هل كانت معاناة معتقلي سجن تازمامارت، الأكثر فظاعة في تاريخ المغرب الحديث، أقسى وأبشع من معاناة أبنائهم وزوجاتهم الذين عاشوا الجوع والتشرد والخوف؟ من خلال «كرسي الاعتراف» مع خديجة الشاوي، زوجة محمد الرايس، أحد أشهر معتقلي سجن تازمامارت، يختل الجواب بنعم. في «كرسي الاعتراف»، تحكي خديجة الشاوي كيف تزوجت «لاسبيران» (المرشح لرتبة ضابط) محمد الرايس، وعمرها 12 سنة، وكيف تركها عرضة للتشرد رفقة ستة أطفال، هم إرثها منه عندما اعتقل على ذمة محاولة الانقلاب على الحسن الثاني سنة 1971. وكيف طرقت باب للا عبلة، والدة الحسن الثاني، وما عانته لمقابلة الأمير مولاي عبد الله، وصولا إلى لقائها بالحسن الثاني الذي استجاب لطلبها، ليس بالإفراج عن زوجها، وإنما بتخفيف الحكم الصادر في حقه من الإعدام إلى السجن المؤبد، قبل أن تفاجأ ذات صباح باختفاء زوجها من سجن القنيطرة إلى مصير مجهول، ثم كيف جن جنونها وهي تقرأ رسالة خرجت من جحيم تازمامارت، يقول فيها الرايس: «أنا في سجن هو أقرب إلى القبر»، لتبدأ معركة التعريف بقضية معتقلي تازمامارت والنضال من أجل الإفراج عنهم، إلى أن أخلي سبيل زوجها محمد الرايس الذي اقتيد من تازمامارت إلى سجن القنيطرة حيث قضى سنة إضافية، قبل أن يتدخل السوسيولوجي الفرنسي الشهير، جاك بيرك، لدى الحسن الثاني للإفراج عنه، لتجد الشاوي أمامها شخصا بملامح وطباع غريبة مقارنة بذلك الزوج الذي فارقها لمدة عشرين سنة. - بعد حضور ابنتك إلهام الرايس في مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان في جنيف سنة 1989، هل تم، فعلا، تمتيع معتقلي تازمامارت ببعض الحقوق؟ بعد الحملة الإعلامية التي قامت على إثر مشاركة إلهام وكريستين دور السرفاتي في مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان في جنيف، أخرج المعتقلون من زنازينهم على أساس أن يتم السماح لهم بتنظيف أنفسهم بعد حوالي 20 سنة من العفن والعطانة، كما وُعدوا بأن يُمنحوا ملابس نظيفة يعوضون بها أسمالهم الممزقة والنتنة. لكن بعد أن أعطى الحسن الثاني حوارا صحفيا نفى فيه أن يكون هناك معتقلون في تازمامارت، وقال فيه أيضا إن قلعة مكونة منطقة سياحية وعاصمة للورد، أعيد السجناء إلى زنازينهم دون استحمام ولا استبدال للخرق البالية التي يرتدونها. - هل استمروا على حالهم السابق إلى أن تم إطلاق سراحهم من تازمامارت يوم 16 شتنبر 1991؟ لا، بعد النداء الثاني الذي وجهته إلهام من جنيف وطالبت فيه المنتظم الدولي والمنظمات الحقوقية بإرسال لجنة تقص إلى المغرب للوقوف على الفظاعات المرتكبة في تازمامارت والتي ظل النظام المغربي ينفيها ويتحدث عنها كما لو كانت أضغاث أحلام وأوهاما من نسج مخيلة معارضيه، أعطي الأمر مجددا بإخراج السجناء من زنازينهم ومنحهم بعض الرعاية؛ ومنذ ذلك الحين تغيرت معاملة إدارة المعتقل للسجناء، وصارت تهتم بهم نسبيا. وفي شهر غشت 1991، تم استدعائي أنا وإلهام لحضور مؤتمر لحقوق الإنسان في فرنسا، فسافرت إلى إنجلترا، حيث كانت تقيم إلهام، على أساس أن نذهب سويا إلى هذا المؤتمر؛ وفي الليلة السابقة على يوم المؤتمر، اتصل العربي معنينو، الناشط الحقوقي المغربي المقيم في فرنسا، بإلهام وأخبرها بأن سجناء تازمامارت تم نقلهم إلى مدينة ميسور أو الحاجب.. لم يكن معنينو يعرف حينها أن الرايس وأصدقاءه تم نقلهم إلى أهرمومو، لكنه كان متأكدا من أنهم أخرجوا من تازمامارت إلى وجهة أخرى، وأفاد معنينو إلهام بأنه سمع الخبر من جمعيات حقوقية دولية ومحلية. وبعد هذا الاتصال، عدلنا عن المشاركة في المؤتمر الحقوقي المنظم في فرنسا، وقررت أنا العودة إلى المغرب في الحال حتى أكون في استقبال زوجي الرايس عندما يطلق سراحه. هكذا غيرت إلهام تذكرة الطائرة لتصبح الوجهة هي المغرب بعدما كان الحجز على رحلة نحو فرنسا، وعدت. لكنني عندما حللت، لم أجد أخبارا جديدة عن زوجي، وكلما سأل المحامي أو سألتُ أنا عن مكان وجوده لم نجد ردا شافيا، وحتى من كانوا يعلمون بالمكان الذي نقل إليه زوجي ومن معه، كانوا خائفين من أن يفتحوا أفواههم بكلمة، لأن الأمور لم تكن واضحة بالنسبة إليهم، ولا أحد كان موقنا بما إذا كان نقل هاته الهياكل العظمية، المسماة معتقلي تازمامارت، سيكون إلى الحرية أم إلى قبور حقيقية للتخلص من ذكرى سيئة كانت السلطات العليا في المغرب حائرة في كيفية مسحها. للحظة فكرت أن الخبر الذي أبلغنا به معنينو ربما كان إشاعة، فقد سبق أن حدث مثل هذا في السنوات الأخيرة من السبعينيات، حيث بلغتنا بعض الأخبار عن كون معتقلي تازمامارت تم نقلهم إلى مكان آخر، لكن سرعان ما تأكدنا من عدم صحة تلك الأخبار عندما وصلتنا رسالة أخرى من تازمامارات. لذلك بقيت، أنا وغيري من ذوي المعتقلين، منتظرين إشارة واضحة أو خبرا يقينيا عن معتقلينا. وفي تلك الفترة، وأمام تقاطر سيل الأخبار والإشاعات المتقاربة حينا والمتضاربة أحيانا، بدأت أصاب بنوبات عصبية تستدعي أحيانا حقني بمهدئ في الشريان، حينها كنت أشتغل في قسم العمليات، وكان الأطباء يسألونني عن سبب هذه النوبات، فكنت أخبر بعضهم بمعاناتي وهواجسي التي كنت أعرف أنها ناتجة عن قلق انتظار ما قد يأتي أو لا يأتي. وذات مرة، أكد لي طبيب جراح، كان يعمل معنا في المستشفى، أن أحد أصدقائه، وهو طبيب في الجيش سبق له أن اشتغل لفترة في تازمامارات، أخبره بأن نزلاء هذا المعتقل تم نقلهم إلى أهرمومو، وهناك أطباء يعتنون بهم ويقدمون إليهم العلاجات اللازمة استعدادا لإطلاق سراحهم. - هل فكرت في الذهاب إلى أهرمومو لرؤية زوجك؟ كان ذلك مستحيلا كما في السابق حين حاولت أن أزور الرايس في تازمامارت، وهذه قصة أخرى مليئة بالمعاناة. - كيف ذلك؟ لقد كان أحد المرضى، من مدينة الراشيدية، ينزل بالمستشفى حيث كنت أشتغل، فسألته عما إن كان يعرف سجن تازمامارت، مدعية أن أحد أقاربي سجين هناك، فأجابني بأنه يعرفه، وأخذ يشرح لي قائلا إن كل نزلاء تازمامارت من الجيش، فطلبت منه أن يرشدني إلى مكانه لأني أرغب في زيارة قريبي. وبالرغم من أنه حذرني من مغبة الاقتراب من تلك المنطقة المحظورة، فقد أصررت على أن أرافقه حين يكون عائدا إلى مدينته، مؤكدة له أن مهمته تنتهي حين يدلني على الطريق المؤدية إلى ذلك المعتقل. وقد رأيت الفزع في عيني الرجل، لكنه أذعن أمام إلحاحي العنيد. وبالفعل، رافقته على متن نفس الحافلة. ولشدة خوفه، اشترط أن أجلس في مقعد بعيد عنه، وكذلك كان. وعندما وصلنا إلى الراشيدية وصف لي الطريق، الذي أكد لي أنني سأقطعه راجلة، في غالب الأحوال، وإن حالفني الحظ فيمكن أن أجد عربة تحملني حتى أقرب نقطة إلى تازمامارت. أخذت أمشي مسترشدة بتعليمات ذلك الرجل، وما لبثت سيارة جيب عسكرية أن استوقفتني بينما لم أكن قد قطعت مسافة طويلة.