"الصاعقة.. الكابوس.. الفضيحة.. الزلزال".. لم تجد وسائل الإعلام الفرنسية عناوينَ أقوى للتعبير عن هول الفضيحة التي فجّرتها تحقيقات وكالة الشرطة الأوربية (يوروبول) وشرطة 13 بلدا أوربيا بشأن تورّط شبكات إجرامية واسعة في التلاعب بنتائج مباريات كرة القدم. وتشمل التحقيقات ما مجموعه 425 من حكام المباريات والمسئولين في النوادي واللاعبين المنتمية إلى أكثر من 15 بلدا، ممن تورّطوا في محاولات للتلاعب بأكثر من 380 مباراة للمحترفين. "إن هذا اليوم هو يوم حزن لكرة القدم الأوربية"، يقول مدير وكالة الشرطة الأوربية، روب واينرايت، قبل أن يوضح أن هذه الأنشطة، التي هي جزء من عملية جريمة منظمة متطورة، أدرّت على أصحابها أرباحا بملايين الأوروهات، في عمليات الرهانات المربحة، مع دفع أكثر من ثلاثة ملايين أورو "رشوة" للمشاركين في المباريات.. معظم المتورطين من آسيا شدد واينرايت على أن التحقيقات، التي رُفعت نتائجها إلى رئيس الاتحاد الأوربي لكرة القدم الفرنسي ميشيل بلاتيني، أثبتت أيضا قيمة التعاون الدولي بين قوات الشرطة لمكافحة المجرمين المتورطين، وأيضا التزام جميع الشركاء بتنفيذ القانون لملاحقة المجرمين أينما كانوا، معربا عن أسفه لكون "الجريمة المنظمة اقتحمت اليوم بشكل سافر عالم كرة القدم، وحققت من وراء ذلك أرباحا غير مشروعة على نطاق واسع وبطريقة تهدد نسيج هذه اللعبة الشعبية. وقد تم تحديد مكان انطلاق معظم هذه الأنشطة الإجرامية من آسيا، حيث معظم زعماء المنظمات المتورطة من أصل آسيوي، ويعملون بشكل وثيق مع مُسيّرين أوربيين، حسب الشرطة الأوربية، التي تملك -وفق روب واينرايت- أدلة على أن 150 من حالات التلاعب في نتائج المباريات تم تنفيذها من سنغافورة مع رشاوى بلغت قيمتها 200 ألف أورو للمباراة الواحدة.. كما تحوم شكوك قوية تتعلق بمباريات التأهّل إلى كأس العالم في كل من إفريقيا وأميركا الوسطى.. ويمثل الطابع الدوليّ للتلاعب في نتائج المباريات تحديا كبيرا للمحققين والمدعين العامين، إذ يمكن أن يكون معنيا بمباراة واحدة نحو 50 مشتبها في عشر دول، إضافة إلى تشريعات وقوانين مختلفة وقواعد متباينة في ما يتعلق بنتائج المباريات واحتمالات الرّهانات. وينتظر أن يتم تحويل هذه المعلومات إلى وكالة الشرطة الدولية (الأنتربول) لاتخاذ مزيد من الإجراءات في سياق الجهود المبذولة للقضاء على هذه الظاهرة، ذلك أن "التلاعب في نتائج المباريات هي قضية عالمية تتطلب شراكات قوية على الصعيد الوطنيّ والإقليمي والدوليّ، ليس فقط لاستهداف وتفكيك الشبكات الإجرامية ووضع حد للأرباح الكبيرة غير المشروعة، ولكنْ أيضا لتنفيذ برامج تكوينية، كما يقول مدير وكالة الشرطة الأوربية. ومن المؤسف جدا أن يقتحم الإجرام المنظم اللعبة الشعبية الأولى في العالم، حيث لا يوجد شأن من شؤون الحياة يستطيع أن يستوليّ على اهتمام مئات الملايين من الأشخاص في لحظة واحدة مثل لعبة كرة القدم، التي تخلق جوا من الإثارة الجماعية، تمتزج فيه متعة الفرجة بنشوة الفوز، وتغيب معه إحباطات الحياة اليومية.. وإذا كانت هذه اللعبة تحقق منفعة بالنسبة إلى الحكومات ورجال الأعمال والمستثمرين، فإنها بالنسبة إلى ملايين المشجعين من الأفراد العاديين تمثل حياة كاملة، بكل ما فيها من أفراح وأحزان وهزائم وانتصارات. حرية بلا قيود ما من شك أنّ المقولة التى تصف كرة القدم بأنها "أفيون الشعوب" تنطبق أكثر على الشعوب العربية والإفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية، حيث فضاء ملاعب كرة القدم هو الفضاء الوحيد الذى يتمتع فيه الناس بحريتهم كاملة دون رقيب، ويتتبعون أشواط اللقاءات بمحض اختيارهم ومزاجهم الخاص، دون إملاءات من السلطة أو الأحزاب السياسية.. ومن غير المبالغة في شيء القول إنّ أندية كرة القدم ملأت في الكثير من البلدان العربية والإفريقية فراغ الأحزاب السياسية، التي تراجعت قدرتها في الحشد والتأطير بشكل كبير. ويقدم المؤلف الفرنسي لوي غرافيي، فى كتابه "كرة القدم على النغمات البرازيلية"، تصويرا فريدا لعشق الشعب البرازيلى لكرة القدم، حيث البرازيل، في نظر الكاتب، ليست لا نهر الأمازون، الذي اشتهرت به، ولا الكرنفال، بجنونه واحتفالاته الساخنة، بل هي كرة القدم، المتجذرة في عمق الهوية والانتماء.. فالكرة في هذا البلد هي المقياس الحقيقيّ لمعرفة تفاصيل حياة الشعب البرازيلي، وقس عليه معظم الشعوب اللاتينية.. ولهذا السبب يحتلّ نجم كرة القدم موقعا أقوى من أيّ سياسي، ولا تنطفئ شعلته بمجرد اعتزاله، بل يبقى خالدا لفترة طويلة في ذاكرة ووجدان الجماهير. السياسة والرشوة في قلب الكرة يعثر المتصفح لأرشيف مجلة "ليكيب" الفرنسية على الكثير من النوادر المرتبطة بالتحايُل على هذه اللعبة واستغلالها من طرف بعض الساسة لترسيخ نفوذهم ومواقعهم. فحين استضافت إيطاليا كأس العالم سنة 1934، قال الديكتاتور موسوليني "لم أتصور أنّ ولاء الإيطاليين لهذه اللعبة يفوق ولاءهم لإيطاليا وأحزابها الوطنية.. سنفعل ما بوسعنا لتصبح كرة القدم منذ الآن همّنا الرئيسيّ، تأطيرا واستثمارا". وهكذا كان، فقد احتضن حزب موسيليني أهمّ الأندية الإيطالية.. وبعد فوز إنجلترا بكأس العالم سنة 1966، صرّح وزير الاقتصاد روبرت كروسمان: "سيخفف هذا النصر من الضغوط على الجنيه ويحدّ من عمليات المتاجرة ضده"، فيما حاول رئيس الوزراء، هارولد ويلسون، ربط هذا الفوز بجهود حزبه في المجال الكرويّ بقوله: "لم تكن إنجلترا لتفوز بكأس العالم لو بقيت في ظل حكومة العمال".. ولم يشهد التاريخ الكرويّ فريقا بروعة منتخب البرازيل عام 1970، الذي ضم كوكبة فريدة من النجوم، مثل بيلي وريفالدو و"الطبيب" توستاو.. وحينما فاز الفريق بالكأس، بكى رئيس الحزب الشيوعيّ، لويس كارلوس بريستيس، تقول "ليكيب"، ليس من شدة الفرح، بل لأنّ الفريق "ألهى" الشعبَ البرازيليّ بذلك الفوز وسمح للقادة العسكريين بتعزيز سلطتهم.. وكانوا قد استولوا على الحكم قبل أسابيع فقط من ذلك!.. حرب عسكرية بسبب الكرة عندما استحوذ الجنرالات على السلطة في الأرجنتين، حاولوا جهد المستطاع ضمان استضافة كأس العالم عام 1978. وقد دفعوا من الرشاوى ما جعل الأرجنتين تفوز بها، حيث بدا مؤكدا في الأدوار النهائية أنّ البرازيل ستتأهل إلى المباراة الختامية بعد تغلبها على بولونيا بنتيجة (3 - 0). وتعني هذه النتيجة أن على الفريق الأرجنتينيّ التغلب على فريق البيرو، القوي، بفارق خمسة أهداف على الأقل ليضمن التأهل إلى لمباراة النهائية.. وفي مباراة "تخاذل" فيها منتخب البيرو فازت الأرجنتين (6 -صفر) فأقصت بذلك البرازيل وفازت بالكأس على حساب هولندا.. واتضح بعد فترة طويلة أن البنك المركزي الأرجنتيني "اشترى" تلك المباراة من حكومة البيرو مقابل شطب 50 مليون دولار كديون مستحقة عليها.. وقد تتبع بعضُنا هذه المباراة، ولاحظوا كيف كانت تفوح منها رائحة الفساد!.. وتفيد مجلة "ليكيب" استنادا إلى مختصّين، أنها ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها الحكومات لتغيير نتائج المباريات. فقد سبق لحكومة السلفادور أن طلبت من هندوراس "السماح لها" بالفوز بالبطولة القارية، إلا أن هندوراس رفضت الرضوخ (بل وفازت على السلفادور) مما أدى إلى نشوب حرب حقيقية غزت فيها جيوش السلفادور هندوراس.. وفي كأس العالم لسنة 1950، وصلت البرازيل والأورغواي إلى المباراة النهائية. وفي الليلة السابقة للمباراة -تقول مجلة "ليكيب"- حضر من الأورغواي مسؤول حكوميّ كبير طلب الانفراد باللاعبين، وشكرهم في ذلك الاجتماع على الجهد الذي بذلوه للوصول إلى المباراة النهائية، لكنه حذرهم من أنّ الفوز على البرازيل سيُعرّض علاقات البلدين للخطر ويضرّ بمصالح الأورغواي الاقتصادية.. غير أنه ورغم هذا التحذير، "تمرّد"منتخب الأورغواي على كل الضغوط، وفاز على البرازيل في عقر دارها.. التحكيم الفرنسيّ: الأسوأ أوربيا.. ولأنّ كرة القدم كالسياسة، بمكرها وفسادها، فلا تكاد تمرّ سنة دون أن تطفو على السطح بعض النماذج من الفساد الرياضي، التي يكرّسها التحكيم بالدرجة الأولى، حيث التحيز واقع حقيقيّ في بعض البلدان الأوربية نفسِها، وأخص بالذكر فرنسا، التي وصل فيها سوء التحكيم إلى مرحلة "الإدمان"، حيث يصل فريق أو اثنان منذ سنوات إلى منصات التتويج بسبب "أخطاء" التحكيم.. وقد خلّف الشريط الذي بثته القناة الفرنسية الثانية حول استفادة فريق ليل في المسوم ما قبل الأخير من 34 خطأ فادحا في التحكيم، زوبعة من الاحتجاجات في الأوساط الرياضية.. ويُظهر الشريط احتساب ضربات جزاء خيالية لفائدة فريق ليل، فضلا على أخطاء وهمية بالقرب من المربّع، كان أحدها سقوط مهاجم الفريق متعثرا وخصمه بعيد عنه بحوالي نصف متر.. وتبدو الأخطاء ال34 لفائدة ليل صارخة وفاضحة للمستوى المنحط الذي بلغه التحكيم الفرنسيّ. وبناء على التقارير التحكيمية التي يتوصل بها، قرر الاتحاد الأوربي، قبل سنتين، إقصاء الحكام الفرنسيين من كأس أوربا للأمم وأيضا من منافسات الأندية البطلة.. وتعرّضت فرق فرنسية كثيرة، وخاصة الصغرى ومعها جماهيرها، لظلم وإجحاف الحكام الفرنسيين، وهو الظلم الذي ربطته بعض الأوساط الكروية بوجود مكاتب للرهانات تنشر الرشاوى وتبيع المباريات وترشي الحكام، من جهة، وغياب مؤسسة تحكيمية لها من الضوابط ما يُحصّنها من القرار المزاجيّ المتفرد لبعض الحكام، من جهة أخرى. وتذهب وسائل الإعلام الفرنسية إلى أن الخلل موجود في اللجنة التحكيمية نفسها، لأنها لم تستطع ترسيخ قيمها في سلوك الحكام، وهي التي تتحمل المسؤولية كاملة في إخفاق التحكيم موسما تلو الآخر. الحكم.. موظف سامٍ تعطي الصحافة الفرنسية القدوة في جودة التحكيم في إنجلترا، حيث يبادر رئيس لجنة الحكام هناك إلى تقديم استقالته فور فشل أحد حكامه في مباراة واحدة دون النظر إلى من يكون الفريق المتضرر أو الفريق المستفيد أو الحكم المخطئ.. ويتم انتخاب رئيس آخر من عناصر أكثر كفاءة، وعادة ما يكون من الأكاديميين، عمداء الكليات التربوية والتقنية. وقد كان الحكام إلى وقت قريب "فقراء" اللعبة بامتياز، ولم تكن أجورهم تتجاوز مبالغ لسد ثغرات الأسبوع.. غير أنها شهدت في العقد الأخير ارتفاعا كبيرا، تراوحت نسبته ما بين 400 إلى 600 في المئة.. ويمثل الحكم الإماراتي أعلى الأجور مقارنة ببقية الحكام في آسيا والوطن العربي، حسب لجنة التحكيم الإماراتية، حيث يتقاضى حكم الوسط ما قيمته 10.000 درهم للمباراة الواحدة في مسابقة دوري المحترفين، فيما يحصل الحكم المساعد على حوالي 7.000 درهم. أما الحكم الفرنسي فهو موظف سامٍ أيام في السبت والأحد وعامل طيلة الأسبوع، حيث تقدر تعويضاته (ليس الراتب لأنّ الاحترافية غائبة في التحكيم الفرنسي) ب3.200 أورو لمباراة الدرجة الممتازة (حوالي 35 ألف درهم) و1.600 أورو للدرجة الثانية. ويصل معدل الموسم إلى 70 ألف أورو بالنسبة إلى الحكم المتوسط، أما حكم دوري الأبطال والملتقيات الأوربية والعالمية فقد يُنهي الموسم بمبلغ 120 ألف أورو. ويحصل الحكام الفرنسيون على تعويضات أقلَّ بكثير من نظرائهم الأوربيين، حيث يتقاضى حكم إيطالي في الدرجة الممتازة أزيد من 4.500 أورو وإسباني (5.000 أورو).. غير أن التحكيم الفرنسي ينفرد بتشريعات اعتبارية هامة لفائدة الحكام، إذ يجعل الاعتداء عليه كمن اعتدى على رجل أمن أو دركيّ أو رجل إسعاف، ويعرّض المعتدي لخمس سنوات نافذة في حالة حصول الحكم على عجز عن العمل لمدة أسبوع.