يا ليت الروائي الجزائري الفرنسي ألبير كامو يبعث من موته من جديد ليرى كيف أن ظاهرة سقوط بطل روايته الشهيرة «السقوط» باتت سمة العصر العولمي الذي نعيشه، وأنها ما عادت ظاهرة مقتصرة على بعض الأفراد وإنما امتدَّت لتشمل الكثير من المؤسسات العتيدة. فالمنظر المفجع للتهاوي الأخلاقي والقيمي لأشهر المؤسسات أصبح مثل قطع لعبة الدومينو التي تتساقط الواحدة تلو الأخرى. البشرية الآن تطرح على نفسها هذا السؤال: هل بقيت مؤسسة في عصرنا لم يشملها السقوط الأخلاقي والقيمي بعد؟ والجواب مفجع كما سنرى. لقد اعتقد الإنسان بأن المؤسسة التشريعية الديمقراطية، كونها ممثِّلة للناس ومعتمدة على رضاهم، ستكون في منأى عن خيانة الأسس القيمية التي قامت عليها وجاءت لتحميها، لكنه شاهد قمّة سقوطها المدوّي عندما عاونت أعرق مؤسستين ديمقراطيتين في العالم، الإنجليزية والأمريكية، حكومتي بلديهما لتمارسا الكذب والخداع والبلطجة من أجل احتلال العراق للاستيلاء على ثروته البترولية ولتمزيقه خدمة للمصالح الصهيونية. لقد وضع الإنسان ثقته في قلب المؤسسات المالية، البنوك، لتكشف له الانهيارات البنكية، التي رافقت انهيارات مؤسسات الاستثمار والعقار إبّان الأزمة المالية الاقتصادية العولمية الأخيرة، مدى الفساد والجشع والتلاعب الذي ينخر عظام مؤسسات المال. لقد خدع الإنسان بشعارات المؤسسة الرياضية القائلة بأهمية المنافسة الشريفة بين اللاعبين ليفاجأ يوميا بأخبار المئات من فضائح أخذ الأدوية المنشّطة، وفضائح الرشاوى للاعبين وللأندية لتغيير نتائج المباريات وصفقات بيع وشراء اللاعبين في مزادات علنيّة مبتذلة. لقد خُيّل للناس أن المؤسسة الدينية ستكون أكثر طهرا وعفّة من غيرها من المؤسسات المجتمعية ليصدموا بالمآسي الأخلاقية والجنسية التي طالت أطفالا أبرياء على يد قساوسة الكنائس، أو ليفاجأ بتكالب رجالات وعلماء الدين للدخول في المعارك السياسية على أسس طائفية بغيضة أو على أسس خدمة هذه الحكومة أو ذاك الدكتاتور أو تلك المنظمات الأمنية الاستعمارية. وبعد الحرب العالمية الثانية، تراءى للإنسان أن المؤسسات الدولية ستكون عونا له في محنه وأوجاعه في داخل بلدانه، وعلى الأخص مؤسسات هيئة الأممالمتحدة. واليوم، يقف هذا الإنسان مشدوها تجاه السقوط المذهل لهذه المؤسسة أمام الدول الكبرى كما حدث بالنسبة إلى اجتياح العراق أو كما حدث ويحدث من ضعف الهيئة بالنسبة إلى حقوق الشعب العربي في فلسطينالمحتلة، أو كما يحدث اليوم بالنسبة إلى تمثيلية المحكمة الدولية بشأن مقتل المرحوم رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري. ولا حاجة إلى الدخول في ألوف التفاصيل للفساد المالي والذممي والأخلاقي والانتهازي الذي طال المؤسسة الحكومية التنفيذية أو القضائية أو الأمنية أو العسكرية أو الصناعية، من مثل صناعة الأدوية والتبغ والسيارات والأغذية أو الفنيّة أو الإعلامية... إلخ. فكلها تشير إلى تجذر وانتشار وقبول عاهات الفساد والغشّ وخيانة الذمّة، واعتبار كل القيم والفضائل أمرا نسبيا قابلا للأخذ والعطاء والتبرير، والقدرة الفائقة على إسكات صوت الضمير، والانغماس الهستيري في كل صنوف البربرية الاجتماعية. السؤال الثاني الذي يطرح نفسه هو: هل نحن أمام طريق مسدود لا يمكن اجتيازه، وبالتالي تنبغي العودة إلى ما طرحه فلاسفة الوجودية، كردّ فعل على أهوال وفظائع الحرب العالمية الثانية، من عبثية هذا الوجود الإنساني، أم إن هناك أملا في استرجاع إحدى المؤسسات لعافيتها للبدء في إخراج الإنسان العادي من اليأس الذي يعيشه؟ إن أية متابعة جديّة للمسرح الفكري العالمي تشير إلى أن الأمل في أن تبادر الإنسانية إلى إنقاذ نفسها من ورطتها الحالية يضعف يوما بعد يوم. وعلينا ألا ننسى أن العالم لم يفق بعد من الصّدمة التي عاناها من جرّاء خذلانه من قبل مشروع الأنوار الأوربي. فشعار الأخوة الإنسانية دمّره الاستعمار الغربي، وشعار الحرية فضحته النازية والفاشستية، وشعار المساواة تفضحه يوميا العولمية الاقتصادية التي زادت فقراء العالم فقرا وأغنياء العالم غنى. أما شعارا العقلانية والتقدم فقد عرت عورتيهما حركة ما بعد الحداثة. وفي أرضنا العربية، لا حاجة إلى التذكير بما حلّ بصفاء وعدالة وثورية الإسلام من تشويه وضياع على أيدي الجهل والاستبداد والانتهازية. وكان الناس يعتقدون بأن روحانيات الشرق الأقصى تحمل بعض الأمل، ولكنها تتساقط اليوم أمام الرأسمالية المتوحّشة العولمية التي تنتشر في بلدانه كانتشار النار في الهشيم. يظهر أنه كتب على الإنسانية أن تعيش حلقات النهوض والسقوط المتتالية، والسؤال: متى سيبدأ النهوض من جديد؟