التنمية الثقافية من أبرز أشكال التنمية المجتمعية، التي تسعى الأمم والشعوب إلى بلورتها واستدامة حيويتها ومركزيتها لأنها تصوغ التراث عبر وجوهه النقية و الأكثر إنسانية وشفافية من جهة، وهي التي ترعى الحاضر وتحتفي به باعتباره المرآة التي تضبط حركتها الاجتماعية الكلية من جهة ثانية، وهي التي ترسم الحيوات المتوقعة لمستقبل مقروء بذهنية لا تعرف التجميل والتزويق من جهة ثالثة، لأن الثقافة تشكل القصة الإطار لحياة أي شعب من الشعوب، أو أي أمة من الأمم. بقولة أخرى هي الاستهلال الأولاني الذي يأخذ الآخر إليه تعريفاً، وإدراكاً، للماضي والراهن، وتجسيداً لعتبات أولى موصلة إلى المستقبل الذي نحلم به، بل إن الثقافة، وبعيداً عن ضرورات التعاريف وصرامتها، هي الصبغة الأساسية لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم بعد معرفةٍ وإدراك القيم، والعادات، والأعراف، وأنماط السلوك، والنوازع، والإسهامات على اختلاف أنواعها وأزمانها، أي أنها المرجعية الحقيقية، أو البنك الأزلي لذلك الشعب أو تلك الأمة. إن الاهتمام الكبير بالتنمية الثقافية يتبدى من خلال إدراكنا للدور الخطير الذي تقوم به الثقافة والمتمثل في صياغة إنسان المستقبل. فالثقافة هنا، وهنا بالضبط، هي الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال المؤرق: أي إنسان مستقبلي نريد؟! إن الثقافة فعالية يتعاون على إيجادها وتفعيلها ثلاثة أطراف أساسية، أولها: منتج الثقافة ومخرجها إلى أحيازها الاجتماعية؛ وثانيها: متلقي الثقافة والمتعامل معها سلباً أو إيجاباً؛ وثالثها: المجتمع باعتباره مرآة عاكسة للتفاعل الاجتماعي بين المنتج والمستهلك، وبين المرسل والمرسل إليه، وعيناً راصدة لقبول الثقافة أو رفضها. الوضعية الثقافية بالمغرب يصعب في الوقت الراهن ترسيم صورة وضعيتنا الثقافية لغياب الدراسات السوسيولوجية القياسية التي من شأنها تنويرنا وإمدادنا بالمعطيات الملموسة عن ماهية الوضعية، والمتدخلين فيها والمرجعيات التي تغذيها، وعن قوة الفاعلين فيها والمساحة المسموح لهم بالتحرك فيها.كما أن غياب الإعلام وأحادية توجهه تمنع الباحث النزيه من إصدار أحكام قيمة؛غير أن ما نستطيع معرفته معرفة شبه أكيدة هو الصورة التي آلت إليها وضعية المثقف بحكم توافر عوامل شتى. هناك، من وجهة نظري، صورتان للمثقف المغربي: -1 صورة المثقف المندمج في الظاهرة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن ثمة فهو يندمج مع حداثات اجتماعية نامية تدرج ببطء، ويراد لها قوة دفع ثقافية.قوة تتبلور في بلدان ابتليت بشتى أنواع الفيروسات الثقافية المؤذية. -2 صورة المثقف المنعزل الذي يعيش اغترابه القاتل مع جيل بأكمله عاجز عن انتشال نفسه من عجزه المزمن. وبين هاتين الصورتين تنشأ كل الأزمات، اغتراب المثقف وانفصاله عن الفكر والثقافة وامتلاك سلطة فاعلة. أزمة القراءة/الكتاب تتعدد مظاهر أزمة الكتاب المغربي في الوقت الراهن على أكثر من صعيد، ويمكن أن نبرز أهمها في النقاط التالية: - التكلفة المرتفعة للكتاب، سواء أثناء الطبع أو النشر أو التوزيع أو الاقتناء، فصناعة الكتاب تتطلب تكاليف مادية ومالية باهظة في جميع عمليات الإنتاج خاصة أثناء الطبع والتوزيع.. - غياب أو ضعف البنيات التحتية الثقافية والتربوية كدور الشباب والثقافة والمكتبات والخزانات، ثم دور النشر والتوزيع والطباعة، وكذلك الجمعيات الثقافية والتربوية. وكل هاته العوامل تساهم في تنشيط الحركة الثقافية ونشر الكتاب والتشجييع على القراءة والمطالعة والتثقيف الذاتي. - ضعف نسبة القراءة، وخصوصاً الكتاب، في صفوف الشباب نظراً لعدة عوامل كالفقر والبطالة والجهل والأمية. - إشكالية توزيع الكتاب، وخصوصاً بالبوادي والأرياف والمناطق القروية البعيدة والنائية التي تعرف أزمة ثقافية حقيقية بسبب عزلتها وبعدها وتفشي الأمية. - منافسة الكتاب المغربي من طرف الكتب المشرقية والأجنبية (الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والأمريكية). - الطابع أو الهاجس التجاري الذي أصبح يطغى على مالكي دور النشر والطباعة والتوزيع وأصحاب المكتبات الذين يروجون للكتب التجارية غير الجادة. - عدم استفادة الكتب من الدعم المادي والمالي والمعنوي مقارنة بالجرائد والمجلات التي تتلقى كل أشكال الدعم. - عزوف رجال التعليم والتربية والمثقفين عن القراءة والمطالعة وطلب العلم، وخصوصاً الكتب، نظراً لعدة اعتبارات ذاتية وموضوعية. دوافع أزمة الكتاب المغربي تتعدد أسباب أزمة الكتاب بالمجتمع المغربي. وفيما يلي بعض منها : - انتشار آفة الجهل والأمية والفكر الخرافي، مما يكرس أزمة القراءة بالمغرب. - ضعف القدرة الشرائية للناس، خاصة الشباب، بفعل انخفاض الأجور والفقر والبطالة، مما ينتج عن ذلك عدم القدرة على اقتناء الكتب وقراءتها. - الغزو الإعلامي المتمثل في مختلف وسائل الإعلام، خاصة القنوات الفضائية التي تقف عائقاً أمام القراءة ومطالعة الكتب. فإذا كانت قراءة الكتب تستوجب إعمال العقل والتركيز والتفكير، فإن مشاهدة برامج القنوات التلفزية لا تتطلب عناء كبيراً. كما أن وسائل الإعلام السمعية والبصرية لا تساعد على القراءة، وخاصة الكتب، حيث تغيب أو تقل البرامج الثقافية والتعليمية والتربوية التي تعالج قضايا الفكر والكتاب. - استفحال المشاكل الاجتماعية والاقتصادية كالفقر والبطالة والبؤس الاجتماعي، والتي تدفع بالشباب إلى العزوف عن القراءة ومطالعة الكتب ومدارستها. - غياب أو قلة البنيات التحتية الثقافية كالمكتبات والخزانات ودور الثقافة والشباب. - تفشي ظاهرة القراءات الرخيصة التي تتمثل في قراءة الجرائد والمجلات التي تعالج مواضيع الفن والرياضة والسينما والغناء والرقص وعروض الأزياء والتمثيل. وغالباً ما تكون القراءات الرخيصة تكميلية لما يشاهد على القنوات الفضائية العالمية من أفلام ومسلسلات ومباريات رياضية وأغانٍ ومسرحيات.. وهكذا تعمل القراءات الرخيصة على الترويج للثقافة الاستهلاكية التجارية وتقف عائقاً أمام القراءات الجادة والهادفة. هكذا إذن، وبفعل العوامل سالفة الذكر تستفحل أزمة القراءة، وخاصة أزمة الكتاب بالمجتمع المغربي، رغم أهمية القراءة في صياغة شخصية الإنسان وربطه بمعطيات العصر. في المقابل نجد المجتمعات الغربية، الأوروبية والأمريكية، تعطي أهمية قصوى لقراءة الكتب والتبحر فيها، وهذا هو سر تقدمها على جميع المستويات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والثقافية. ولهذا فحري بالمغاربة، وخاصة شبابها، الاهتمام بالقراءة وطلب العلم والمعرفة من أجل التجديد الفكري واللحاق بركب الحضارات والأمم المتقدمة . الكتاب والمؤسسة في واقعنا المغربي لا تحسن المؤسسة /المؤسسات التعامل مع الكتاب من حيث الطباعة والتسويق، وإن أحسنت الطباعة لا تحسن التسويق والتوزيع. لذا يظل الكتاب المغربي عبر المؤسسة كائنا ضالا لا يصل إلى القارئ أو لا يتواصل معه، ويصيبه ما يصيب هذه المؤسسات من افتقاد التواصل فيما بينها، ولا ينجو من فكرة سوء التوزيع والتسويق إلا القليل من المؤسسات التي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وإن كان هذا حال المؤسسة الثقافية المختصة بصناعة الكتاب، فإن مؤسسة أخرى تتماس طبيعتها مع الكتاب، وأعني المؤسسات التعليمية، وخاصة في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، حيث آليات التعليم وتعاملها مع الكتاب تمثل واحدة من أشكال الاستهانة بالكتاب، وتغييب فضيلة تعليم التلاميذ أهمية الحفاظ على الكتاب. فالمؤسسات التعليمية تطبع كتبها المقررة، وتساهم آليات التعليم في إهمال الكتاب المدرسي الذي يتحول إلى مجرد وعاء لمنهج لا يهتم به التلميذ.يضاف إلى ذلك ما يترتب عن ذلك من تخلص التلاميذ من الكتب باعتبارها رمزا للمدرسة/الإعدادية/الثانوية، التي تحولت في ذهنهم إلى مشروع فاشل لا يسعد بالتعامل معه، ولا يحرص عليه، ومن ثمة إيداعها باعة المهملات، وكان على هذه المؤسسات التعليمية أن تسعى إلى بث قيمة تربوية في نفوس التلاميذ بأن تعمل على تثبيت مناهجها على مدى خمس سنوات تطبع فيها الكتب مرة واحدة، ويتداولها التلاميذ في نهاية العام أو بداية الموسم الدراسي الجديد، حيث يقوم التلميذ بتسليم كتب العام المنصرم واستلام كتب العام الدراسي الجديد. وكم ستتحقق فوائد جمة من هذه الآلية، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو تربوي تعليمي.وفي ظل ما يحدث،الآن، في مدارسنا، ليس غريبا أن نربي النشء على عدم احترام الكتاب. على سبيل الخاتمة إن عملية القراءة، وآليات تحسين شروط القراءة، وتداول الكتاب مشروع ديموقراطي. إن القراءة هي أسمى شيء في تكوين المواطن، وهي عملية تربوية تتطلب الوعي بأن هذه العملية يجب أن تكون ملازمة لحياتنا وسلوكنا. وتيسير القراءة وتداول الكتاب المغربي هو تحقيق لمواطنة المواطن، ودفع قوي لمعانقة الأمل والتشبث، بعناد، بآفاق مستقبلية رحبة.