بحي مصمودة يسعفنا كتاب «بيوتات فاس الكبرى» في معرفة تاريخ الرجل الذي يتحدر من أسرة عرفت بالعلم والصلاح وأنه كان قاضيا مشهورا يدخل على سلاطين عصره فيتبسطون في مفاكهته، وإذا قادتنا جولاتنا إلى درب اللمطي علمنا من «الجذوة» أن إبراهيم بن أحمد اللمطي كان أستاذا يقرئ القرآن بعقبة السبيطريين، وتحيلنا زنقة ابن صواف على اللغوي الحاذق والطبيب الماهر إبراهيم بن صواف الحجري الشاطبي، وهكذا لا يخلو اسم حي قديم ولا درب ولا زقاق بفاس من معنى يضرب بجذوره في عمق تاريخ هذه المدينة غير أن فصل هذه الأسماء عن دلالاتها يفقدها الكثير من البريق ويفرغها من معانيها النبيلة وأسوأ منه أن الكثير ممن يعدون من مشاهير أعلام فاس في زمنهم تلاشت أسماؤهم من ذاكرة المغاربة تماما حتى صدق فينا قول القائل «فكم فيهم من فاضل نبيه طوى ذكره عدم التنبيه، فصار اسمه مهجورا كأن لم يكن شيئا مذكورا». مدافن العلماء تستغيث لا شك أن أول ما يسترعي انتباه الزائر بفاس هو كثرة الأضرحة التي تنتشر في مداخل المدينة ومخارجها، بل وفي الزوايا المنتشرة في أزقتها وأحيائها، وقد أشرنا إلى أن محمد بن جعفر قد ترجم لألفين من الأعلام ممن عرفوا بالصلاح والعلم ودفنوا بفاس، ولا شك أيضا أن عددهم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير بالنظر إلى أن منهم من ولد بعد فراغ المؤلف من كتاب السلوة وتوفي بعدها ودفن بفاس، إضافة إلى أولئك الذين لم يشر إليهم محمد بن جعفر رغم وفاتهم قبله، وهؤلاء غالبا من الذين ترد عنهم إشارات قليلة نادرة في كتب السير أو الفهارس دون تحديد لمواضع دفنهم، ومن أبرز الأضرحة المتواجدة اليوم بفاس ضريح العلامة «أبو بكر بن العربي» صاحب «العواصم من القواصم» و«أحكام القرآن» و«المحصول في أصول الفقه» وغيرها من التآليف المشهورة، وابن العربي هذا توفي عام 543 هجرية وهو من أجل علماء عصره، وكان بعض حاشية السلطان أبي عنان المريني قد أوغر صدره عليه واتهمه بمناصبة آل البيت العداء فهم بنبش قبره وإحراق رفاته لولا أن نهاه العلماء عن ذلك، ولا زال كتابه «العواصم من القواصم» يثير الكثير من الجدل إلى اليوم وهو أجل كتاب ألف في الحديث عن الفتن التي حدثت بين الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما كان عهد إسماعيل العلوي أعادت العالمة الفاضلة خناثة بنت بكار الاعتبار لضريح ابن العربي فبنته وأجرت راتبا على من يقرأ به القرآن لانتسابها للبيت المعافري الذي يتحدر ابو بكر منه. وغير بعيد عن ضريح ابن العربي ينتصب ضريح لسان الدين بن الخطيب قرب باب المحروق شاهدا على فظاعة نهاية صاحبه، فقد امتدت إلى ابن الخطيب أيادي خصومه بسجنه وخنقته بإيعاز من بني الأحمر، ثم امتدت إليه ثانية ونبشت قبره وأحرقت جثته. وقرب باب الجيزيين المعروفة بباب الحمراء دفن عثمان السلالجي (الذي قال فيه ابن الأحمر أنه شبيه الإمام الجويني في العلم) وهو الذي نشر العقيدة الأشعرية بالمغرب وقد كان دفنه على مقربة من قبر دراس بن إسماعيل، ودراس هذا أعظم أئمة المالكية في وقته وإليه يعزى انتشار المذهب المالكي بالمغرب، وبباب الجيزيين أيضا دفن ابن آجروم، وهو أشهر نحوي عرفه المغرب في تاريخه على الإطلاق وماتزال آجروميته تدرس إلى اليوم في كل معاهد النحو، وقد ترجمت إلى لغات عديدwzة لأهميتها كالفرنسية والألمانية والإنجليزية. وبالزاوية الناصرية دفن المؤرخ الشهير أبو القاسم الزياني، صاحب «الترجمانة وبالقلقليين دفن عبد القادر الفاسي، الذي قيل فيه أنه في زمنه أحد ثلاثة لولاهم لضاع العلم من المغرب، وإلى جواره قبر ولده عبد الرحمان بحر العلوم الذي خلف ما يناهز مائتي مؤلف. وبالمقبرة الموجودة خارج باب الفتوح اليوم دفن أحمد المنجور وشيخه اليسيتني، وغني عن الذكر أن المنجور من أجل فقهاء القرن العاشر الهجري، وبنفس المقبرة دفن العلامة محمد المسناوي حفيد أبي بكر الدلائي والذي كان من معاصري عبد القادر الفاسي وأحد أنبغ تلامذته. ومن المؤسف أن الكثير من تلك الأضرحة والمقابر وهي تعد بالمئات قد تحولت إلى ملاذ لأصحاب الجرائم والمنحرفين، وطالتها يد الإهمال فيما طالت من تراث فاس حتى أن بعضها صار مطرحا للنفايات ولا يكاد يسلم منها من الانتهاك غير النزر اليسير. إن الاعتداء على مقابر الموتى دليل قاطع على موت الضمائر وانحلال القيم وما يلحقها من تدنيس صورة تعكس مدى الانحطاط الذي نعيشه اليوم على كل المستويات. إن هذه المقابر لا تنفصل عن باقي المجالات العمرانية التي تؤرخ لغنى ماضي المدينة وتنوع أبعاده وتحيل في الوقت ذاته على سبق رجالها في مضمار النبوغ فالحفاظ عليها لذلك جزء لا يتجزأ من الحفاظ على التراث، وواجب أخلاقي لا تكتمل صورة الإنسان فينا بغير الحرص عليه.
منازل العظماء عرضة للإهمال و التهميش
في عام 1889 م تأسست جمعية بيت بيتهوفن بمدينة بون لاقتناء بيت الموسيقار الشهير بيتهوفن، وقد أفلحت في مسعاها وحولت البيت إلى متحف يستطيع الزائر أن يشاهد فيه البيانو الذي وقع عليه بيتهوفن أروع معزوفاته، وبالقاهرة حول أنور السادات بيت أمير الشعراء أحمد شوقي إلى متحف يقصده السياح من كل بقاع الأرض ليروا عن كثب مكتبة الراحل شوقي ومسودات أشعاره وكتاباته نفسها، وبقادش في إسبانيا تحول منزل سلفادور دالي، ملهم السرياليين، إلى متحف يضم أهم إبداعاته، وببرن خلدت سويسرا ذكرى ألبرت إينشتاين بتحويل منزله بشارع كرامجاس إلى متحف. وفي سوريا تحول بيت نزار قباني إلى متحف يجمع تراثه الفكري والمادي وكذلك الشأن بالنسبة لبيت الشاعر المتنبي وديك الجن. إن هذه المتاحف لا تسهم في إحياء تراث الأعلام وكفى بل تسلط الضوء على الجانب الإنساني في حياتهم من خلال تقديم صورة ملموسة عن البيئة التي نشؤوا وأبدعوا فيها وهو جانب غالبا ما تغفله معظم المصادر التاريخية، ومن المؤسف أن منازل العظماء ودورهم عندنا لا تحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به معاهد النوابغ ومساكنهم في كل بلاد العالم . فمنزل الراحل علال الفاسي بدرب بوطويل الذي شهد العديد من الاجتماعات بين قادة الحركة الوطنية في فترة الاستعمار تحول إلى مسكن بعد بيعه لتضيع بذلك معالمه الأصلية التي كان من الممكن أن تسعف الدارسين والباحثين في تكوين فكرة ولو يسيرة عن حياة الراحل الأسرية، وليس منزل العلامة ابن خلدون بالطالعة الكبيرة بأفضل منه حالا حيث تحول مدخله إلى مكان لبيع الألبسة، وغير بعيد عن منزل ابن خلدون يخلد مسكن لسان الدين بن الخطيب لراحة عميقة كأن لم يضم بين جنباته واحد من أعظم فلاسفة ومؤرخي الغرب الإسلامي، وبدرب بوحاج ليس هناك ما يشير إلى أن أبا عمران الفاسي العالم المالكي الفذ قد قضى شطرا من عمره هناك قبل أن يرحل إلى القيروان حيث سطع نجمه. هناك في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط يزدحم الناس على بوابة بيت دالي وأنطونيو جاودي وغيرهما وهنا لا يحفل أحد ببيت ابن الخطيب وابن خلدون ليس لأنهما لا يستحقان الاهتمام ولكن لأنهما ينتسبان لأمة تقسو اليوم على أبنائها، وما أشد قسوتها حين تنفق الأموال الباهظة في تخليد أسماء مطربين لا يطربون أحدا، ولا تنفق في الحفاظ على تراث ابن خلدون وابن الخطيب وأبي عمران درهما واحدا.