لا أعرف لماذا بمجرد ما يذكر أحدهم اسم «لولا» رئيس الحكومة البرازيلية، يذهب ذهني مباشرة إلى شباط عمدة فاس. «لولا» عاش طفولة فقيرة وغادر مقاعد المدرسة مبكرا لكي يتشرد في شوارع «ريو دي جانيرو» ثم لكي يشتغل ميكانيكيا في معمل ثم ينخرط في نقابة العمال، وبعد مدة قصيرة يصبح زعيم النقابة ورئيسا لحزب العمال ثم رئيسا للدولة. وشباط جاء إلى فاس من قبيلة البرانس، بعد أن غادر مقاعد الدراسة مبكرا. وعثر له على عمل في فاس كسيكليس، ثم كمستخدم في أحد المعامل. وهناك سينخرط في نقابة حزب الاستقلال وسيترشح باسمها للانتخابات البلدية وسيفوز بمقعده، قبل أن يباشر الانتخابات البرلمانية ويفوز بها ثم يتحول إلى عمدة للمدينة العلمية والروحية التي كانت عاصمة المغرب قبل أن ينقل الماريشال ليوطي عاصمة ملكه إلى الرباط. واليوم نرى كيف أسقط شباط خصمه بنجلون الأندلسي من نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، لكي يأخذ مكانه. وذهب إلى حد وصفه في أحد تصريحاته الأخيرة بالسفيه والمريض عقليا والضبع وفاقد الشخصية الذي كان يقبل كتف شباط باحترام. فرد عليه بنجلون الأندلسي، الذي يمثل قطاع رجال التعليم في النقابة يا حسرة، بوصفه بالغجري والكذاب والانقلابي والمشعوذ الذي يعرف لماذا يصلح الضبع. عذر شباط أنه غادر مقاعد الدراسة مبكرا، ولذلك فهو لا يزن جيدا ثقل الكلمات التي ينطق بها، أما بنجلون الأندلسي فقد ظل لسنوات طويلة يرأس الجامعة الحرة للتعليم، وبفضل المعجم الذي استعمله الأندلسي في رده على شتائم شباط سيفهم رجال التعليم أخيرا المستوى الفكري لمن كان يمثلهم في النقابة ويدافع عن حقوقهم. في أحد حواراته الأخيرة قال شباط أنهم اكتشفوا في النقابة أن الأندلسي اشترى سيارة ب60 مليون سنتيم من أموال العمال، وأن مستخدمي إدارة الاتحاد العام للشغالين غير مصرح بهم لدى صندوق الضمان الاجتماعي، برغم الاقتطاعات التي تتعرض لها أجورهم الشهرية لهذا الغرض. كل هذا كان يمكن أن نحسبه على رغبة شباط في تنظيف البيت الداخلي للنقابة، لكن عندما يقول بأنهم لجؤوا إلى هذا الافتحاص بعد خرجات بنجلون في الصحافة، فهذا ما يجعلنا نتساءل عن مصير كل هذه التجاوزات لو أن الأندلسي دخل «جواه» واحتفظ بخرجاته لنفسه ولم يهاجم شباط في الصحافة. طبعا كانت كل هذه التجاوزات ستبقى حبيسة أدراج المقر المظلم للنقابة. ورغم أن السياق العام الذي جاء فيه هذا الافتحاص لم يكن بريئا تماما، بحكم أنه جاء كانتقام من الأندلسي الذي تجرأ على مواجهة من سماه بالغجري، ونسي رئيس نقابة رجال التعليم أن الغجر شعب لديه تاريخ وثقافة واستعماله كشتيمة فيه حط عنصري من كرامة هذا الشعب، فإن ما كشف عنه الافتحاص يبقى جديرا بالتأمل. لأنه يفضح سلوك بعض النقابات التي تعطي للحكومة ولأرباب المعامل والمصانع والشركات الدروس في احترام حقوق العمال والمستخدمين، في الوقت الذي لا تتورع فيه هذه النقابات عن أكل انخراطات مستخدميها في صندوق الضمان الاجتماعي كل شهر. وقد كنت أراقب من شرفة مكتبي طيلة الأسبوع الذي سبق عيد الأضحى مقر شركة للحراسة يوجد أمامنا بشارع الجيش الملكي، وأتساءل عن سبب احتجاجات العشرات من رجال الحراسة أمام باب العمارة حيث توجد الشركة، فعرفت بأن هؤلاء الحراس جاؤوا يطالبون برواتبهم التي لازالت في ذمة الشركة التي توجد على رأسها لبنى بن الصديق، ابنة المحجوب بن الصديق، رئيس نقابة الاتحاد المغربي للشغل يا حسرة. عندما قلت أن الرئيس البرازيلي «لولا» يذكرني بشباط، فإنني لم أكن أقصد أن بينهما نقاط شبه حاليا، وإنما أقصد طريقة وصول كل منهما إلى ما وصل إليه. فكلاهما جاء من الفقر إلى المعمل ومنه إلى النقابة فإلى الشهرة والثراء والسلطة. وإذا كان «لولا» قد وصل إلى أعلى منصب في البرازيل وهو رئيس الحكومة، فإن شباط يستعد من الآن لتقديم ترشيحه لرئاسة حزب الاستقلال بعد استنفاد عباس لولايته الثالثة، وقد كشف عن هذه الرغبة لإحدى الصحف مؤخرا. مما يعني أن المغاربة قد يجدون أمامهم سنة 2017 شباط في منصب الوزير الأول إذا ما فاز حزب الاستقلال بالانتخابات. لكن الفرق الكبير بين الرئيس البرازيلي «لولا» وشباط هو أن الأول قال مؤخرا بأنه رغم مضي ست سنوات على جلوسه على مقعد الرئاسة فإن أناه لم تتضخم بغرام واحد. أما شباط، وكثير من المسؤولين السياسيين عندنا بمجرد ما يفوزون بمقعد تافه في مجلس أو بلدية حتى تتضخم «قراجطهم» وتتضخم أوداجهم وكروشهم، ويصبح الحديث معهم محتاجا إلى مواعيد طويلة الأمد. شخصيا أعتقد أنه من الديمقراطية أن يصبح شباط وزيرا أول ذات يوم. فعدد الأميين في المغرب يفوق خمسين بالمائة، والرقم في تزايد. ولذلك سيكون من المنطقي انتخاب وزير أول يمثل الأغلبية. وقد قال لولا نفسه أنه رئيس منتخب يمثل الطبقة العاملة التي تعتبر في البرازيل أغلبية. فماذا صنع طفل الشوارع القديم للبرازيليين حتى صوتوا عليه لمرتين متتاليتين، وما هي الوصفة السحرية التي يستعملها حتى حطمت شعبيته اليوم أرقاما قياسية، وأصبح 70 بالمائة من بين 196 مليون برازيلي متفقين مع سياسته. هذه بضعة قرارات اتخذها «الخراز» القديم وتحمل فيها مسؤوليته، ونجح. وهي دروس يمكن لعباس الفاسي، الذي نزلت شعبيته إلى الحضيض، أن يستفيد منها في ما تبقى له من وقت على رأس الحكومة. عندما تسلم «لولا» السلطة، بعد ثلاث محاولات فاشلة، قال له «الفهايمية» الاقتصاديون بأن عليه خلق النمو من أجل توزيع الثروة. ولذلك يجب عليه أن يعد حلوى وعندما تنضج آنذاك يمكنه أن يوزع الكعكة. لكن «لولا» لم يكن متفقا ولم ير ضرورة لانتظار نضج الحلوى، وقرر الشروع في إرساء تجربة اقتصادية جديدة اسمها «البورصة العائلية»، وهي عبارة عن إعانة مالية شهرية تذهب مباشرة إلى العائلات الفقيرة مقابل ضمان تمدرس أبنائها. وهكذا عوض أن تساعد الدولة الأغنياء الذين سيشترون التلفزات بشاشات بلازما والسيارات الفخمة المستوردة من الخارج، فإنها تقوم بمساعدة الفقراء الذين سيشترون بالمساعدات الحليب والأرز والطحين والأحذية والجوارب. وهكذا ساهمت «البورصة العائلية» في تنمية المناطق القروية ورفعت من مستوى عيشها الاجتماعي. وقد منحت اليونيسيف مؤخرا جوائز تقديرية لحوالي 259 جماعة قروية بالبرازيل حيث نزلت نسبة وفيات الولادات إلى ما دون 2 وفيات بين كل 1000 ولادة بفضل مساعدات «البورصة العائلية». عندنا ليس المرض وسوء التغذية هو ما يقتل الأطفال الرضع، بل حتى لقاحات وزارة الصحة الفاسدة أيضا. أما بالنسبة للعنف في صفوف الشباب والمراهقين، والذي يعاني منه المغرب بقوة اليوم، فقد اكتشف «لولا» حلا سهلا وبسيطا. لقد شيد 214 مدرسة تقنية حيث ستتم إعادة تمدرس حوالي 4.5 مليون مراهق يتسكعون في الشوارع. وأيضا ينص البرنامج على منح هؤلاء المراهقين منحة شهرية قدرها 38 أورو لكي يتعلموا حرفة تنفعهم في المستقبل. هكذا لن يقعوا في قبضة تجار المخدرات وعصابات السرقة والجريمة المنظمة. هذا هو الفرق بين «لولا» وشباط وعباس الفاسي وحكومته. وإذا كان ساستنا غير معجبين بالنموذج البرازيلي فيمكننا أن نحيلهم على النموذج البوليفي، حيث أعلن قبل أمس الرئيس «إفو موراليس» الذي جاء إلى السلطة من قبيلة هنود، عن نجاح حكومته في محو الأمية بالبلاد. علينا جميعا حكومة وشعبا أن نتأمل هذا الدرس البوليفي. بوليفيا هي أفقر دولة في أمريكا اللاتينية، ومع ذلك فإن فقرها لم يمنعها من تعليم أبنائها والقضاء على الأمية في صفوفهم. لقد وضع الرئيس المتواضع والبسيط «إفو موراليس» نصب عينيه برنامجا للقضاء على الأمية اسمه «نعم يمكنني»، ونجح في تطبيق برامجه. نعم، نحن أيضا يمكننا القيام بذلك. لكن ليس مع وزير أول كعباس الفاسي يخطئ حتى في نطق الاسم الصحيح للرئيس الإسباني، حيث ناداه «خوسي ماريا زاباطيرو»، قبل أن يصحح خطأه بخطأ أفظع ويطلق على «الراجل» اسم امرأة عندما ناداه «ماريا خوسي زاباطيرو». نعم يمكننا، لكن بوزير أول من طينة «لولا» و«إفو موراليس» لديهم إحساس قوي وعميق بأهمية العائلة في المجتمع المغربي. بحيث تذهب جميع مخططاتهم الحكومية لدعم هذه الفئة من المجتمع، خصوصا الأكثر فقرا بينها. سيذكر التاريخ لعباس الفاسي وحكومته أنه منذ يومها الأول منحت هدايا ضريبية للشركات الكبرى والبنوك، ورفعت قيمة الضريبة على «الليزينغ» وأسعار المواد الغذائية والأدوية والمحروقات على الطبقات الشعبية الفقيرة. يقول الرئيس البرازيلي «لولا»: «عندما اكتشفت أمي أن أبي لديه امرأة أخرى، ذهبت إليه ذات صباح وقالت له بأنها ستتركه. لقد كانت والدتي امرأة أمية، وكان لها ثمانية أطفال، لكنها كانت تقول بأن الإنسان يجب أن لا يفقد أبدا الحق في المشي برأسه مرفوعا. هكذا فهمت أهمية العائلة، ولذلك أجعلها دائما في قلب سياستي». والفاهم يفهم.