لعل الأمر يكتسي الآن –فورية وملحاحية واستنسالا على غرار: هل الثقافة بنية فوقية منعكسة بمقدار للبنيات التحتية أو عنها؟ استعادة لماركس وانجلز وروزا لوكسمبورغ، وغرامشي، وألتوسِيرْ. هل هي شيء مفارق للواقع جملة وتفصيلا؟ وما المقصود بالثقافة؟ وعن أية ثقافة يتحدثون ونتحدث؟ -وهل المثقفون الجدد هم التكنوقراط أصحاب الملفات والشركات، وإدارة المال والأعمال، والشأن الخاص والعام بالتكنولوجيا الرقمية؟ في «اتحاد كتاب المغرب» واستنادا إلى مرجعيات متعددة إضافة إلى ما ذكر، نعتبر أن الثقافة صنو التقدم والديمقراطية والحرية، إذ هي حامية للإثنيات والأقليات، تمجد الإنسان كذات وكعقل، وتكرس قبول الآخر المختلف عنك لونا وجنسا ولغة ودينا وجغرافية وسلالة وعقيدة، وطقوسا بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة. سؤال الثقافة سؤال يحشر أنفه –وهو ما ينبغي أن يكون- في قضايا التعليم والمرأة والشغل والإعلام من منظور ثقافي خلاق بعيدا عن التزيد السياسي والتحذلق الإيديولوجي. وهوالسؤال الذي ينطرح كما يلي: كيف نواجه الراهن، وتحديات الغد المنظور، والأفق المتوسط والبعيد؟ باعتباره سؤالا يؤسس لصياغة المشروع الحضاري المستقبلي للوطن. لقد طرحت مسألة الثقافة المغربية بحدة واحتداد في المؤتمر الذي أسدل الستار قبل أيام، عوضا عن الثقافة العربية حتى لا يقع ما يُشْتمُّ منه الحجر والمصادرة على المكونات الثقافية الأخرى التي صاغت وتصوغ الملمح الحضاري والهوياتي للمغرب، وأعني به المكون الأمازيعي، والمكون العربي، والمكون اليهودي، وهي المكونات المندغمة التي تشكل جوهر الثقافة المغربية. إن سؤال الثقافة المطلوب والمتوخى هو سؤال النقد والإقلاق، والتعبير الصريح غير الموارب، عن عدم الرضا بالواقع من حيث وضع اليد على هشاشة بعض بنياته، وفساد بعض مؤسساته، ومواقع القرار السياسي فيه، إذ كيف نساهم كمغاربة في عالم يتبدل بطريقة مذهلة، ويتشقلب في كل لحظة، ويتحول بين عشية وضحاها؟ ما موقعنا كمثقفين مما يجري أمام أعيننا من نكسات وارتكاسات وانكسارات، وحقائق دامغة تدمي القلب، وتؤذي الكرامة الإنسانية، كتفشي المحسوبية، واستقواء أقلية بجبروت المال والمصاهرة والمضاربات والمخدرات، والتضييق على الحريات، والعزوف عن القراءة، ومعاداة الثقافة حتى في أوساط المتعلمين أو ممن قيض لهم أن يعلموا ويؤهلوا الأجيال، ناهيك عن موت شبابنا في عرض البحر بعد أن ضاقت بهم السبل في وطن جاحد ولامُبَالٍ، أما المثقفون فابتلعوا ألسنتهم منذ أزيد من عقد، وسدروا في صمت غريب ومريب، وغياب حيال الظواهر المومأ إليها، وأخرى غيرها. أم إن الثقافة تكون منبتة الجذور عن الواقع، ولا صلة لها به، وأن المثقف العضوي بلغة غرامشي لم يعد له مكان الآن في ظل عولمة كَاسِحة، وغاشية آتية تهددنا بالدوس والانكماش نحن الكيانات الصغرى، الكيانات التي تستمرئ الرومانسية والتقليد والتلمذة الكسولة. أم إن سؤال الثقافة الذي نتحدث عنه والذي يروم التحديث والتغير، ورج المسكوك، وزعزعة اليقينيات، لا إمكانية متاحة له في واقع مغربي وعربي وإسلامي بالأحرى، يطبعه التقليد روحا وسلوكا وحياة، دعك من القشور البرانية المجلوبة من أوروبا وأمريكا، والتي لا تغير دخيلة الإنسان المستنيم إلى الفائت والبائت، والعائم في قيم بالية؟ تكمن المفارقة في أن التحديث مس كثيرا الأبنية المادية في البلاد: في وسائل العيش، وفي العمران، واستخدام التقنيات، وتكنولوجيا المعرفة والصورة؛ لكن هذا التحديث لم يمس بنفس القدر البنى الفكرية والعقلية وسلم القيم. وكأنما التناقض والمفارقة قدرنا كما هي قدر البلاد العربية والإسلامية جميعا، فهناك حداثة بَرَّانية بادية في العمران والسيارات والأزياء والبارات، واقتناء العطور... وتأثيث البيوت، وهناك فكر سلفي تقليدي محافظ، وماضوية سارية في كثير من المسلكيات والعقليات والمواقف والعلائق ليس أقلها استمرار الخرافة والمقدس والغيبيات. اتحاد كتاب المغرب مطالب، مثل باقي المنظمات الثقافية والفكرية والأدبية والحقوقية الطلائعية، مطالب، من دون إبطاء، بطرح السؤال الثقافي المغيب والمؤجل، على الواقع، وعلى أهل الحل والعقد، ليرج الآسن، ويحدث ثقبا في البناء المصمت، بالتصدي النسقي والمنهجي لهذه الظواهر المفارقة من خلال خَضِّها بالسؤال المعرفي، والمبادأة العلمية الشكية والاستئصالية، والعقلانية المحسوبة، والصدع بفضح ما يراه معاكسا لإرادة الإصلاح والتغيير: أي بالانخراط في الشأن الثقافي، والشأن السياسي، والشأن الاجتماعي، والشأن الحقوقي حيثما تجلى إِنْ على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع السياسي، وذلك من خلال الكتابة والندوات والأيام الدراسية، والمتابعات الصحفية والإعلامية. ولا يمكن أن يحفر السؤال الثقافي مجراه في النسيج الاجتماعي العام ما لم تَنْتَعِشْ المنظومة التربوية باعتبارها الرافعة الرئيسية لتشغيل الثقافة ونشرها وتداولها، إنها الأرضية التي لا محيد عنها، إذا أُرِيدَ للرأسمال الرمزي الذي هو الثقافة، أن يتغلغل ويتخلل المؤسسات، ومن ثمة الذهنيات والعقليات. إذن هي مسألةٌ ينبغي أن يعيها اتحاد كتاب المغرب وغيره من المنظمات، ليخوض معركة الحداثة ضدا على التقليد والاجترار، واللامبالاة. فالخطاب العام الذي يفترض أن يصاغ هنا والآن، هو خطاب مواجهة التّخَلُّف الشامل الذي ينخر المجتمع، وبعض أوجه النخر هذه سبق ذكرها، بدءا من تحديد طرائق المواجهة، والمدخل الضروري لذلك هو النهوض الفعلي والحقيقي والإرادي بالتعليم، وتحديث منظومته كما أسلفنا. وفي كل الأحوال، لا ينبغي الخلط بين الثقافة كجوهر، والثقافة كقرار إجرائي، وتدبير لشأن من الشؤون العارضة، إذ تتماهى حينها مع السياسة بما يفيد القيادة والمعالجة الآنية السلسلة أو الوعرة للأمور المستجدة، والعوائق الطارئة أو الانبثاقية. إلا أن السؤال الثقافي –كما نفهمه- يجمع بين طَرَفَيْ الخيط معا، بالنظر إلى الحالة المغربية الراكدة والملتبسة، والمُوَلِّية الأدبار لحرقة الخروج من النَّفَق، ووجوب الإقلاع الديمقراطي الحق الذي طال واستطال. من هنا ازدواج وعبء المسؤولية الملقاة على عاتقنا، وهو ما داور المؤتمر السابع عشر لاتحاد كتاب المغرب، تدخلاته عليه، وألح إلحاحا في ذلك. من جهة أخرى، بات من الضروري والمستعجل التفكير في إيلاء الأهمية الاستثنائية للحوار والفكر التحليلي والعلمي والفلسفي، كما للأدب بمختلف أجناسه في توجهها الإبداعي الحق المنتصر لقيم الحرية والديمقراطية والخير والجمال والتسامح، من خلال الحضور في الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، وعبر إقامة الندوات والحلقات الدراسية والملتقيات، والمعارض المتنقلة خدمة للكتاب المغربي، وللكاتب المغربي.