في هذه الحلقات، يسرد محمد علال سيناصر، المثقف والمفكر، محطات من حياته انطلاقا من طفولته التي عاشها بمدينة وجدة في كنف أسرة تنتمي إلى الحركة الوطنية، كانت وراء تعرفه على كبار الشخصيات المغربية كعلال الفاسي و المهدي بنبركة ومحمد بلحسن الوزاني وغيرهم. وقد استهوت الفلسفة سيناصر، الذي تابع دراسته في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وواصلها بباريس وألمانيا، مما أهله لتدريس المنطق في جامعة السوربون والعمل في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، كما ترأس قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية في منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو). ويقدم سيناصر، فوق «كرسي الاعتراف»، شهادته على مواقف وأحداث عايشها خلال حياته، سواء عندما تقلد منصب وزير الثقافة سنة 1992 وهو يقول «اللهم لا تجعلني وزرا على وزارة الثقافة» أو عندما عين مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني وبعدها مستشارا للملك محمد السادس قبل أن يتم إعفاؤه سنة 2003 رفقة المستشارين أحمد بن سودة ومحمد عواد، وتوشيحه بوسام العرش من درجة ضابط كبير. «صبر واجتهاد»، هكذا يلخص سيناصر رحلة حياته التي جمع فيها بين الإنتاج العلمي والمعرفي المتنوع وبين التدبير اليومي لعدد من الملفات، سواء في «اليونسكو» أو في الديوان الملكي. - تعرض مدير اليونسكو السابق أحمد مختار مبو إلى حملة غضب اتهم خلالها بتسييس اليونسكو على حساب الثقافة التي تحتل مركز الاهتمام الأول لدى المنظمة الدولية التي يترأسها؛ ما هي خلفيات هذه الحملة؟ من خلال تجربتي مع مدير اليونسكو أحمد مختار مبو، وهو سينغالي، وكان رجلا وطنيا وله تكوين فرنكفوني، بدا لي أنه كان يعتمد بالأساس على القدرات الثقافية الأصيلة للبلدان كيفما كانت. وهذا الاتجاه لم يكن ليعجب جل الأوربيين، فأثاروا ضده حملة كان وقودها هو اتهام السيد مختار مبو بكونه لا يهتم بالثقافة الصرفة، بدعوى أنه يولي عناية كبيرة للهويات الثقافية المختلفة. وفي سياق هذه الحملة تعالت ضده أصوات تقول إنه ضحى بالثقافة من أجل السياسة. وعند دخولي إلى اليونسكو، أدركت أهمية هذه الإشكالية وحاولت الدفاع عن موقف اليونسكو وعن أفكار مديرها لاقتناعي التام بأنه على حق وأنه يريد للثقافة رقيا وتقدما غير محدود. - لا شك أن قضايا الصراعات بين الدول كانت تثار داخل اليونسكو، من قبيل قضية الصراع المفتعل حول الصحراء المغربية؛ كيف كان يتم التعامل مع مثل هذه الملفات؟ كان السيد مختار مبو يحتفظ بالتوازنات الضرورية بين مختلف البلدان كيفما كانت العلاقات القائمة بينهم. وفي هذا الإطار، تمكن بحكمته وحنكته من الاحتفاظ بماء وجه جميع ممثلي الدول، وعلى رأسها بطبيعة الحال دول المغرب العربي. - كيف كانت علاقتك بمدير اليونسكو أحمد مختار مبو، وهل كان قسم الفلسفة يحظى بالأولوية؟ وهل كانت لديك مهام أخرى إلى جانب المهام المسندة إليك بصفتك رئيسا لقسم الفلسفة؟ مدير اليونسكو كان يعتمد علي بالدرجة الأولى بصفتي مديرا لقسم حظي من لدنه باهتمام بالغ، لأنه كان عليه أن يجعل من الفلسفة أمرا يهم الجميع، وليس أمرا خاصا بالثقافات الأوربية، كما كان الحال عليه من قبل في غالب الأحيان. وفي هذا الإطار، كنت أحضر، بالطبع، جميع المؤتمرات واللقاءات الرسمية العامة، بما فيها الخاصة باليونسكو. وأذكر في هذا السياق أنني كنت أول من تحدث في اليونسكو باللغة العربية في مؤتمره العام، ولم يمانع السيد أحمد مختار مبو في ذلك. - ما هي أهم المهام أو الأسفار التي قمت بها في إطار عملك باليونسكو؟ كانت أسفارا متعددة إلى بلدان مختلفة، تنتمي إلى كل القارات، لأن اليونسكو منظمة عالمية تعنى بمد جسور التواصل بين عناصر هذه المجموعة البشرية الكبيرة في إطار الفلسفة؛ فكان أول ما قمت به أن ربطت الاتصال ما بين مختلف المؤسسات الفلسفية في إفريقيا، وتم ذلك لأول مرة في إطار اليونسكو، علما بأنه كان هناك في ما قبل تباعد كبير بين الأفارقة المتفرنسين والمتأثرين بالبرتغال والناطقين باللغة الإنجليزية، وغيرهم ممن حاولت اليونسكو أن تلمَّ شملهم في إطار إفريقي جامع غير مانع. ولست أذكر كل المهمات التي قمت بها، ولحسن الحظ أن بعضها معروف، وعلى رأسه حضور الاحتفاء بأرسطو في إطار اليونسكو، وأقيم بعد ذلك اجتماع دولي في أثينا باليونان بتعاون مع المنظمة الدولية. - هل سبق أن نظمت أنشطة تهم العرب في إطار قسم الفلسفة؟ نظمت معرضا للفلسفة والعلوم عند العرب، شارك فيه الفيلسوف والرياضي المصري «رشدي راشد» وغيره من المهتمين بتاريخ الإسلام من الناحية العلمية وبآثاره التي لا تزال موجودة على الخصوص في متاحف تركيا وغيرها من بلاد الإسلام في آسيا الوسطى. وقد اهتم بالمعرض كثير من العلماء والمفكرين. - كيف كانت علاقتك بالمثقفين خلال فترة عملك باليونسكو؟ عندما كنت أباشر عملي في اليونسكو، كنت أتصل بكبار المثقفين، سواء في فرنسا أو في غيرها من البلدان، وكان الهم الأساسي هو المساهمة في ازدهار الثقافة وترسيخ الاعتقاد بأنها ملك للجميع، وكنت أشعر الذين أتحدث إليهم بأنني منهم وإليهم ومن أجلهم، بما في ذلك الذين كانوا متأثرين بالمواقف الصهيوينة، ومنهم المفكر الكبير ميشال فوكو وبعض أصحابه الذين أخذوا بأفكاري. - هل تخليت عن العمل في المركز الفرنسي للبحث العلمي بعد التحاقك باليونسكو؟ بقيت مستمرا في العمل بالمركز الفرنسي للبحث العلمي، لكن كمتطوع، لأنني كنت قد بدأت عملي باليونسكو، وبقي الأستاذ مارتان يشرف على أعمالي، وكان إذاك مختصا في شؤون المنطق، فعملت في هذا الإطار الذي كان هو مهتما به، والذي يتعلق بالتأريخ لنشأة المنطق الحديث وتطوراته. وفي هذا السياق، يجب التذكير بأن الاهتمام بالمنطق كان يتطلب معارف رياضية خاصة، كما تبين ذلك عبر أعمال العالم الألماني الرياضي المشهور فريجه، وكما يهدي إليه العالمان الإنجليزيان بيرتراند روسل وصديقه وايتهيد في كتبهما المشهورة في هذا الموضوع.