عاش المغرب ربيعه الديمقراطي بطريقته الخاصة، يمكن اختزالها في ما يصطلح عليه بالإصلاح في ظل الاستقرار. لم نشهد «ثورة» كما شهدتها تونس أو مصر، ولم نعرف صراعا مسلحا كما وقع في ليبيا أو كما نتابعه في سورية الجريحة؛ ولكننا نعيش رغم ذلك ثورة في المضامين والمسلكيات السياسية وثورة على منطق التحكم والاستبداد الذي كان يرمي إلى «تونسة» المغرب، وكاد يجر البلاد إلى المصير المجهول. عندما تم تعيين الأستاذ عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة لم يتردد في الإعلان عن رغبته في تكوين حكومة، يكون عمودها الفقري أحزاب الكتلة الديمقراطية. لماذا؟ لأن متطلبات التنزيل الديمقراطي للدستور، والعمل على محاربة اقتصاد الريع وسياسة الريع ومحاربة الفساد والتوزيع العادل للثروة وإعطاء مصداقية للعمل السياسي، كل ذلك يحتاج إلى تحالف عريض مع قوى سياسية تؤمن بهذه الشعارات ولها تاريخ نضالي يسمح لها بالالتقاء الموضوعي مع برنامج العدالة والتنمية. ومن هنا نفهم مقولة بنكيران وهو يتحدث عن الاتحاد الاشتراكي عندما صرح: أريد منهم أن «يسخنوا لي كتافي»، لقد كنا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم الكتلة التاريخية التي نظّر لها المرحوم محمد عابد الجابري والمرحوم الفقيه البصري، إلا أن رد الاتحاد كان هو: اذهب أنت وكتلتك فقاتلا، إننا هاهنا قاعدون... بل متربصون. كان من المفروض (نعتقد)، بالنسبة إلى كل الأحزاب والقوى التي تؤمن بالتغيير والتنزيل الديمقراطي للدستور، أن تستغل اللحظة التاريخية الاستثنائية التي عاشها المغرب بعد نزول الشباب إلى الشارع في سياق الربيع العربي والتصويت على دستور جديد متطور جدا، وانتخابات سابقة لأوانها أفرزت تعاطفا شعبيا واضحا مع حزب العدالة والتنمية، كان من المفروض من هذه القوى أن تؤجل الخلاف الإيديولوجي والحسابات الحزبية إلى مرحلة لاحقة، لتؤسس جبهة عريضة لكل الديمقراطيين -الحقيقيين طبعا- من أجل إنجاح أول انتقال ديمقراطي فعلي يحدث في بلادنا. نقول ذلك لأن الفرْق اليوم كبير مع ما اصطلح عليه البعض بالانتقال الديمقراطي في عهد حكومة التناوب، فالأستاذ عبد الإله بنكيران لم يقدم قسما على المصحف أمام الملك على أسرار لا يعلمها أحد، مع احترامنا الكبير للأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، كما أن وزير الداخلية الطيب الشرقاوي لم يضف أي نائب مزور إلى لائحة أي حزب كما فعل إدريس البصري عندما «أنجح» محمد حفيظ ومحمد أديب، رحمه الله، وأسماء أخرى في لائحة الاتحاد الاشتراكي الذي كان «يجب» (هكذا) أن يحتل المرتبة الأولى لولا أن هذين المناضلين أعلنا أنهما يرفضان المقعد المزور، أو لأن تجنب السكتة القلبية واسترجاع المصداقية السياسية المفقودة أو تحسين صورة البلاد كان «يقتضي» تعديل دستور 92 والإجماع حول دستور 96 ثم التحكم في القوانين الانتخابية والتقطيع الانتخابي والخريطة السياسية حيث كانت «المصلحة» تقتضي تولي المعارضة المسؤولية الحكومية، ثم التوقيع على ميثاق للشرف، ليتم الانتقال السلس إلى الحكم بين عهدين في ظروف إيجابية. ولذلك نحن نفهم لماذا أقدمت حكومة اليوسفي على حفل تكريم إدريس البصري، رحمه الله. اليوم، الذي جاء بالعدالة والتنمية إلى الحكومة هو صناديق الاقتراع بعد انتخابات شفافة ونزيهة بشهادة كل الأحزاب السياسية، وتكليف الملك للأستاذ بنكيران برئاسة الحكومة جاء وفقا لمقتضيات الدستور الجديد الذي يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة والذي يؤسس لملكية برلمانية دستورية وديمقراطية. لشكر وصناديق الاقتراع أذكر ذات ليلة سنة 1997، ونحن نتابع نتائج الانتخابات التشريعية في دائرة الرباط شالة، أنه زارنا الأخ مصطفى ضفير، مرشح العدالة والتنمية (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية سابقا)، وهو يعتبر نفسه ناجحا حسب ما لديه من محاضر، إلا أن السلطة أعلنت الأستاذ إدريس لشكر فائزا عن حزب الاتحاد الاشتراكي. أذكر أننا لم نستجب لطلب مرشح الحزب بتقديم طعن في النتائج لسبب قانوني وسياسي؛ أما القانوني فهو عدم حصول إدارة الحملة على كل المحاضر وكذا تجاوز الأجل القانوني للطعن، وأما السياسي فهو أن حزب الاتحاد الاشتراكي كان قد قرر تكوين لجنة للتحقيق في مجموع المقاعد المزورة التي يقال إنها أضيفت إلى الاتحاد الاشتراكي؛ ونظرا إلى ثقتنا في أعضاء هذه اللجنة، فقد بقينا ننتظر تقرير اللجنة. هذا التقرير لم يطلع عليه مناضلو الاتحاد ولا الرأي العام... إلى يومنا هذا. أذكر أننا لم ندخل مع الاتحاد الاشتراكي في بولميك حول أحقيتهم في احتلال المرتبة الأولى أو حول نزاهة الانتخابات، بل العكس هو الذي حصل، إذ إن حزب العدالة والتنمية كان قد قرر تأييد حكومة التناوب في ما اصطلحنا عليه بالمساندة النقدية، رغم عدم مشاركتنا في الحكومة، لأن القضية لم تكن قضية حسابات حزبية بقدر ما كان المطلوب هو القراءة الجيدة للحظة الوطنية، حيث كان مطلب التغيير مطلبا مجتمعيا قبل أن تكون إرادة من سلطات مركزية أو جهات خارجية. ولذلك عندما يتحدث إدريس لشكر، اليوم، عن صناديق الاقتراع التي هي وحدها من يحدد موقع الاتحاد الاشتراكي في الحكومة أو المعارضة، فإننا نؤكد اتفاقنا معه على إضفاء نوع «القداسة» على نتائج الانتخابات، شريطة أن تكون نزيهة وشفافة؛ ومن حقنا أن نتساءل، من جهة أخرى: هل موقف السيد لشكر يحكمه هاجس صناديق الاقتراع أم هواجس أخرى؟ - شباط.. والمعارضة الحكومية رجوعا مرة أخرى إلى التاريخ، نتذكر جميعا أن حزب العدالة والتنمية سنة 1997 ورغم أن صناديق الاقتراع لم تعطه إلا تسعة مقاعد، فقد قرر مساندة حكومة اليوسفي، ليس لأنه كان متأكدا من أن نتائجه الحقيقية كانت تفوق ما أعلن عنه، ولكن لأن الحزب كان يريد إرسال رسالة سياسية مفادها، كما قلنا، أن الحزب استجاب للحظة التاريخية التي كانت تقتضي الانخراط مع مطلبٍ مجتمعي تواق إلى التغيير وتناوبٍ بات ضروريا لأسباب كثيرة، ولكننا لم نكن مشاركين في الحكومة، لذلك اتخذنا موقف المساندة النقدية لحكومة كان عمودها الفقري هو الاتحاد والاستقلال. أما اليوم فإن السيد حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، يظهر، من خلال المواقف التي عبر عنها ومن خلال المذكرة التي أصدرها، أنه في الطريق إلى بلورة مصطلح جديد في الساحة السياسية وهو «المعارضة الحكومية». نقول ذلك لأنه لا يمكن أن نصنف مواقف السيد شباط في خانة الالتزام أو التضامن الحكومي، أو في خانة دعم الحكومة ولا حتى مساندتها نقديا. لو أن السيد شباط حاول «جاهدا» إقناع حلفائه بمقاربته الإصلاحية، حسب رؤيته، ولو أنه قام بحوار «منتظم» مع حلفائه حول موضوع التعديل الحكومي في إطار الآلية السياسية للأغلبية، ليقوموا «جميعا» ببرمجة توقيت التعديل الحكومي إذا قدروا أن هذا التعديل ضروري فعلا، ليناقشوا مثلا قضية رئاسة مجلس النواب عند نهاية نصف الولاية، لو فعل ذلك ووجد انسدادا أمامه، كنا سنقول آنذاك أنه لم يبق أمام زعيم حزب عريق إلا «الخروج» إلى الرأي العام ليبرئ ذمته ولسان حاله يقول: لقد أعذر من أنذر. لقد اختار حميد شباط، شكلا ومضمونا، أسلوبا تصعيديا تجاوز فيه المعارضة، هذه الأخيرة لم يسبق لها أن تحدثت عن «مصرنة» المغرب، مثلا. إننا نعتبر ما يقوم به السيد شباط «معارضة حكومية» لأنها، ببساطة، معارضة تشارك في الحكومة، وتعرقلها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا... ولله في خلقه شؤون. أتذكر، مما أتذكره، أن المرحوم إدريس البصري كان قد استشاط غضبا عندما لاحظ تقاربا بين العدالة والتنمية وأحزاب اليسار، بما فيها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، قال لنا البصري حينها: هل يعقل أن يلتقي الإسلاميون والشيوعيون؟ الذي كان يزعج السلطة العميقة في واقع الأمر هو أن تجد أمامها جبهة عريضة لها سند شعبي معتبر، تقوم هذه الجبهة بالمطالبة بإصلاحات سياسية حقيقية، تعيد التوازن بين المؤسسات الدستورية وتقوي دور الأحزاب والمجتمع المدني. اليوم، أعتقد أن منهجية اشتغال السيدين حميد شباط وإدريس لشكر، تسير في اتجاه «اغتيال» ما تبقى من فكرة الكتلة التاريخية التي كان قد أعاد طرحها ونادى بها إدريس لشكر نفسه، عندما كانت له إشكالات تنظيمية داخل الاتحاد وحسابات مع جهات معينة في السلطة آنذاك. لا أعتقد أن الزعيمين علال الفاسي و«السي» عبد الرحيم بوعبيد، رحمهما الله، كانا سيكونان متفقين على ما يقوم به جزء من الخلف لو كانا بيننا. ولكن يكفيهما أن الجميع يذكرهما اليوم بخير، ليس من باب أذكروا أمواتكم بخير، ولكن كذلك من باب الوفاء لزعماء لم يفقدوا البوصلة... ولم يبدلوا تبديلا.