المهنيون الإسبان أكبر المتضررين من قرار محكمة العدل الأوروبية..    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    الجمع العادي للمنطقة الصناعية بطنجة برئاسة الشماع يصادق بالإجماع على تقريريه الأدبي والمالي.. وإشادة كبيرة بالعمل المنجز            آيت منا، أبو الغالي، رأفت وآخرون.. شهود يطلبهم سعيد الناصري في محاكمته في قضية "إسكوبار الصحراء"    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    المكتب الشريف للفوسفاط بإفريقيا ومالي يلتزمان بدعم من البنك الدولي بإرساء حلول ملائمة لفلاحة مستدامة    محكمة أوروبية تصدم المغرب بقرار إلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري        إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    مصدر مقرب من "حزب الله": نصر الله دُفن مؤقتا كوديعة في مكان سري    إليك طرق اكتشاف الصور المزيفة عبر الذكاء الاصطناعي    تحالف للشباب يستنكر فشل الحكومة في التعامل مع أزمة طلبة الطب ويحمل ميراوي مسؤولية فشل إدارة الأزمة    بعد أيام من لقائه ببوريطة.. دي ميستورا يستأنف مباحثات ملف الصحراء بلقاء مع "البوليساريو" في تندوف    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    الحكومة تصادق على مشروع قانون يتعلق بتنظيم مهنة المفوضين القضائيين    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    ارتفاع طفيف في أسعار النفط في ظل ترقب تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط    محكمة العدل الأوروبية تصدر قرارا نهائيا بإلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري مع المغرب    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    آسفي: حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    كيوسك الجمعة | جماعة الدار البيضاء تستعد لبيع ممتلكاتها العقارية بحثا عن موارد مالية    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    الجيش الإسرائيلي ينذر سكان بلدات في جنوب لبنان بالإخلاء فورا ويقطع الطريق الدولية نحو سوريا    وزير خارجية إيران يصل إلى مطار بيروت    المجلس الوطني لحزب الاستقلال سيكون مغلقا في وجه الصحافة وإجراءات صارمة للدخول لقاعة المجلس    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    الجمعية العامة للأمم المتحدة ال 79.. إجماع دولي على مخطط الحكم الذاتي بإعتباره المقترح الأكثر مصداقية والأوسع قبولا    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوار مع علال سيناصر .. الثقافة اهتمام مغربي موصول

} لو نتحدث بداية عن مسارك الجامعي، فأنت متخصص في الرياضيات وابتسمولوجيا العلوم، ثم الفسلفة. حدثا عن هذا المسار الطويل الذي أغنى فكرك وعقلك.
مساري الجامعي كان تلقائيا وطبيعيا جدا، في الواقع همتني الفلسفة وقضاياها منذ أن كنت في وجدة في دراساتي الأولى. وأظن أن ذلك كان نتيجة حديث تلقائي في الإعلام المغربي. وحينما اهتممت بذلك أجبت عن مجموعة من الأسئلة، فحاولت الإجابة عنها وكانت تلك الأمور تدور حول الإعلام العادي حينذاك. المهم أنني لما كاتبت المسؤولين عن البرنامج تحدثوا عنه وسمع بذلك أحد مفكري مدينة وجدة هو »سي يحيى العتيكي«، وهو من الاساتذة القلائل الذين يهتمون بالعديد من الاشياء اهتماما جديا. فبحث عني وسألني عن مرادي من الرد على ما قيل عن الفلسفة في ذلك الوقت، قبيل الاستقلال، اهتمامه بالأمر كان محفزا عن التساؤل عن هذه الفلسفة التي لم أكن أعرفها حنيذاك.
بطبيعة الحال هذه البداية لم يكن من الممكن استغلالها بدون نوع من التساؤلات. فأنا منذ أن بدأت أكتب في الإطارات المدرسية العادية وأنا دائما شغوف بالفلسفة، فبدت لي كأنها أن ما يطلب. لأن الاهتمام بالأشياء الجدية لم يكن تلقاء التدريس، فالتدريس مع أهميته ومسؤوليته في التكوين في الغالب يبتعد عن الأشياء التي تبدو «معقدة« كالفلسفة، فكان تصوري للفلسفة أولا قديما، ونوعا ما مربكا.
كان أحد أصدقاء الطفولة معي ونحن ذاهبان إلى «ثانوية عبد المومن» ومعي أحد الوجديين من العائلات الكبيرة في وجدة وقال لي: هل تعرف ما هي الفلسفة؟ قلت: لا أعرف.
قال الفلسفة هي نوع من الرأي. ومنها أمام حائط فيه فجوة كبيرة فقال: الفيلسوف هو من يقول لك ما تراه ليس كما تراه.
هذا شيء بقي في ذهني. حتى عند الشباب مجرد كلمة فلسفة كانت تثير في الذهن نوعا من غرائب الأمور. لا أدعي أنني كنت أدرك هذه الأشياء. لكن في دراستي الثانوية كانت كلما ظهرت فرصة لها علاقة بالعقليات وبالأشياء العميقة إلا وهمتني. فمثلا حتى في الأدبيات كنت كثير الاهتمام بالأشياء الأدبية ذات اللون الفلسفي. فمثلا كان بالنسبة إلي »باسكال« في »مونتسيكو« لتساؤلاته أو لنوع تساؤلاته، وكان في الأدبيات العربية الميل للأشياء الفكرية والمجردة أهم بكثير من الأشياء الأدبية العادية. رغم اهتمامي الكبير بالأدب.
} نأتي الآن إلى مرحلة الدراسة في ألمانيا وفرنسا، في أحضان المدارس العليا.
كنت في الرباط الثانوية مولاي يوسف. وعلى أساس هذا الوجود اهتممت لا أقول بالفلسفة، ولكن عندي ميولات نحو المفاهيم الجدية أقوى من الأحاديث المتبذلة، وقد كانت لنا أستاذة مبرزة في الفلسفة، وأستاذة أخرى مبرزة في التاريخ، وكلاهما مبزرة في الفلسفة، وأستاذة أخرى مبرزة في التاريخ، وكلاهما اهتم بي لأمر لا أعرفه. لكن كانا يريان، السيدة »أوبراك« زوجة رجل كان يتعاون مع الزعيم عبد الرحيم بوعبيد، وكلتا السيدتين اهتمتا بي الدرس، والسيدة «أوبراك» كانت تهتم بي لدرجة أنها كانت تقول: «حتى م ما يقوله خطأ مفيدا (يضحك) في هذا المناخ بدأت تظهر فكرة أن أتابع دراستي في فرنسا و أن يكون ذلك عن طريق الدخول الي المدارس العليا ولو كان ذلك في إطار لا علاقة له بالعلوم ولكن له علاقة بالأدبيات. وفي آخر السنة حققت أمنيتي، فسجلت في «»ليسي هنري الرابع«« الذي هو من أحسن الليسيات الفرنسية. فذهبت الى فرنسا. وحين وصولي اكتشفت أن تكويني لم يكن في المستوى فحاولت التكيف مع متطلبات هذا التكوين الجديد الذي أقبلت عليه. والتكوين الآخر كان بين دار المعلمين العليا، وبين التكوينات العادية. لم أكن وحدي، ولم نكن كثرة. فهناك بعض الشباب تخلى عن هذا المسار وأنا كنت من الباقين، في إطار »دار المعلمين العليا« التي تضم مدرستين، مدرسة «أولم» والمدرسة الأخرى التي كانت خاصة بأصحاب التكوين في إطار الحداثة، أي الذين لا يهتمون بالأدبيات القديمة. وكنت أنا ضمن من يهتمون بالعلم الحديث، وكان اسم المدرسة »«سان كلو««، وكنا نسميها بلهجتنا »«سيدي المسمار«.« من هذه المدرسة تكونت عندي فكرة أن من يهتم بالفلسفة لا يمكن أن يهتم بالعلوم الدقيقة وبالفلسفة الألمانية التي هي جزء من الفلسفة العامة الد والعميقة. . كان في ذلك الوقت مايزال »هايدغر« حيا وكان لايزال يلقي بعض المحاضرات الخاصة. وحين ذهبت الي ألمانيا تعرفت علي كبار المفكرين، علي رأسهم «»كارناب«« وقد كان أقرب إلي من حيث الاهتمام لأنه فيلسوف مهتم بالفلسفة في جميع أشكالها، و لأنه علمي الاتجاه. و أعتقد أن تأثير «»كارناب«« ترك للأشياء الأخرى اهتمامات توازنت مع الاهتمامات العلمية الصرفة التي اندرجت فيها كما كان يراها تقريبا.
} ماذا كانت نشأتك الأولى. وأقصد البيت الذي رأيت فيه النور. ماذا عن الوالدين، الأسرة؟
كان جدي قاضيا شرعيا في عهد مولاي عبد العزيز وكذلك في عهد مولاي عبد الحفيظ، وقد درس جدي شيكسبير كما أنه كان عالما كبيرا، وكان صديقا للفقيه الجوي الذي كان يقيم في وجدة في ذلك الوقت. كان أيضا متفتحا بحيث أنه كان أقرب لمحمد عبده منه إلى علماء القرويين حيث درس، كما كان يقرأ المجالات الشرقية، كما كان شديد الاتصال بعلماء الجزائر وعلى رأسهم ابن باديس، عن طريق أقربائنا في مدينة «»معسكر«« ومن أحد أصدقاء العائلة هو أحد تلاميذ ابن بادريس الذي هو الشيخ محمد سعيد الزموشي وغيره.
أما الوالد فقد قرأ عن أبيه لأن الجد أنشأ مدرسة في وجدة، وهي مدرسة لازالت موجودة. كان يدرس فيها. والوالد قرأ عليه رفقة سي قدور الورطاسي. كانت لوالدي صداقة حميمية مع الزعيم علال الفاسي. ولما ولد سماني »«علال«« على اسم الزعيم علال الفاسي. وقد كان وقتذاك معتقلا في سجن ين علي مومن بالدار البيضاء. ولهذا حتي في فترة انقطاع صلته بالحزب استمرت صلته بعلال الفاسي. كما كان عضوا في المجلس الأعلى لحزب الاستقلال. وفي هذه الفترة الوطنية الحرجة كان يتباهى بأنه يعلم كل شيء عن رئيس الناحية «»برينال«» وأن رئيس الناحية لا يعرف عنه شيئا. لأنه كان يشغل مراقبي ولم يكن الأمر بالنسبة إليه كالشيء بالشيء. لما علم ا لشهيد المهدي بنبركة بأن «محمد بناصر«« والدي انعزل عن الحزب انتقل الى وجدة حيث كان يقيم عندنا باستمرار، لاقناعه بالرجوع إلى الحزب.
} هل أقنعته؟
لا لم يقنعه، فقد وقعت وقائع كثيرة في وجدة على رأسها «حرب اليهود« التي عقدت الأمور. لكنه كان يكون مجموعة من الوطنيين أصبحوا فيما بعد كبار الشخصيات المغربية، على رأسهم »سي أحمد الفيزازي« وكذلك سي عبد القادر الوكيلي وغيرهما، وأنشأ مدرسة جلب إليها أحد كبار العلماء ومفاخر الوطنيين هو »سي عبد السلام الوزاني«. وأخي رحمه الله السيد الحبيب« وأنا قرأت ا لعربية بعد حفظ القرآن عن طريق سي عبد السلام الوزاني«.
} تحملت مسؤولية؟
أحد أصدقاء في باريس نبهني الى إمكانية الاتصال باليونسكو. وحينما اتصلت اهتم بي بعض المسؤولين وعلى رأسهم الرئيس إذاك الأستاذ «مبو« السينغالي ومدير ديوانه وهو جزائري الجنسية. وألحا علي قبول مهمة في اليونسكو، و بالضبط في إطار الفلسفة. وقد كنت حينذاك لاأزال في الأجواء الفلسفية. فمكنوني من محل مركزي يكون فيه فيلسوف.
له إمكانيات وعلاقات. لابد أن أذكر أنني جئت مكان كبار العرب المهتمين بالفلسفة الذي تقاعد من مهمته. فكان البحث جاريا عمن يعوضه شريطة أن يكون في مستواه الفكري. وقد ساعد على ذلك، كوني جئت من المدارس الفرنسية العليا. ورغم ابتعادي عن الأشياء الادارية، اجتهدت على تحملها كاملة وعلى المضي في الطريق الذي هو طريق اليونسكو. كان الأمر بالنسبة إليّ كأنني بقيت دائماً في إطار اهتماماتي الأولى، بحيث لم أجد في وجودي في اليونسكو إلا امتداداً لما كنت أقوم به من قبل. لذلك، اهتم .. مدير اليونسكو وأعوانه. وقد كان إذاك بالنسبة لليونسكو مشكلة كبيرة خلقها الغاضبون على اليونسكو من أوربيين وغيرهم، لأنهم كانوا لا يرضون وجود على رأس اليونسكو رجل إفريقي حر ك »«مبو«.
«. في هذا الإطار، اجتهدت في الاتصال بجميع أنواع المثقفين لرفع ما كان يُلام عليه السيد المدير من أنه يتحيز لبعض الجهات على جهات أخرى. أعتقد أنني في هذا الاتجاه، ربطت الصلة بكثير من كبار المثقفين بدون تمييز. وأعتقد كذلك أنني بهذا العمل، خدمت اليونسكو وخدمت الثقافة.
} مَنْ مِن كبار الفلاسفة في فرنسا جمعتك بهم علاقة صداقة وفكر؟
هم كثيرون. ولكن أولهم السيد »دوسينتي« Dosenti وجورج »كونغيلام« G. »Conguilam. وقد ربطت هذه الاتصالات تلقائياً. فمثلا »كونغيلام« لما سمع باختطاف »المهدي بنبركة« اتصل بي وكانت كل أسئلته متعلقة بمن المسؤول عن الاختطاف؟ لماذا اختطف المهدي؟ هل الفرنسيون لهم علاقة بالأمر؟ كان جد مهتم وقلق. وهو عالم كبير. وقد ربطتني به علاقة شخصية وفكرية. لا أنسى أيضاً العلاقات العربية التي بدأت من قبلي بيني وبين الأستاذ »«راشد رشيد«« وهو من ألمع المختصين في تاريخ الرياضيات العربية بالخصوص، بل إنه أهم مؤرخ للعلوم الدقيقة عند العرب.
} أثير أيضاً انتباهكم إلى الدراسة الهامة التي وضعتها لترجمة كتاب »«جاك ديريدا«:«« »الكتابة والاختلاف«،« الصادر عن دار توبقال.
كان »ديريدا صديقاً كبيراً«. وأعتقد أنه اليهودي العربي الوحيد الذي نطق بحقيقة تهمه وهي:« »أنا إفريقي«.«. كان رجلاً فريداً. كنت أضاحكه:« »أنت عندنا ابن دريد««. وكان يقبل ذلك برحابة صدر. كان يخاف من الترجمة الى العربية نظراً لخصوصية أفكاره.
} كيف أنهيت مهمتك في منظمة »اليونسكو«، وغادرت باريس للاستقرار في المغرب لتحمل مسؤولية وزير ثقافة؟
لم تكن الأشياء بهذه البساطة. كنت دائماً مصراً على أن يكون لأبنائي ولعائلتي اتصال مستمر بالمغرب، لا لشيء إلا للتشرب بالمعاني الوطنية. فكانت عطلاتي الصيفية تمر كلها بالمغرب، وغالباً بالرباط.في هذه الفترات كنت شديد الاتصال باخي »الحبيب«. وفي إحدى الزيارات، فوجئت وأنا في طريق العودة الى باريس على متن الباخرة من طنجة إلى »سيت«، وإذا بي يكلمني وزير الداخلية إدريس البصري على أساس أمرٍ ملكي من أجل الرجوع الى لارباط. ولم يكن ذلك من الممكن حينها. فواصلت سفري الى باريس. ومن باريس عدت الى المغرب، وبقيت أسرتي عند بعض الإخوان الفرنسيين في الطريق بين باريس ووسط فرنسا. حين وصولي الى المغرب، طلبْتُ إلى الديوان الملكي، وقابلني الأستاذ المرحوم «رضا كديرة». لست أتذكر، ولكنه أخبرني أن جلالة الملك يريدني لأقوم بشأن الثقافة. والحقيقة أن الأمر أزعجني ولم أر كيف أواجهه بشيء غير القبول تأدباً. لذلك كنت وأنا على رأس وزارة الثقافة أردد:« »اللهم لا تجعلنا وزراً على هذه الوزارة«« (يضحك).
كان جلالة الملك رجلا مثقفاً له خبرة بالثقافة في اليونسكو، لذلك كان متشبثاً بي على رأس الوزارة.
} كيف وجدت وزارة الثقافة لما أتيت إليها؟
لما وصلت الى وزارة الثقافة، وجدت بعض الناس يشتغلون بشكل عادي جداً. وجدت المسرح وأشياء هكذا.. كان اهتمامي الأول هو مع من سأشتغل؟ كان همي الأولي هو العثور على مجموعة أعمل معها. فجلبت عبد الله شقرون، لأني كنت أعرف ثقافته، كما رشحه إليّ أحد الأصدقاء. وكان يساعدني في تحرير الوثائق. اشتغل معي أيضاً سي محمد بلعابد الفاسي، وكان مستواه جيداً كثيراً. وقد كان صديقاً لي في فرنسا منذ أيام »مدرسة شان كلو«.
} ما هي الأعمال التي باشرتها؟
كان همي هو معرفة ماهي الثقافات الجديرة بالاهتمام. وجدت عزيز السغروشني على رأس المسرح. فشرعنا في تنشيط المسرح. فجهزناه بمواد قابلة للاشتعال. كان لابد من تزويد رجل المسرح بكل ما ينبغي له من تجهيزات وغيرها.
} تنعت بأنك ذهبت بوزارة الثقافة في اتجاهات جديدة. ما هي هذه الاتجاهات؟
كان الناس يظنون أنني فيلسوف لاعلاقة لي بالواقع. والعكس هو الصحيح. أنا وجهت اهتمامي الى الواقع. لابد للرباط من قاعات عرض، لابد من مسرح، توجهاتي في الثقافة ألخصها في كلمة واحدة: على الفعل الثقافي أن يكون ثقافياً. ليس هناك اعتبارات ثقافية في المفعول الثقافي.
} قلت إن ما يهمك هو ربط الثقافة بحقوق الإنسان؟
كنت أقول كلمة: هناك عقوق اللسان وحقوق الإنسان. وكنت أقول ذلك ساخراً: فكل المغاربة سواسية في حق المعرفة.
} كيف كانت علاقتك بالمثقفين؟
في هذا المضمار، عملت بما عملت به في اليونسكو: لابد في الثقافة من الاتصال بأصحابها. من هنا كنت شديد الاتصال بالمثقفين على رأسهم المرحوم أحمد الطيب العلج الذي كنت أعرف عنه الكثير من قبل، لأنه كان يزور وجدة في أوائل الاستقلال. لم يكن لي أي تردد في الاتصال بمثقف يفيد الثقافة والوزارة كيفما كان. كما كنت أعمل في اليونسكو. إن مبدئي العام هو أنقذوا الإنسان Sauvez l'homme. هذا كان شعاري في الوزارة للإصلاح. فإنقاذ شخص واحد زيادة في البشرية.
} ما هي رؤية الملك الحسن الثاني للشأن الثقافي؟
يمكن أن أقول أمرين: أمر فني هو أنه كان دقيقاً في ما يقول ويكتب. بمثال: كتبت له مَرة رسالة كان يوجهها لأحد كبار العائلة المالكة الانجليزية، فقرأها وردَّها إليَّ بملاحظة واحدة، ملاحظة لا يمكن أن ينتبه إليها إلا لغوي من طراز «Vaugeles» (فوجلا) عند الفرنسيين أو سيبويه عندنا. كان الملك رحمه الله دقيقاً ورقيقاً في لغته، يقرأ الجملة مرتين أو أكثر قبل أن يرضى عليها.
} بعد سنوات من تحملك مسؤولية وزارة الثقافة، أنجزت ما أنجزت، وبعد طول تأمل، ربما قررت إخراج كتاب حول هذه المهمة. ما الغاية؟
إنها تجربة كنت مهتماً بها، وقلت ربما قد تهم المهتمين بالثقافة اليوم حتى يكونوا لانفسهم نظرة تاريخية عن الاهتمام بالثقافة في المغرب. إن الثقافة اهتمام مغربي موصول: في القرويين والمسيد. لقد كانت هناك أسس تكون الثقافة المغربية ولا ينبغي أن تزول. وهذه الأسس تقوم على ثقافة عربية اسلامية. ولكن لا ينبغي أن تكتفي بهذا فقط. هناك مسائل علمية تهم الأدب والفقه والفكر والحداثة. على القيمين على وزارة الثقافة تطوير الرؤيات للمسألة الثقافية.
يرسم شارل بيلا لوحة صورة متكاملة عن طبيعة القاصّ ووظيفته في الثقافة العربية الكلاسيكية. إنه شخصية متعددة المشارب والوظائف، مكلفة بنشر الإيمان بواسطة الكلام. فمع القاص، نبتعد عن الخطاب العالِم، أو التأمّل الصوفي، لنتتبّع الحوار بين رغبة ووظيفة، رغبة المؤمن الذي يحتاج إلى العقيدة، ووظيفة من يقدّم هذه العقيدة، ويتولّى، لتحقيق هذه الغاية، تقديم تشخيصات معيّنة: فقد يكون قاصّا خطيبا بالمسجد، أي شخصية رسمية مكلفة بإلقاء خطبة يوم الجمعة، أو قاصا «شعبيا» يلقي مواعظه وأحاديثه أمام العامّة معتمدا على «سذاجة الجماهير»، فيكسب عيشه بإنشاء الحكايات المؤثرة والقصص يثير بها عواطف الجماهير شأنه في ذلك شأن شعراء الجاهلية الذين كانوا يستثيرون النزاعات القبلية، ويعطينا «المدّاح»، في إفريقيا الشمالية اليوم، فكرة صحيحة، إلى حدّ ما، عما كان عليه القاص في القرون الوسطى.
كان القاص، بحكم بساطة خطابه، وفعاليته كذلك لكثرة تصويره، يتمتع بشعبية كبيرة لدى العامة، وهي شعبية تفوق تلك التي كان يتمتع بها الفقيه والعالم اللذين لم تكن شروحاتهما وتفسيراتهما دائما في متناول الجمهور العامي، الذي يميل إلى العجائب والوصف التصويري الدقيق، ويمثّل نوعاً من الذوق العام.
تاريخيّاً، ارتبط ظهور القصّاص، أولا، بالفتن التي عرفها العالم الإسلامي في العصر الأمو4، حيث كانوا يقومون بإذكاء حماس الجيوش الإسلامية من خلال تفسيراتهم المتعلقة بالجهاد والتواب والجنة والنار. ورغم كون وظيفة القاص، في البداية، كانت إسلامية بحتة، وهذا ما جعلهم يقومون بهذه الوظيفة داخل المساجد، إلا أنه سرعا ما اكتسبت سمعة سيئة، نظرا لكوْن بعض القصاص بدأوا يمزجون وعظهم وقصصهم الإسلامية بأخبار يهودية ومسيحية، وبحكايات شعبية ما قبل إسلامية. ولم يسلم من هذا المزْج حتى أولئك الذين كانت نواياهم صادقة؛ ومن ثمّ صار حديث «إن بني إسرائيل لمّا قصّوا هلكوا»، علامة سلبية في وجْه أصحاب القصص. وهذا ما جعل ابن الجوزي قاسيا معهم، ومهاجما إياهم في كتاب يحمل عنوانا دالا، هو «تلبيس إبليس»، يقول: خسّتْ هذه الصناعة، فبعد عن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم، وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة، وتنوعت البدع في هذا الفن. يستنتج من هذا القول ، وبغض النظر عن خلفيته، أنّ الوضع الاعتباريّ للقاصّ، انتقل من الوعظ إلى التسلية، ومن الخطاب الجدي إلى الخطاب الذي يتلاءم مع أذواق العوام ويشدّ مسامعهم، أي انتقل من القدسي إلى الدنيوي. بمعنى أن وظيفة القاص كانت تستمد مشروعيتها من الجمهور. فالقاص يشبع فضوله الخيالي ويحقق له رغبته في التصوير والتشخيص، وفي إعطاء التفاصيل المثيرة عن الأحداث والأشخاص، أي أنه يتكلم وفق أفق انتظاره.
وهكذا، فإن القاصّ كان حاملا لخطاب ذي وظيفة اجتماعية تستجيب لرغائب العامة، وتخاطب مخيلتهم وعواطفهم. وهذه الوظيفة أساساً ذات موضوع ديني. وهي خاصية تميز القصّاص عن رواة الحكايات والمسامرات والمقامات. ولأنهم كذلك، فقد كانوا يعرفون كل شيء، ويجيبون على جميع الأسئلة. فمثلا، يروي ابن الجوزي كيف أن والدة أبي حنيفة أرادت أن تعرف بعض التوضيحات حول مسألة من المسائل، فاتجهت إلى أبي حنيفة الذي أجابها بجواب لم يشف غليلها، ثم طلبت منه أن يرافقها إلى أبي زرعة القاص الذي أكد لها جواب ابنها بطريقته الخاصة.
إلا أنّ حملة الفقهاء ضدّ القصاص كان مصدرها سببٌ آخر، هو روايتهم لأحاديث نبوية خالية من الإسناد، أو ذات إسناد ضعيف، أو قيامهم برواية أحاديث موضوعة، أو مطبوعة بطابع الإسرائيليات، حسب الشروط التي وضعها القدماء لصحة الحديث. وهذا الوضع، لم يكن مصدره، حسب غولد سيهر، تشيعا مذهبيا ولا سياسيا ولا دينيا، بقدر ما كان القاص يهدف، ببساطة، إلى الوعظ والترويح على الجمهور، أو إلى البحث عن الربح المادي؛ وهو السبب الذي كان يؤدي، في الغالب، إلى الغيرة والحسد. لهذا أصبحت عبارة ?القاصّ لا يحب القاصّ? بمثابة مثل سائر، وعنوان على المنافسة حول كسْب المزيد من الآذان.
وعلى صعيد آخر، فإن القصّاص نوعان، وذلك تبعاً لمضمون خطابهم، وتبعاً ل «الحدود المنطقية» لهذا الخطاب: هناك، من جهة، قصاص العامة، الذين يروون قصصا ذات طابع تخييلي مرتبط بمشاهد القيامة وأهوال القبور، وبحضور قسط كبير من الغرائبي والعجائبي، وتمتح من الأخبار والأساطير، وتعبر عن أحلام الطبقات الدنيا وآلامها وآمالها ومخاوفها، وكل ما يعبر عن نزعاتها المكبوتة، وكان هؤلاء القصاص يتميزون بالشفهية، وبقدرتهم الكبيرة على ارتجال الحكايات .
فهم الذين لعبوا دورا كبيرا في استكمال خطاطة المتخيل المتصل بتفاصيل الأمم الغابرة، وبالمباني والقصور والمدن التي شيّدها النبي سليمان والإسكندر. وذلك بفضل لغتهم التصويرية والتشخيصية والمثيرة، القائمة أساسا على ثنائية فعّالة هي ثنائية: الترغيب والترهيب. وإذا كان الفقهاء يتوجهون في أغلب الأحيان إلى فقهاء آخرين، أو إلى مؤمنين يعرفون خطابهم قبل سماعه، فإنهم لا يتوجهون إلى العوام، الذين يجهلون لغتهم «الفكرية»، ويفهمون لغة القصاص «التصويرية»: القادرة على خلق «تشخيصات المتخيل». ومن ثم يكون كلامهم فعالا ونافذا، لكونه ينفذ إلى أعماق الناس ويعكس رغبتهم في العيش بإيمان تشخيصي يستمد قوته من مصدر مجهول، ومن الحاجة إلى العجائبي.
ومن جهة أخرى، فإن الفضاء الواسع الذي يتحرك فيه قصاص العامة، يسمح لهم بالاتصال المباشر والفعال بأكبر عدد من الناس. ويتشكل هذا الفضاء الواسع من الأزقة والمساجد والأسواق والمقابر والساحات العمومية.
أما النوع الثاني من القصاص، فهم قصاص الخاصة، الذين يقتصرون، في غالب الأحيان، على مجالس الذكر أو العلم، وعلى الوعظ والإرشاد وإلقاء الخطب الدينية بالمساجد أو داخل البيوت. وكان أغلب هؤلاء القصاص من النساك والزهاد الورعين.
هناك تمييز آخر ينبغي القيام به، ويتعلق الأمر بطبيعة هذه المجالس التي كانت تعقد في فضاء ضيق ومحدود. إذ نجد، من جهة، مجالس ?رسْمية?، خاصة، تعقد بحضور الخليفة أو الوزير. وهي مجالس تتطلب تمكنا من فنون الرواية والأخبار والآداب، أي تتطلب إتقان فن الكلام. إلا أن هذه المجالس، هي إلى المناظرة أقرب منها إلى مجالس الوعظ، والترغيب والترهيب والتذكير بعذاب القبر وسؤال الملكيْن وعذاب القيامة. ونجد، من جهة أخرى، هذا النوع الأخير من المجالس التي يكون محورها أحد الزهاد أو أصحاب الكرامات أو العلماء أو الأدباء. ونجد، ضمن هؤلاء، حتى مؤلفين عُرفوا بكتاباتهم «العالمة»، أمثال أبي حامد الغزالي الذي خصص كتاباً لهذا الغرض يحمل عنوان «الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.