دعنا نتبيَّن واقع وجدية وفاعلية القمم العربية الاقتصادية بإبراز النقاط التالية: فأولا، انعقد أول مؤتمر قمّة اقتصادية عربية منذ ثلث قرن. تميّز ذلك المؤتمر بالتركيز على مداخل استراتيجية كبرى من مثل تهيئة الاقتصاد العربي للمعركة ضد التخلف، ومن مثل توظيفه لخدمة قضايا الأمة العربية وفي مقدّمتها تحرير فلسطين، ومن مثل إقرار ميثاق عمل اقتصادي قومي. وقد هلَّل الكثيرون بذلك الإنجاز الذي عبق بالرُّوح والتوجهات القومية . لكن نفس المؤتمر تقاعس إزاء جدية التنفيذ فرفض مقترحا بخلق هيئة عربية عليا للإشراف على تحويل المقررات إلى مشاريع وتنفيذها. من هنا، توقفت المسيرة تلك عندما اجتاحت الوطن العربي ردة قومية قادها الخارج والقوى الرجعية الداخلية، والتي أدت بدورها إلى صعود الكثير من الأنظمة السياسية العربية المتورطة قياداتُها في الفساد المالي والذممي، والمتحّمسة لقبول إملاءات المؤسسات الاقتصادية العولمية، والمؤمنة لاحقا بالفلسفة الليبرالية الجديدة الحاملة لواء الرأسمالية الأنانية المتوحّشة الفاقدة لأي ضمير اجتماعي إنساني. كل ذلك أدى إلى دخول تلك الاستراتيجيات والمواثيق الواعدة في صندوق الثلج، حيث تجمدت ودخلت في سبات عميق دام أكثر من ربع قرن. وثانيا، وعندما عاد الوعي بأهمية بناء كتلة اقتصادية عربية على المستوى الإقليمي لتواجه أهوال وإملاءات وأخطار شطط العولمة، انعقد اجتماعا قمتي الاقتصاد والتنمية العربيتين. ولم تكن قرارات كلتيهما أقل جدية أو تطلُّعا إلى قيام كتلة اقتصادية عربية مرّ على الحلم بها أكثر من ثلث قرن. وها هي قمة رابعة قد انعقدت منذ يومين في الرّياض لتكمل المشوار، بل وتضيف عليه. ومع ذلك، فإن المراقب لا يستطيع إخفاء شعور قلق داخلي يساوره بشأن تلك القمم، إذ إن جميع تلك القمم تجنبت طرح السؤال التالي: أيُّ دور سيلعبه البترول والغاز العربي في إحداث التنمية العربية الشاملة، وفي مقدمتها الجانب الاقتصادي؟ ذلك أنه ما لم تتفق أنظمة الحكم العربية، بل وقوى المجتمعات العربية، على إجابة واضحة وصريحة وملزمة لذلك السؤال، فإن القمم الاقتصادية العربية ستظل تدور حول نفسها بين مدّ وجزر وبين نوم ويقظة كما فعلت عبر الثلاث والثلاثين سنة الماضية. لماذا يجب أن يطرح ذلك السؤال؟ لأن قاطرة التنمية الاقتصادية العربية لا يمكن أن تكون سوى فوائض الثروة البترولية والغازية العربية الهائلة. أما الاستثمارات العولمية الأجنبية وتفضُّلات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنح الأمريكية والأوربية المشروطة فلن تكون أكثر من إضافات هامشية لن تتجه إلى قلب إشكاليات التنمية العربية الحقيقية. دعنا هنا ننشّط ذاكرة قادة الأنظمة العربية؛ فالسؤال الذي نطالب بطرحه الآن قد وجه منذ عام 1977 عندما كونت الجامعة العربية آنذاك لجنة خبراء استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك التي خرجت بالتوصية التالية: في اعتقادنا أنه لا بد من ارتباط عضوي ونظامي ومعروف ومعلن بين الثروة البترولية والتنمية العربية. صحيح أن دول اليسر تقدّم المساعدات بسخاء، وأكثر مما هو معروف، ولكن.. لا بدّ من أن يكون هناك ارتباط بين الاثنين ارتباط شريكين لا ارتباط مساعدة من طرف لطرف؛ ولقد قدّمت اللجنة مقترحات تنفيذية رفضتها قمّة عام 1998، ولم يجرؤ أحد منذ ذلك الحين على العودة إلى ذلك الموضوع. وإنها لمن سخريات القدر أن يكون أول من رفع قبل ذلك بكثير شعار «نفط العرب للعرب» هو المرحوم عبد الله الطريقي، وزير البترول الأسبق لأكبر وأهمّ دولة عربية بترولية. ولم يقصد ذلك الوزير القومي عروبي الهوى بذلك الشعار استعادة كل دولة بترولية عربية سيطرتها على ثروتها الوطنية تلك من أيادي شركات البترول الأجنبية فقط، وإنما قصد أكثر من ذلك بكثير، إذ أراد أن يستفيد كل العرب من ثروة البترول إنتاجا وتصنيعا وعائدات. اليوم نحتاج، عندما نطرح ذلك السؤال على أنفسنا، إلى أن نطرحه بنفس الروح القومية العروبية، بحيث تلتحم الثروة البترولية والغازية التي عند البعض التحاماً تكاملياً وعضوياُ والتزاماً دائماً بالإمكانات البشرية والثروات الزراعية والمائية والمعدنية والجيو جغرافية وبضخامة المساحة التسويقية التي عند البعض الآخر. عند ذاك، لن تضيع مليارات الدولارات العربية إبّان كل أزمة مالية عولمية تصيب أسواق الغرب الرأسمالي، ولن تستطيع مؤسسات المال الدولية فرض شروطها، وسيكون كل العرب في وضع تفاوضي أفضل أمام كتل الاقتصاد العالمية الأخرى المنافسة أو الطامعة. بروح التفاؤل والثقة في أن الأجواء العربية الجديدة التي جاءت وستجيء بها ثورات وحراكات الربيع العربي ستضفي جدية والتزاما قوميا أكبر على مؤتمرات القمم العربية نتطلع إلى أن تجيب المؤتمرات القادمة عن السؤال الذي طرحه الكثيرون في الماضي ويعاود البعض طرحه في الحاضر. إنه سؤال في صميم النهضة العربية التي طال أمد انتظار مجيئها.