لعل المتأمل في ديوان «هكذا كلمني البحر» لأحمد الطريبق أحمد سيجد نفسه أمام عمل إبداع شعري مكثف من حيث الإيحاءات المتنوعة، والصور الشعرية، والدلالات القوية المعبرة عن ذات شاعرة تمتلك آليات شعرية عميقة، يمكن أن نستشفها من قدرته على امتلاك ناصية الشعر، وبلورة مفاهيم لخيال شعري غير متناه، واكتناه معاني تخييلة نابعة من شاعر خبر الحياة، ونهل من معين التراث الذي لاينضب، فجاءت قصائده غاية في الروعة، وحكمة في القول، وبراعة في الانتقاء والاختيار لدرر الألفاظ وحسن المعاني.فكانت لغته الشعرية في الديوان، تتميز بقدرتها على سحر المتلقي، وجذبه إلى عوالم شعرية وفضاءات كلها خلق وإبداع، وصناعة قائمة بذاتها، تؤلف بين الأشباه والنظائر، وتمزج بين البساطة والتركيب في قالب شعري يجسد حقيقة، وبالفعل والقوة، تلك القدرات المميزة من شاعر مغربي أصيل يدرك أصالة الكلمة الشعرية وتأصيلها، فوراء هندسة الإيحاء في اللغة وجماليتها في التعبير خصوصية إبداعية صقلها الشاعر أحمد الطريبق أحمد، بحذر شديد، وعناية فائقة، فهو وحده يدرك أن صناعة الشعر الحقيقية هي أشبه بأرض مليئة بالألغام، مزروعة بالمتفجرات، وأن أقل خطإ في التقدير قد يرمي بالشاعر في الثلث الخالي أو جزائر الوقواق، وهذا الاحتراس الشديد نابع من وعي الشاعر بأن القارئ سيف ذو حدين، إما أن يرفعك إلى أعلى عليين أو ينزلك إلى هاوية لا خروج لك منها أبد الدهر. لقد كتبت القصائد الأولى من الديوان في فترات متباعدة، مابين 1968 و1980، وهذه التواريخ تدل على أن الشاعر كان لا يكتب قصائده إلا بعد عملية تهذيب وتشذيب وتنقيح وغربلة، وهذه العمليات الخاصة بالتصفية تذكرنا بعبيد الشعر في الجاهلية كالحطيئة وزهير والنابغة وغيرهم، فالشاعر هو قبل كل شيء ناقد إبداعه، يخضعه لعدة عمليات مركبة ومعقدة، أشبه بعملية الهدم والبناء عند نيتشه، والتفكيك عند ميشيل فوكو، وخلق رؤية جديدة للعالم وللإنسان، كما يقول لوسيان كولدمان، وإنشاء أنساق شعرية جوهرية كما نظر لها رومان جاكبسون. فللشعر فاعليته الإنسانية والنفسية، كما يقول كمال أبوديب، في كتابه القيم «جدلية الخفاء والتجلي». والقصائد الثانية من الديوان كتبت مابين 1986 و1990، وهي تعبير حقيقي عن أن الشعر الأصيل لا يكتب على عجل، كما يفعل شعراء اليوم، والشعر منهم بريء إلى يوم القيامة. هؤلاء المتشاعرون هم من قال فيهم الشاعر الكبير نزار قباني في قصيدته الشهيرة: من أين أدخل للقصيدة يا ترى؟ وحدائق الشعر خراب. لم يبق في دار البلابل بلبل لا البحتري هنا ولا زرياب شعراء اليوم جنس ثالث والقول فوضى والكلام ضباب. الخطاب الصوفي في الديوان لقد ظل الخطاب الصوفي في الفكر والشعر ملاذا للعديد من الشعراء القدامى منهم والمحدثين، منه ينطلقون وإليه يعودون، باعتباره مرتكزا أساسيا في إمداد الشاعر بقوة روحية/رمزية/ طاقية تمكنه من إضاءة العديد من القضايا المرتبطة بالذات وعلاقتها بالعالم والكون والإنسان. والقارئ اللبيب لن يجد صعوبة منذ تصفح أولى قصائد ديوان «هكذا كلمني البحر» بروز ملامح اللغة الصوفية ومعجمها من (قبض وبسط ووجد ومريد والومض واللمحة والإشارة والمحبوب واللوح...) وهي مفاهيم استوحاها الشاعر من رواد التصوف وكباره كالنفري وابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي....، مما أضفى على الديوان نكهة صوفية بامتياز، فجاءت قصائد الديوان مفعمة بشطحات صوفية مميزة، وجذبات روحية رائعة، وحضرة شعرية تميزت بصخب في الخيال، وروعة في التخيل وقدرة في التخييل. لقد نحا الطريبق في هذا الديوان منحى صوفيا، يرى في التوحد والشطحات الصوفية غايات كبرى لفهم أسرار هذا الكون، وعلامات إشراق نورانية لا يفهم رموزها إلا من سكر بالعشق الإلهي، وذاق لذة الوجد الرباني، ونهل من معرفة الشيخ، وطبق إخلاص المريد.فاستثمار التصوف في الشعر ليست عملية سهلة، بل تحتاج إلى الكثير من الدربة وإجهاد النفس، وترويضها حتى تتمكن من ترسيخ آليات الذوق الصوفي، واعتبار المتن الصوفي جزءا لا يتجزأ من الإيمان بشيوخه، وبدون هذا الإيمان لن يحصل الاندماج والتلاقح والتجانس في تشكيل رؤى صوفية في الشعر. وبدون هذه المعرفة الصوفية الذوقية، وتمثلها لن يتأتى توحيد الشعر في التصوف والتصوف في الشعر. وقد تمكن الشاعر أحمد الطريبق أحمد في ديوانه «هكذا كلمني البحر» أن يزاوج في قصائده الشعرية، وعددها 26 قصيدة، بين الشعري والصوفي، وإضفاء مشروعية على العمل الإبداعي برمته، لأنه استطاع توظيف التصوف بطريقة واعية وصحيحة ومسؤولة، إذ بدون هذه المسؤولية الواعية لن يكون هناك إبداع حقيقي. وسنحاول في هذه الدراسة التحليلية تبيان الخطاب الصوفي في ديوان أحمد الطريبق أحمد. يقول الشاعر: تلونا سورة الطوفان وبين الومض واللمحة شهدنا فارس الثورة يضرب الأكباد لتشكيل حياة جديدة صوفية مليئة بالود والحب لابد أن يغسل الطوفان كل تمظهرات الكراهية والنفور والبغض، وبالومض واللمحة يتشكل عالم الشطحات والجذبة، وبدون فتوحات من فارس شجاع لن تكون هناك ثورة، والحاضر النقي لن يكون أبدا امتدادا لماض لم تشمله علامات الطوفان. فالومض واللمحة معجمان من معجم التصوف، فبالإشارة تفهم المقاصد، وتدرك الحدسيات. يقول الطريبق: اغسل صدرك: ستصادفنا في رحلتنا، ياخلي، ما لاعين رأت ما لا أذن وعت لكن، املأ زقك بالصبر، صبرك: أن تظمأ للمحبوب صبرك أن تطرح من نفسك همّ الخوف، أن تفنى في المرغوب، أن تعرى في وهج الصحراء في التصوف أوامر لابد أن يمتثل لها المريد،خلاصتها صفاء الذهن والصدر، وملؤه بحب الله وحده، فالنفوس إذا تطهرت وصفت عملت المعجزات كما يقول المتصوفة،وللمتصوف عين ثالثة يرى بها ما لاعين رأت، ولا أذن وعت، والحصول على هذه الرؤيا، يحتاج دائما إلى مجاهدة النفس وتخليصها من الشوائب، والأضغان، وفي الصفو والعبادة والنسك امتلاك الإمارة ،وتبوإ مكانة عالية مع رجال الله من المتصوفة. وقد اشترط الشاعر لنيل هذه الحظوة ملازمة الصبر، فبدونه لن يتحقق المراد. وثاني شرط إبعاد الخوف من القلب، لأن القلب هو مركز الإحساس، والصوفي رجل سمته الاطمئنان،والهدوء والسكينة والتأمل لأن هذه السمات وحدها تنقل المتصوف من الشريعة إلى الحقيقة، ومعانقة المحبوب والاتحاد به، لأن المحبوب هو الغاية، أولم يقل مولانا جلال الدين الرومي: العاشق ميت أما المعشوق فحي. فالفناء في المحبوب هو الغاية والهدف الأسمى للمتصوف، ولا يكتمل العشق إلا بالحلول والفناء في المحبوب. والمعرفة الذوقية هي كل شيء عند المتصوف، فمنها ينطلق وإليها العودة والمآب، وفيها يجد ضالته. إنها حكمة استثنائية خاصة بالمتصوفة، وقانون روحي منه يستمد المتصوف طاقته وقوة تفكيره. يقول الشاعر: بيني/ بينك القبض هو البسط،وحتى نتوحد ذاتا سرمدية يرتمى الجزء على الكل، كرمل ذهبي نغزل الوحدة بالرعش، كجذب كهربي، فنفنى ونفنى......