- 1لو أن ناقدا بحث عن مدخل لقراءة فاحصة لرواية حسونة المصباحي الأخيرة 'يتيم الدهر ' (جداول، بيروت، 2012)، لما وجد أفضل مما كتبه المؤلف التونسي نفسُه في نهاياتها في فقرة دالة بذاتها، بإعلانه: 'باستطاعتي أن أقول إن الرواية تنتظر هوميروسَها [هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة]. هذا شيء ينطبق على حال العرب اليوم، فهم لم يعودوا 'أمة الشعر ' كما كانوا يزعمون في القديم، وما يُكتب من شعر اليوم ضعيف ومبتذل في غالبه، لذا قد يكون الاعتناء بالنثر هو وحدده القادر على أن يعيد للغة العربية بهاءها ونضارتها ورونقها. ولكن هل هناك 'جاحظ' آخر للقيام بهذه المهمة؟ لا أراه لا في المشرق، ولا في المغرب'. (234). فهذه الفقرة الجازمة، وبصرف النظر عن نوعية أحكامها، تقر بعجز معين، يتعدى المُدانين كتابا وشعراء، والجنسَ شعرا ونثرا، إلى حصر أزمة يعيشها المؤلف، ويمكن اعتبار الكتابة عنده، ومنها عمله الأخير، محاولة للانتصار على عوائقها. 2 ذلك أن الكتابة(الأدبية) بما هي ممارسة المؤلف، والتدوين الشخصي بصددها، باعتبار المصنَّف المنشور، تتبوأ موقع الصدارة (البطولة)، فهي أداة التعبير، والمتنفس، وخطاب التعرية والفضح والتنديد والغضب، والتطهير(الكتارسيس) والرهان في آن، بها يحقق المؤلف (البطل) ذاته أو يخسر. ولعل مفردة الخسارة هي دينامو هذا الكتاب السردي الذي لابد أن يحيّر قارئه بين البدء والختام وبعدهما. تقدح زناده وهي تشحنه كلما تقدم في التكون، تغلي فصوله بالغضب والعنفوان، فتراه و هو يبني يحطم، ومن حطام ما بناه يحاول استئناف غضبه والعنفوان، وهكذا. 3 إن ثمة، دائما، بناءين في البناء المتكامل: واحدٌ للمعنى، وثانٍ للشكل، كما هو الشأن، ببساطة، في كل عمل أدبي، إن كان المراد هو ذا فعلا. ففي الأول، تطمح الكتابة (الرواية المفترضة، إذ علينا أن نفحص دائما كيفية التكوين، وهل الجنس الأدبي يُنجَز تدريجيا، وبأدواته، أم هي فرضية اتفاقية، أو اعتباط تجنيسي، نظيرَ ما نشهد في السنوات الأخيرة، مما لا يجادل فيه الناشرون، ولا يكاد النقد يحفل به، غارقا في لجة المضمون) إلى إنجاب مولودها، بحياةٍ ومثالٍ ومعنىً، وفي الثاني بأن يأتي الإنجاب في أحسن تكوين. ولا مُعوّل على من يخالف هذا المذهب، فهو إنما يؤكده لمّا يبحث عن إبدال، وهذا من شأن تاريخ الأدب والفن عامة. ما أحسب حسونة المصباحي، وهو يخوض مغامرته الجديدة فبهذا الحس يقتحم الكتابة إلا من هذه الجِبِلّة، ورفض الانصياع للمألوف ديدنُه، لكنه لا يستطيع في آن الإفلات من شَرَك سؤال النوع الأدبي، وبالطبع، من تبعاته. 4 لذا يرى التحدي مطروحا، في الغرب والشرق، مشرقا ومغربا (أي ما يعني كتاب المغرب العربي، الذين ينتمي إليهم أصلا). من أين للرواية اليوم أن تعثر على هوميروس جديد، أي كيف تستعيد فخامة ومجد الملحمة في زمن كفّت ملحميته، علما بأن لا أحد في الغرب يريد إحياء هذا المجد، ولا إمكان للنسج على منواله، ولا أدباء العرب طموحهم تعويض الجاحظ ولا التوحيدي، وإن كانت مهمة إعادة بهاء النثر ورونقه مطلوبة، بالنظر لعرامة الإسفاف والركاكة العائمين، اللهم أن يتصدى المصباحي لهذه المهمة، أوليس 'يتيم الدهر '؟! ما نظن أن الاعتراف بالعجز مكابرة، بل هو إقرار بحالة ارتباك، بين المُواتي وصعب المنال، على الأقل بالنسبة لمن يقوده الغضب منذ تفجر عنفُه في سيرته الروائية الأولى 'الآخرون '2008) ثم الثانية 'رماد الحياة '(2009). الغضب مُواتٍ جدا، وهو متدفق في عنفوان لا يعدله إلا حجم الخسارة التي تفجره، وهو انفعال، والكتابة ضبط. تحتاج هذه إلى قالب وتطريق، والشعور يغذيها لكنها بالوعي (الفني والفكري) تنضج وتصنع معناها، قد تمثلت بنيتها كفن. 5 هذا هو الصراع الأدبي الذي خاضه حسونة المصباحي في 'يتيم الدهر'، ونظن أن نتيجته ستحسم في الموقع الذي تشغله كتابته بين الأنواع، بصرف النظر عن قيمتها، هل هي رواية، (Roman) روائية، أم نص هجائي، احتجاجي، صارخ ومستقتل لنصرة قيم عظيمة وفضلى ( Pamphlet) وبالتالي (Pamphl'tique) كأن لا جُناح عليه من ناحية الالتزام بمعمار الرواية ونظامها، أم سيرة ذاتية تتخفى مناورةً بين الروائي والتخيييل الذاتي، بحكم رفدها من التاريخ الشخصي الصرف لمؤلفها، وامتصاصها الممتد لعناصر متحققة من معيشه وثقافته ومزاجه، أم هي ببساطة وصريح العبارة (هجائية) كميسم عام، ونزعة، يمكنها أن تتخلل كل ضروب النوع السردي وتتلبسه على هواها، أو بالأحرى هوى صاحبها، يطلب القصاص مما لحِقه وعالمه المسحوب خلفه من خسارة، وهو عنده أعز ما يُطلب. ولا يصح القول، هذه كتابة مفتوحة، فمثل هذه الرطانة لا تنطلي على نقد يحب أن يتعامل مع نصوص تعلن تجنيسها وتحتاج أن تتحمل مسؤوليته، أو تنصرف إلى غيره، كما هي القراءة مسؤولية. وما كنا لنلح في هذا الصدد، وفي معالجات أخرى، على هذا التخصيص، لولا أن الكتاب أنفسهم يوسعون في نصوصهم الروائية حيزا فسيحا للميتا خطاب، مسائلين ومتسائلين عن الأنواع وجدواها وحدودها، وكيفية التعامل معها، والحركة في مساحتها وحدودها، متشاغلين بذا عن همّ صناعة الرواية الأجدر. 6 أقول، ما كنا لنمعن في التوقف عند هذا التخصيص لولا أن حسونة المصباحي يتخذ من موضوعة الكتابة قضية فنية وإشكالية وجودية، ومعْبرا لاستعادة الأزمنة الغابرة بمُثلها وتراثها المخيالي الباذخ، مقابل حاضر متفسخ ومتراجع. وهو يذهب في هذا المنحى شأوا بعيدا يصل إلى المضارعة والتسفيه والإنكار، لا يكاد يُبقي ولا يذر، جاعلا، هنا حد الخطورة، فلوبير المثال وسدرة المنتهى، يسكنه بطله الافتراضي 'يونس' الأستاذ الجامعي، المختص بالآداب الفرنسية، ومدرس نصوص فلوبير في الجامعة، ينفعل بها نثرا يكاد يبلغ عنده درجة التقديس ' وهو يعتقد أنه لا أحد من الكتاب العرب يشبه فلوبير في انشغاله المطلق بالأدب غير الجاحظ '(95) وانجذب إلى عوالمه، هو مثله الأعلى في الكتابة والخبرة بالحياة(114)، ومدام بوفاري، التي قال عنها فلوبير 'هي أنا' صارت أناه (115)، ومثله اختار الوحدة كي يخلص للكتابة: ' منذ أن أحس أن الكتابة ستكون مصيره حتى النهاية، اختار فلوبير الوحدة مصيرا أيضا '(173). وفي كتابه 'ثلاث حكايات' عثر على ما لم يعثر عليه في جميع الكتب التي قرأ من قبل 'وأسلوب مؤلفه: 'خارق، وبلغة شاعرية مكثفة' (98). وإذن، وإذ الأمر على هذه الدرجة من الإعجاب بالمؤسس الحديث للرواية، أفلا يحق لنا مساءلة المؤلف، بالأحرى نصه، عن موقعه من التصنيف الإجناسي، ومن ثم علاقة هذا بالخطاب الفائض في كل اتجاه. بلى، ومدخلُه قصة الرواية التي سيكتشف القارئ بيسر أن خيطها الناظم السيرة الناعمة، السطحية لبطلها هي مجرد تعِلة، لنشر الخطاب المعني، ودفعه ليتفشّى، كما لو أنه وباء، يتصدى لأوبئة شحَذَ الكاتب قلمه لاستئصالها. فلنتعرف عليهما معا، وقد وضعنا أسس القراءة. 7 يدفع حسونة بقناعه 'يونس' يوم بلوغه الستين، ليستعيد وقائع حياته حتى هذا العمر، وجملة ما عاش وعرف وتعلم وخبر وخسر خاصة. وقد عاش زواجا فاشلا بعد حب، وإنجابه، وعودة لوثة الحب، ومحاولته إعطاء معنى للحياة بواسطة الكتابة، يفتح له فلوبير بابها، رغم 'أن الكتابة في هذا البلد[تونس] لعنة ومحنة ' (127)، وعكوفه على ملذات الحياة وشبقه، وشغفه بالحكايات خاصة يرويها، يفصلها، يستعيدها من غابر، يستنبتها من تاريخ، وأخيلة شعب ومروياته، من الثقافة الشعبية ومخيالها الغني، من أحداث الزمن الجسام، وما خبر به الزمنُ الرجال والنساء والدول من عظام الأمور وصغارها: 'حكايات، حكايات، تفضي إلى أخرى، والحياة نفسها حكاية، فيها يمتزج الضحك بالبكاء، والحزن بالسعادة، واليأس بالأمل، والخوف بالشجاعة، والضعف بالقوة، والمرض بالصحة، والخيانة بالحب.. وشهرزاد لا تتعب من رواية الحكايات. '(114). فعلا لا يتعب المصباحي (بطله المزعوم)، قد تقمّص دور شهرزاد وانطلق يحكي على هواه، نحتاج إلى ترتيب حكاياته من كثرتها وتصنيفها، وفي الأخير البحث عن ما ينظمها في سلك إن وُجد، وما يمكن استخلاصه منها قيما واعتبارا، وعن صلتها خاصة بحكاية بطله وسارده، المركزية، لو عُدّت كذلك. 8 لا نرى لزاما إنجاز هذا مُجتمِعا، حسبنا الإشارة إلى: القصص التاريخي(قيام الدول وانحطاطها وسقوطها، هي وشخصياتها: تأسيس الدولة المرابطية، وقوة بأس يوسف بن تاشفين وانتقاله إلى الأندلس ليشهد تصدع دويلات ممالك الطوائف وخاصة مملكة المعتمد في إشبيلية ونقل ابن عباد أسيرا إلى أغمات جنوبي المغرب ليفني هناك هو وعائلته. ظهور المهدي بن تومرت في دعواه الإصلاحية، وسيرة استيلائه على الحكم وبطشه بخصومه). (مناقب الأولياء: غرس الله وكراماته، وهي حكاية طويلة، تتكون من عشر حكايات، تتبع ولادته وتنقلاته وخوارقه، الغريب العجيبة. حكاية الرجل الأزرق' وحكاية 'عائشة الشقراء'). فإذا انتهينا من هؤلاء سواء ببطولاتهم، أو كراماتهم وما يجسدونه من بطولة أو انتصار للحق أو دفع للظلم، أو زهد وتقوى، وغيرها مما يكون قد وقَر في نفوس الناس عنهم، وتبجيل للمقدس وسطوته في مواجهة العجز وبطش الحكام، سرد لنا المؤلف حكايات قريبة، هي بنت زمنه، ولصيقة ببطله، أقرب إلى التصديق، وألصق بالرواية، ومجرى الخيبة والخسران الذي تمشي فيه. وهي حكاياتٌ، بالأحرى قصصٌ، باعتبارأن الحكاية مشدودةٌ إلى الماضي، وتشكيلُها طقوسي، وتمثيليتُها رمزية استعارية، ودلالتُها فوق واقعية، ومرجعيتُها عجائبية. بينما القصص تعرض لشخصيات تؤثت الرواية، وصحبتِ البطلَ في جزء من حياته، وتُعتبر على نحو معين، وبنسب مختلفة، بُعدا من شخصيته، وهي كذلك ذات طبيعة سيرية، لكونها تمثل امتدادا لسيرة المؤلف نفسه، مطروحة على نسق التخييل الذاتي، الذي عودتنا عليه كتابتُه، وأضحى علامة على جيل كُتاب لا تستقيم الرواية عندهم إلا على منواله، وتتنوع أضربُها وفق تشكلاته، ولذلك سيصعب تصنيف هذه المحكيات، رمزية وواقعية، وسيظل الاختلاف قائما بشأن وظيفتها، وإن كنا حسمنا أمرنا معها نعتبرها مساندة للخطاب الدَّعَوي. 9 هذه أهم الشخصيات الواقعية في 'يتيم الدهر': هشام، العائد من منفاه بالغرب إلى بلده تونس، حيث سيكتشف على مضض تبدل الأحوال، ويتعذر عليه التعايش، ماديا وثقافيا خاصة، وينتكس لدرجة فقدان الصواب. وهي شخصية نمطية تقريبا عند الكاتب، صدى لتجربة عودته الشخصية من اغترابه في ألمانيا ردحا من الزمن، (أنظر 'رماد الحياة'). سمير، امتداٌد وتنويعٌ على بطل الرواية وشخصية المؤلف. والأهم هو شخصية بشير، وهو شخص متحقق وموثق في الواقع، وليس لنا إلا أن نصدق كل ما يرويه المؤلف عنه، لأن كل من يعرفون الصحفي والمثقف التونسي المستنير الراحل صالح بشير، بل ولنا، لي شخصيا أن أتحقق مما ورد من معلومات عنه، لمعرفة قوية به، ولأنه ليس مطروقا بتاتا على صعيد التخييل، ليقبل التأويل عندئذ، بل يرِد شاهدا وضحية في بانوراما مأساوية وخيبة جيل بأكمله. وربما تختصر قصة بشير مسار عديد مناضلين ومثقفين وأدباء من العالم العربي وبلدان الجنوب عامة، ممن نفوا وتشردوا وتنقلوا في الأرض فرارا من جبروت الحكام وبحثا عن الحرية ونُشدانا لعالم أفضل، حتى لو كان وهما. وحين بدأت الأنظمة تنهك سمحت لهم بالعودة لتلمّع صورتَها، فعادوا بدوْرهم منهكين، مستنزفين بالمنافي، ولم يجدوا إلا الموت خلاصا! يستعرض المؤلف مباشرة ذكريات تجمعهما، وتقول الضحية واصفة العلاقة: 'أنا وأنت من جيل الأوهام والأحلام يا صديقي، وكثيرون منا دفعوا الثمن غاليا بسبب ذلك '(206) في مدخل استعراض طويل عن حياة صالح بشير، التي نعرفها نحن زمرة أصحابه، وكان متاحا أن تشكل نواة مادة روائية بمفردها، لولا انحشارها في زحام الحكايات والقصص، وقصرها على الالتزام بصك الإدانة الشاملة ضد المرحلة التي عاشتها (البورقيبية والناصرية والقومية التي عاشتها، وما تلاها) ليتحول إلى بوق ينفخ فيه بما يشاء وكيف يشاء وهو يجتر جهرا وسرا تلك الأقوال الحسرات الكبرى لجيل هزيمة 67 وصُعُدا، هي صفحات طويلة، مريرة، شحنةُ غضب ولوعة، وقرف، وسوداوية، بل ويأس مطلق، يحوّل ما يفترض سياقا روائيا إلى حائط مبكى (انظر الصفحات من 218 إلى 222 على سبيل المثال، تنبيك بالخبر). 10 وفي بحر الحكايات والقصص التمثيلية والعِبَرية، وبقياس المثل العربي أن 'الشيء بالشيء يُذكر 'تظهر للكاتب، وفي سياق حملته الشعواء على الطغاة والظلَمة والمفسدين الفرصة مواتية، خاصة وهو ابن تونس التي فجرت ما سُمي ب 'الربيع العربي 'التي أطاحت بحكم رئيسها الهارب زين العابدين بن علي، ومعه حاشيته الكبرى ترأسها زوجتُه ليلى الطرابلسي، المرأة الحديدية التي حيكت حولها غرائب الحكايات، في الداخل والخارج، عن سطوتها، وتمكُّنها من قلب بعلها، وتسلط عشيرتها، ومثله مما سارت بذكره الركبان. هكذا يفرد المصباحي في يتيمته فصلا خاصا عن 'السيدة الأولى'، مَنشئها الفقير، تربيتها، بواكير جمالها، مراحل تدرجها في الغواية والإيقاع برجال الحكم في شَرَك مفاتنها، حرقها للمراحل لدى ارتباطها بمدير الأمن الداخلي الذي سيترقى وزيرا للداخلية فرئيسا للوزراء فمنقلبا على الرئيس العجوز الحبيب بورقيبة، ليحل محله في قصر قرطاج، وشجرة الدر التونسية تصبح مع الأيام هي الآمر والناهي، يعرض صاحب اليتمية الجديدة معلومات وأمثلة عن تنفذها، وهو مما كانت رائحته فائحة والشارع التونسي يتندر به، ولكن بتكتم وخفَر. أمَا وقد وقعت الواقعة، وهي الخافضة الرافعة، فقد فُتِحت الأفواه، وتدلت الألسنة المزدَرَدة أو المهادنة، وخرج الذين لبثوا في كهفهم سنين عددا إلى دائرة الضوء، وها هي الصفحات البيضاء تمتلئ بالكلمات السوداء، عن تاريخ مدلهم ، ولِمَ لا تُدلي الرواية أيضا بدلوها في بئر هذا السواد! 11 ورواية حسونة المصباحي تُدلي بأكثر من دلو، لكن على طريقة صاحبها، أراد لها غير ما تذهب إليه الرواية، تقليدية، وتحديثية، ومن أي طرز مجدد كان. نعم لقد افترض لها قصة شخصية مركزية، تسرد حياتها الخاصة، وأخرى متقاطعة ومتخللة بحيوات غيرها، في إطار زمان ومكان محددين وعائمين، في آن. لكن مؤلف هذه الرواية ربط بطله إلى أطروحات سابقة على تكوّنه، مبتسرة لتمثيله، ناتئة قبل حياته الروائية، التي تمتح عادة من الواقع وتتخطاه. وهو حدد مقولات وثوابت من ثقافته ومبادئه ومعتقداته شعارات معلنة من مدخل العمل لا مستنبتة منه، ولا في مكامنه، على هديها راح يسرد، بالأحرى يعرض. وبمثل هذا الموقف القبلي ما أكثر ما تُزاح الشخصية عن موقعها، وقد تبأّرت ذاتا وساردة، وأزيح السارد عن وظيفته احتلها المؤلف، الذي إما أنه يشرد فينسى أو يستخف بسارده، أو يفعل ذلك عمدا منشغلا بهمّ إرسال الخطاب(المدوّي)كالطلقات لا تكوينه، بالمحفل السردي، والتشخيص المعبر، والقول الصادر عن متلفظ يرسل ملفوظات مشترطة بهذا المحفل، تعيينا وإيحاء. 12 أو لا هذا ولا ذاك، إذ يكتب صاحب 'يتيم الدهر' وكأن طموحه أن يصنع يتيمة دهر جديدة ولا ضرورة لتفسير العنوان، قل تسويغه له . وكما جعل من التخييل الذاتي، الذي تحول في كتابة بعضٍ إلى 'حمار الرواية' نظير بحر الرجز المسمى 'حمار الشعراء'، أداة لتسريد وتصريف تاريخه الشخصي، فلمَ لا يجعل منه، أيضا، أداة ووعاء في الآن، لتفجير غضبه والتنديد بكل ما يرفضه في الحياة والمجتمع والوجود، تربية وسياسة وأخلاقا وعقيدة وشعورا بروح التمرد والدعوة إليه، لا يكفيه الاعتراف بأنه: مجرد 'مثقف مهزوم' (63). لذا قرر الكاتب حسونة المصباحي، تارة، من وراء قناع شخصيته الملفقة روائيا، وأخرى على لسان وفي مونولوغات شخوص وأسماء مرتبطة بسيرته، وطورا متفوها به، قد انتزع لنفسه الأصوات كلها، أولها صوت بطله (يونس، الذي في بطن المؤلف هنا، لا الحوت) رافعا عقيرته بالويل والثبور، صارخا برفض الذل والخنوع، منددا بالحكام العرب الطغاة، مستدعيا التاريخ وأقوال المؤرخين سَنَداً له في صكوك اتهامه، وأحيانا ترِد خُطبا عصماءَ يلقيها واعظٌ، وزعيمٌ، وبشيرٌ ونذيرٌ، وكأن القراء أمامه جمهور مستنفر في ساحة عمومية، وهو هنا يفضح الزور، ويكشف عن المستور، ويلهب الحماس للقصاص من ظلم مشين، والرواية في الساحة هي الخطبة لغتها وشكلها ومضمونها ومعناها وبُعدها كلها فيها واضحٌ للعيان ولا حاجة بعد لوسيط، أقصد الوسيط الفني، البلاغي، الأدواتي، الذي تُنجز به في المسافة الفاصلة بين تجرّع الجماهير للظلم وأوان شفاء الغليل، بين هزيمة المثقف ومسار خسارته وكيفية التعبير عن هذا الإحساس، خاصة حين يجد من يختار له الرواية، أو يتخذها مطية لهذه الغاية. 13 لقد أصبح لنا نحن العرب تاريخ مع هذه العلاقة والكيفية، نستحضره ضمنا في مراحله المختلفة، وكل تغييب له مضر بالصحة الفنية للأجناس الأدبية.كما أن الذاكرة الأدبية رصيد مشترك بين الكاتب والناقد والقارئ، كل يرفد منها بمقدار. ولنا في هذا الصدد تاريخ أوثق مع العلاقة والكيفية (الغربيتين)؛ تاريخ متواصل ومتسلسل بالسند الصحيح إلى سيدي حسونة المصباحي (رضي الله عنه)، في اعتداده القوي بالشيخ فلوبير حدّ التقديس الأدبي، وليسمح لنا أن نتسلم منه السند لنضيف بأن صاحب مدام بوفاري قد حوكم لا لمناهضة عمله للأخلاق البورجوازية، ولكن في العمق لأنه حرّف الأنظار بخصوص الصوت السردي، باصطناعه لتغيرات وجهة النظر (موقع السارد)، وابتداع الخطاب غير المباشر الحر، وتشغيل آلية السخرية، وكل الوسائط الأخرى التي تحول دون التعرف على الذات المتلفظة، وعلى الجواب عن سؤال 'من يتكلم؟' كما سجل ذلك بارث بحق في(S/Z)(1970، 146). وكما عرضت لذلك بتدقيق أكاديمي الباحثة جيزيل سابيرو، (la responsabilit' de l'crivain'.Seuil .2011.202) فإن فلوبير بقطعه مع العُرف الذي يريد من النص أن يكون صوت مؤلف يتحمل المسؤولية، قد حرر الرواية من وظائفها الإجتماعية، لكن مقابل الوظيفة الإستطيقية، لتصبح غاية في ذاتها، قد انتزع للرواية قانون استقلالها الذاتي، طبعا في مواجهة سلطة القانون التي غاضها ذلك جدا، ولا تقبل الشريك. وإذا كان هذا رأي لن يعجب سارتر يقينا، وسيوصم في مذهبه باللامسؤولية، فإنه في الحقيقة يشرّع، ونحن تماما في خط واحد مع سابيرو، لتعريف جديد لمسؤولية الكاتب 'هذه التي فضلا عن الطاقة المدوّية للأعمال الخصوصية، لتُسهمُ في مسلسل استقلالية الحقل الأدبي صلة بحقل الحكم' (م.س، ن)، وهذا ما جعل سانت بوف، بعد تبرئة فلوبير والمتابعين معه، يعلن بنبرة المنتصر بأن مدام بوفاري، تنتمي من الآن فصاعدا إلى الفن وحده، وليس من قوة خارج النقد الأدبي لتحاكمها، وذا ما نوّه به بودلير معتبرا الجمال هو المنتصر الأكبر في هذه القضية. 14 يتعلق الأمر في الأدب، بقراءته، وهذا منذ استطيقا التلقي عند فولفغانف إيزر، إلى جانب هانس ياوس، وبمسألة تأويل، ما يفترض تعدد المستويات وتفاعلها، واستبعاد انفراد أي طرف، لكن إيزر، ومع الإقرار بهذا المبدأ الأولي، يُبقي الصدارة في التلقي للتأثير، للفعل الجمالي، وهذا لأنه يشتغل في حقل الأدب، ومثله بورديو الذي يصر على 'قواعد الفن' من منظور عالم الاجتماع الذي هو موقعه كباحث، وليس مثل الرواية فنا لاختبار حضور هذا الفعل واشتغال آلياته، خاصة حين تتوفر النصوص الكفيلة بإنتاجه، والتي نحب أن نبوئها هذا المقام، نظير 'يتيم الدهر'؛ نريد منها إلى جانب تحمل كتابها وزر المسؤولية، أن تخصب المسؤولية الجمالية، ولعل هذا سبب آخر لتعلق حسونة المصباحي بفلوبير، وبالجاحظ قبله، الذي هل أبدع أحدٌ قبله في سردٍ ووصفٍ، ولأي شيء؟ للذبان فقط، لكن أيّ ذبّان! 15 إنما، ألسنا نبالغ في الحديث عن المسؤولية الجمالية، وفي النظرة إلى الأدب عموما، من زاوية رسوليته الفنية الباذخة؟ هذا على الأقل ما أسعفتنا به فرجينيا وولف، ونحن نبحث عن حسن الختام في قراءتنا لرواية حسونة المصباحي، لكمْ وجدنا فيها من أطباق شهية، ولذاذات وصفية، ورومانيسك منعش ومرح، حزين ومفرح، معا، وشافٍ لما في الفؤاد من غيظ، ولكن صاحبه، صاحبنا، يأبي على قلمه الاسترسال في الجو الروائي، وبمقتضى ترسيماته اللعبية، شاغله أساسا الرسالةُ الهجائية الاحتجاجية. وهو لا يعمل، كما تنبهنا ف. وولف وفق قواعد المدرسة الفرنسية والروسية في التخييل السردي، خلافا للمدرسة الروائية الإنجليزية لا تعنى بالحبكة بقدر انصرافها إلى رسم الجو، وطقس شرب الشاي في صفحات. بينما المدرسة الأولى جدية، إيمانها بالفن سابق وراسخ، ولذلك كان فلوبير يقضي أحيانا شهرا كاملا في البحث عن عبارة واحدة، ملائمة ليصف بها القرنبيط، فأي ورطة هذه يا حسّونة؟!