كان مقدرا لزيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للقاهرة أن تضع العلاقات بين البلدين على عتبة انطلاق جديدة، بعد انقطاع دام 34 سنة، أسبابه سياسية في المقام الأول، والمعلَن (علاقة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بالشاه المخلوع، وتوقيع اتفاقية كامب دافيد مع إسرائيل)؛ لكنها لا تخفي الأسباب العقائدية، غير المعلَنة (أن إيران راعية الشيعة والتشيع، ومصر حاضنة الأزهر والسنة). ولقد اتضح أن النوايا الحسنة، في المظهر على الأقل، التي تبدت خلال زيارة الرئيس المصري محمود مرسي لطهران، في مناسبة قمة دول عدم الانحياز، غشت الماضي، وزيارة أحمدي نجاد الراهنة، لحضور قمة «منظمة المؤتمر الإسلامي»، لا تكفل إزالة الكثير مما تلبد من غيوم سوداء، طيلة ثلاثة عقود ونيف. فإلى جانب إصرار أحمد الطيب، شيخ الأزهر، على إثارة مسائل مذهبية (مثل «رفض المد الشيعي في بلاد أهل السنة والجماعة»، وسعي إيران إلى نشر التشيع في مصر تحديدا، والتي «كانت ولا تزال معقلا لأهل السنة والجماعة» كما عبر مستشار الأزهر الشيخ حسن الشافعي)، وضيق صدر أحمدي نجاد بهذه التفاصيل؛ بدا الخطيب أشد إصرارا على إثارة مسائل سياسية حساسة (بينها «وقف النزيف الدموي في سورية الشقيقة، والخروج بها إلى بر الأمان»، و«عدم التدخل في شؤون دول الخليج»، و«احترام البحرين كدولة عربية شقيقة»...)، استدعت احتجاج الرئيس الإيراني علانية، وأمام الصحافة. كان المناخ، في المحصلة، لا يبدد أيا من الغيوم البادية المدلهمة لتوها، بقدر ما يوحي بأن المزيد منها آت ويدلهم سواده أكثر فأكثر! إيران، إذن، ليست على وشك إحداث اختراق دبلوماسي مع الدولة العربية الأكبر، والأهم جيو سياسيا وعسكريا وإسلاميا؛ ولعل الرئيس الإيراني نفسه، وبصفة شخصية، على مبعدة كبيرة من تحقيق نقلة ملموسة في المطمح الذي عبر عنه وهو يغادر طهران إلى القاهرة: «سأحاول فتح الطريق أمام تطوير التعاون بين إيران ومصر». وإذا جاز القول إن جوهر استمرار النأي، ومضيه نحو مزيد من التنائي، لا يكمن في مشكلات عالقة بين البلدين، واضحة المعالم والمضامين، قابلة للأخذ والرد، بل يعود ذلك الجوهر إلى مشكلات إيران ذاتها مع الجوار العربي والإقليمي، في مسائل سياسية أولا، قبل أن تكون مذهبية تخص التشيع هنا، أو سب عائشة أمير المؤمنين هناك. والأرجح، بذلك، أن رهانات الانفتاح التي تسعى إليها إيران، وتحتاجها في آجال قريبة وبعيدة، خاسرة في المدى المنظور، بسبب دعم طهران الأعمى لنظام بشار الأسد، وتعاظم الانتفاضة العراقية (عابرة المذاهب والإثنيات، للإيضاح الضروري) في العراق، وتَعاقب مآزق «حزب الله» على الأرض اللبنانية والجوار السوري والعالم. وهذا، في أحد وجوهه العميقة، رهان خاسر لأحمدي نجاد شخصيا، يُلحق الأذى بموقعه في هرم السلطة الإيرانية، ويضعف صفه السياسي والأمني والاقتصادي والبيروقراطي، ويحد كثيرا من هوامش حركته الداخلية والخارجية على حد سواء. فالمظاهرات الواسعة التي شهدتها طهران، ومدن أخرى، احتجاجا على هبوط سعر صرف الريال الإيراني، اتخذت ثلاث سمات: واحدة معيشية صرفة، وأخرى سياسية داخلية ضد حكومة أحمدي نجاد، وثالثة سياسية إقليمية ضد التورط في دعم النظام السوري بالمال والسلاح مقابل إفقار الشارع الشعبي الإيراني. وعلى نحو ما، وليس دون إدارة ذكية وخفية من خصوم الرئيس الإيراني، صار الأخير عنوان التأزم: في الداخل، أسوة بالخارج. وليس مستبعدا، بذلك، أن يستعيد أحمدي نجاد -ببالغ الحنين، والتوق، والشوق!- تلك الزيارة «التاريخية» التي قادته إلى لبنان، خريف سنة 2010؛ وإلى المناخات البهيجة التي أحاطت بحركات وسكناته هناك، حين لاح أنه رئيس لا كرامة له في بلده، وهو هنا سيد كريم نجيب، ومنتجب! مظاهر الإفراط الشديد في تلميع صورة أحمدي نجاد، وتضخيم سجاياه القيادية، ورفع خصاله الشخصية إلى سوية رفيعة (السند العظيم للمقاومين والمجاهدين والمظلومين، كما قيل)، بدا أن الرجل نفسه قد بوغت بها. وهذه حال سرعان ما اكتسبت بُعدا إشكاليا تماما، مؤسفا ولكنه عميق المغزى، حين تولى التلميع «قائد المقاومة الإسلامية» نفسه، حسن نصر الله، الأمين العام ل«حزب الله»: «نشم فيك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كل الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كل الساحات، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا». ولا ريب أن العديد من الإيرانيين، وخاصة أولئك الذين لم يصوتوا لأحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية التي منحته ولاية ثانية، في غمرة ملابسات عديدة قابلة للطعن والتشكيك، لم يذهبوا مذهب نصر الله في هذا التفخيم للرجل، ثم الجزم بأن وجهه يمثل كل شرفاء إيران (تماما كما كان العديد من السوريين قد نظروا بمرارة، وباستنكار، إلى عبارات مثل «سورية حافظ الأسد» و«سورية بشار الأسد» كان نصر الله قد اعتاد النطق بها في معظم خطبه). وللمرء ألا يكون واثقا تماما من أن العديد من آيات الله، في إيران ذاتها أولا، لم يوافقوا نصر الله على شم رائحة الخميني، أو تلمس أنفاس خامنئي، في شخص أحمدي نجاد! وزيارة أحمدي نجاد الفاشلة، إلى القاهرة، مناسبة تحث على استذكار بعض الخصال الأخرى التي تُلصق عادة بشخص الرئيس الإيراني، والتي لا تتماشى البتة مع الهالات المدهشة التي أسبغها عليه الأمين العام ل«حزب الله»، لأنها تسير على النقيض تماما. في رأس النقائض تأتي قيادته لتيار عريض في السلطة الإيرانية، يمكن -دون كبير حذلقة، ولكن دون كبير عناء أيضا- اعتباره فريق «المحافظين الجدد» الإيرانيين؛ الأمر الذي يبرر، استطرادا، مناقشة احتمالات انحطاط نفوذ «المحافظين القدماء»، أو انكسار شوكتهم على نحو لا علاج له إلا بولادة جيل جديد من المحافظين شاكي السلاح. وإذا صح أن هذه الولادة كانت سياسية، ولم تكن عقائدية فحسب، فإن الخلاصة اللاحقة ينبغي أن تشير إلى اندحار (وربما محاق!) التيارات الإصلاحية، في مختلف أجهزة ومؤسسات الثورة الإسلامية بأسرها. وفي ظل السياقات الإقليمية والدولية الراهنة تحديدا، بصدد ملف المنشآت النووية الإيرانية، ومستقبل النفوذ الإيراني في العراق، ودنو أجل النظام السوري، واختلاط أدوار الدبلوماسية التركية بتحالفات إقليمية في المنطقة... فأي دلالات كبرى يمكن إغفالها في تحليل آثار تلك الولادة، وعواقبها المتعددة ذات الانبساط الجغرافي العريض؟ صعود تيار أحمدي نجاد، والمحافظين الجدد الإيرانيين إجمالا، لم يكن بشرى سارة للشعب الإيراني، ولا لأي من شعوب المنطقة في الواقع، لكي لا يضيف المرء أنها كانت نذير وبال قد يرد البلد سنوات إلى الوراء، أي إلى ما قبل رئاسة محمد خاتمي الأولى، 1997، حين لاح أن التيارات الإصلاحية توشك على إحراز تقدم. وأكثر من هذا، تبدو الولادة وكأنها «إصلاح معكوس»، إذا جاز القول، يرتد على قسط كبير مما أنجزته الثورة الإسلامية لصالح المواطن الإيراني، وكان متقدما تماما بالقياس إلى العهود الشاهنشاهية. وبصرف النظر عن مظان المرء إزاء الديمقراطية الإيرانية الراهنة، وفي ظل استمرار العمل بنظام ولاية الفقيه على وجه الخصوص، فإن ما يستوجب ولادة تيار أشد محافظة هو هذا بالذات: أن الديمقراطية الإيرانية الراهنة يمكن أن تضع شرائح عريضة من الشارع الإيراني في موقع المعارضة للقسط الأعظم من ثوابت المجموعة الحاكمة، على اختلاف أجنداتها، في مسائل السياسة الداخلية والحقوق والحريات والعقيدة، كما في مسائل السياسة الخارجية وموقع إيران الدولة وإيران الثورة الإسلامية على الخريطة الإقليمية. من جانبه، لا يبدو المرشد الأعلى، خامنئي، وكأنه يكترث كثيرا لإجراءات أحمدي نجاد الحكومية، في هذا الأمر أو ذاك، ما دامت تصب في صالح سلطات الولي الفقيه، ولا تمس خلصاء رجاله بقدر ما تتيح الفرصة لإحالتهم على التقاعد واستبدالهم بالأشد إخلاصا! وفي الآن ذاته، ثمة بين رجالات خامنئي -وغير رجالاته، في الواقع- مَنْ لا يوفر أحمدي نجاد، ويكيل له النقد اللاذع جهارا، على سبيل الوعيد تارة أو حفظ هامش نقدي مترفع للمرشد الأعلى طورا. أبرز الأمثلة كانت تصريحات اللواء محسن رضائي، أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، الناقدة بشدة لأسلوب أحمدي نجاد في إدارة الملف الإيراني؛ وحسن روحاني، كبير المفاوضين في الملف النووي، خلال رئاسة خاتمي؛ وحسين موسوي، الرئيس الأسبق للجنة الشؤون الخارجية في المجلس الأعلى للأمن القومي؛ وعلي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الشهير الأسبق... ومن المشروع أن يرى المرء في هؤلاء أول المعترضين على التقريظ الاستثنائي الذي أسبغه نصر الله على أحمدي نجاد. وفي العودة إلى البعد الإقليمي، ليس مدهشا أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق، وسياسات الولاياتالمتحدة وإسرائيل إجمالا، بين أفضل العوامل التي ساعدت على ترسيخ جاذبية خطاب أحمدي نجاد، الشعبوي التحريضي المحافظ، أو المحافظ الجديد، في ناظر الشارع الإيراني العريض. وليست بعيدة في الزمن تلك البرهة التي شهدت اندلاع تظاهرات طلابية ضخمة في شوارع طهران، تطالب باستقالة خامنئي وخاتمي معا؛ وإعلان مجموعة مؤلفة من 248 شخصية إصلاحية أن «وضع أشخاص في موضع السلطة المطلقة والألوهية هو هرطقة واضحة تجاه الله، وتحد واضح لكرامة الإنسان»، في إشارة عدائية لمبدأ ولاية الفقيه، كانت النقد الأوضح والأكثر جرأة منذ انتصار الثورة الإسلامية. وفي هذا السياق، لم يكن أمرا مسلما به أن تصريحات نصر الله خلال زيارة أحمدي نجاد للبنان (الافتخار باعتناق مبدأ ولاية الفقيه، والنص صراحة على «إيماننا العميق بولاية الفقيه العادل والحكيم والشجاع»)، قد هبطت بردا وسلاما على ضمائر الإصلاحيين الإيرانيين أو كانت عونا لهم في طراز آخر من المقاومة الشريفة، يخص إعادة بناء الشخصية الوطنية الإيرانية، وحيازة الحد الأدنى من الحريات التي سبق للمواطن الإيراني أن حظي بها في السنوات الأولى للثورة الإسلامية. كذلك فإن حرص نصر الله على نفي وجود أي «مشروع إيراني» في المنطقة، لم يكن يجافي الطبيعة وطبائع العلاقات الدولية فحسب، بل كان يجافي منطق السياسة الأبسط في الواقع. فهل يستغرب المرء أن يلح شيخ الأزهر، اليوم، على نقيض أقوال نصر الله: وجود مشروع إيراني يتجاوز المذهب إلى السياسة، أو بالأحرى لا يُعلي أحدهما عن سواه إلا لأنهما امتزجا وتوحدا؟