بالنسبة لي كان هذا التعريف ولا يزال ذروة السخرية من الشعر والشعراء، فضلا عن كونه يحمل في طياته وفي جوانبه الظاهرة تهمة ثقيلة:التفجير. وقد تلقفه كثيرون كما يتلقف طفل قطعة حلوى ولاكوه بتلذذ في السر وفي العلن.ثم تجاوزوا ذلك إلى وضعه موضع التنفيذ..أعني شرعوا فعلا في تفجير اللغة والنيل من تراصها..ولماذا تصلح أصلا هذه اللغة، التي يتم قرنها غالبا بالأم؟ وطوال عقود نِيلَ حقا من اللغة ليس باعتبارها مادة خاما يُنْحَتُ منها ما يتبادر في الذهن من الأشكال والمعاني، ولكن باعتبارها حجر العثرة قدام تلك الأشكال والمعاني. تم ذلك أحيانا من خلال إخراج العبارة «تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة» من سياقها الخاص بقائلها.. لقد ارتد العجز عن قول المرتجى إلى إدانة للأداة وتشهير بها. ويكاد الشعر المغربي دون غيره يفيض بالحديث عن الشعر في الشعر بالشعر..الميتا شعر كما يقولون.. إن الإشكالات التي كان على النقد أو نص شعري كبير واستثنائي أن يجيبا عنها بقيت عالقة، فتقاسم الإجابة عنها الشعراء العاديون.. وفي غياب علاقة وطيدة وسليمة باللغة من الطبيعي أن تنبثق الشكوى فنكون تبعا لذلك أمام صنفين من المشتكين: واحد يعلنها صراحة أملا في رفع الحجرة من أمامه، والآخر يكتمها خوفا من الفضيحة ويشرع في الانتقام.. بين فاضح نفسه وبين ساترها تتأسس كتابتان:الأولى ترى بعيون مفتوحة حد الجحوظ ما لها وما عليها وما ينبغي أن يكون، والثانية عمياء تخبط حيثما واتاها الخبط.. النتيجة الحتمية لتناقض كهذا أن الثانية تشرع في نسف الأولى كما ونوعا، ومن هنا يجد الجيد تفسيرا لندرته. كما يجد تفسيرا رغم وجوده اليسير لاختفائه تقريبا.. حين اشتكى الخليفة الموحدي لابن رشد «قلق العبارة» الأرسطية كان ذلك تحريضا ضمنيا للفيلسوف على مزيد من الاجتهاد. وقد تلقف الفقيه القاضي الإشارة وأنزل الفلسفة من برجها وجعلها تمشي في الممرات الفخمة، وفي الوقت نفسه كان يمهد لها سبيل الخروج إلى الممرات الأقل فخامة.. في الشعر حدث نفس الشيء تقريبا..فقد كان الشاعر «يوفي المعنى حظه من العبارة» كما يقول قدامة بن جعفر، وشيئا فشيئا يرتقي سامعه إلى درجة قد يشكل فيها أحيانا خطرا على الشاعر نفسه (كم عدد السُّمَّاع الذين صاروا رواة ثم انقلبوا في الأخير تحت ضغط الإغراء المادي أو العصبي إلى نُحََّال).. حدثت النكسة حين بدأ التنكيل بالأم فطفت على السطح حشود من «المساخيط» حين تقرأ لهم تدرك بلا أدنى جهد أنهم أقرب إلى المدمنين، يدخلون ويخرجون في الكلام، منهم إلى الأسوياء..