لم يكتشف المغاربة سلاح "الكلاشينكوف" لأول مرة إلا مع أحداث فندق أطلس أسني بمدينة مراكش في غشت من سنة 1994. لقد كانوا يعرفون قوة ودقة هذا السلاح من خلال شاشات التلفزيون، وأفلام السينما، قبل أن يكتشفوه على أرض الواقع. غير أن المثير فيما عاشته مراكش، ومعها المغرب، التي ظلت تنعم بأمن وسلام جعلاها تحمل لواء الاستثناء، هو أن كل الذين تعاقبوا على أمن البلاد بعد ذلك، لم يستفيدوا من الدرس جيدا. والحصيلة هي هذه العمليات الإرهابية التي عشناها بعد ذلك، وهذه الجرائم التي توالت وتطورت وأصبحت تستعمل الأسلحة في عملياتها، من المخدرات، إلى الذهب، إلى الأبناك وتصفية الحسابات الشخصية. تبدو الصورة مستفزة أن يقف رجل أمن بزيه الرسمي والحزام الجلدي على خصره متدليا بشكل غير مضبوط، فيما يبرز بطنه متقدما إلى الأمام. ويطرح المواطن البسيط سؤالا مستفزا، هو كيف يمكن لهذه البنية الجسدية المهترئة أن تقوم بدورها في حماية أمن وسلامة المواطنين. إنها الصورة التي أعطت للإجرام بكل تلاوينه مساحة التطور، لأنها لم تحقق ما تسميه الأدبيات الأمن الوقائي. كما أن كل الظروف التي يشتغل فيها رجال الأمن اليوم بكل أصنافهم، لا تساعد على أداء المهمة كما يجب، يشرح أحد رجال الأمن الذي يعتبر دوره أساسيا في ضمان الحد الأدنى من الأمن والأمان. ظروف تلخصها شهادة ضابط أمن اشتغل لسنوات داخل مدرسة تكوين رجال الشرطة. تكوين غير كاف يشرح هذا الضابط كيف أن مدة التكوين، التي كانت تحدد في ستة أشهر كحد أدنى، يقضيها الطالب المتدرب داخل ثكنة الشرطة، على اعتبار أن الأمن الوطني هو جهاز شبه عسكري وإن كان لا يوازي الدرك الملكي، الذي يصنف على أنه جهاز عسكري بالتمام والكمال، أضحت تقلص في السنوات الأخيرة لشهر يزيد أو ينقص. وأربعة أسابيع لن تكون كافية لإعداد رجل أمن توكل له مهام حماية أمن وسلامة البلد. غير أن هذا الإكراه يجد له بعض كبار الإدارة العامة للأمن الوطني ما يكفي من مبررات تلخصها شهادة مسؤول يرى أن تنامي الجريمة في مغرب اليوم فرض علينا الإسراع في توفير الموارد البشرية الكافية لمواجهة سلسلة الاحتجاجات، وتوفير شرطة للسير والجولان، وأخرى للاشتغال في صفوف الضابطة القضائية. أي أن تنامي الجريمة بكل أنواعها هو الذي تسبب في تقليص مدة التكوين. تكوين أَسَر لنا أحد مسؤولي مدرسة بولقنادل المتخصصة، على أنه يأتي مع الممارسة. الإكراهات ليست في مدة التكوين، ولكنها ممتدة لأشياء أخرى، يشرحها مسؤول أمني غادر المهنة بعد أن وجد أنها لا توفر كل أدوات النجاح. إنها حصص التكرار التي تنهك حال رجل الأمن، الذي يجد نفسه يشتغل أكثر من الحصص المعتادة بمبرر تعزيز التواجد الأمني، ينضاف لها الفقر الكبير في أدوات العمل. لذلك يستحضر محاورنا تجربة "كرواتيا"، التي كانت إدارة الأمن الوطني، على عهد الجنرال حميدو لعنيكري، قد دخلتها في بداية عهد محمد السادس. يقول إنها تجربة رائدة، لأن الجنرال لعنيكري وفر لها ما يكفي من أدوات عمل من سيارات دفع رباعي، ودراجات نارية بأعداد كافية. لذلك كسب الأمن الوطني معركة التواجد في كل مكان ليحقق الأمن الوقائي الضروري. من خلال الاستعراض الأمني، ومن خلال البدل الخاصة التي ظل يرتديها هؤلاء. غير أن التراجع الذي حدث بشأن تجربة "كرواتيا"، وهي التسمية الشعبية التي أطلقت على هذه المجموعة من رجال الأمن، الذين ظلوا يتواجدون في كل مكان، طرح أكثر من سؤال حول الخلفية التي حركت هذا التوقف على الرغم من كل الإمكانات المالية التي وضعت رهن إشارته. البعض رأى أن "كرواتيا"، التي اشتغلت بهمة ونشاط في بداية عهدها سرعان ما عادت لتنخرط في ابتزاز المواطنين والبحث لهم عن أي مبرر لاعتقالهم والزج بهم في السجون. فيما يشرح آخرون أن صعود نجم الجنرال حميدو لعنيكري بتلك القوة، شكل خطورة على كبار الجنرالات، الذين وجدوا أن المدير العام للأمن الوطني قد يسحب البساط من تحت أقدامهم، ذلك تحركت الخيوط لإسقاط تجربته. أسلحة تقليدية ومنتهية الصلاحية حينما تفجر فندق أطلس أسني بسلاح "الكلاشينكوف"، كان رجال الأمن عندنا، ولا يزالون إلى اليوم، يستعملون سلاحا تقليديا اسمه "براونديك إ ف أن". سلاح لا يوازي في الدقة والصرامة وسرعة التنفيذ سلاح الكلاشينكوف. لذلك كان من الصعب، بل من المستحيل أن يطلب من أمننا الوطني أن يقوم بدور حماية البلد بمثل هذه الأدوات. أما من توكل إليهم مهام المراقبة حينما يتعلق الأمر بأحداث استثنائية أو بمراقبة الطرق في الباراجات، فلا يستعملون غير رشاش "ا ش كا" بخراطيش محدودة تتراوح في المعدل بين 5 و10. ويحكي أكثر من رجل أمن كيف أن الكثيرين ممن يكلفون بهذه المهام يضطرون إلى ترك هذه الخراطيش ببيوتهم مخافة الضياع، الذي يعني المساءلة، وقد تمتد هذه المساءلة إلى العقوبة التي يمكن أن تصل حد العزل. لذلك يطبق هؤلاء شعار "كم من حاجة قضيناها بتركها". أما جل هؤلاء الذين يقفون اليوم، سواء في الطرقات أو أمام المؤسسات العمومية يضعون قرب جيب سترتهم أسلحة "براودينك"، فلم يسبق لهم أن استعملوا السلاح لمدة قد تتجاوز الثلاثين سنة، أي أن هؤلاء لا يجربون أسلحة يحملونها، ويفترض أن يتم استعمالها عند الضرورة، منذ غادروا أكاديمية الشرطة أثناء التداريب الأساسية. ويبدو أن إدارة الأمن الوطني لم تنتبه لهذا الأمر إلا في المدة الأخيرة على عهد الشرقي الضريس، حيث تمت برمجة حصص في الرماية لرجال الأمن. المثير، وحسب شهادات رجال أمن دخلوا هذه التجربة مكرهين، هو أن يجد الكثيرون منهم أن الأسلحة التي يحملونها قد أصابها التلف وطالها الصدأ، وأنها لم تعد صالحة للاستعمال. بل إن الكثيرين فضلوا الانسحاب من هذه الحصص التدريبية حينما اكتشفوا أنها تجري بدون جدية، خصوصا وقد تجمع فيها عدد كبير من رجال الأمن لم يتمكنوا من تجريب حظهم لأكثر من فرصة واحدة. رجال أمن ببطون منتفخة أمام الباب الرئيسي لمؤسسة عمومية، يقف رجل أمن بلباسه الأزرق الداكن، وعلى خصره حزام جلدي يحمل مسدسا. إنه هنا من أجل القيام بدوره في استتباب الأمن، وحماية هذه المؤسسة. لكن المثير، ونحن نتحدث عن رجل أمن يفترض فيه أن يقوم بدور الوقاية والردع والتدخل في الوقت المناسب، هو هذه الهيئة التي أصبح عليها عدد غير قليل من رجال الأمن. وليس من الغريب أن تكتشف بنظرة واحدة كيف أن الانسجام المفترض بين رجل الأمن وبين السلاح الذي يحمله، غير وارد. فالكثيرون يقفون اليوم ببطون منتفخة، مع ما يتركه الحزام الجلدي من صورة بئيسة عن هذا الذي يجب أن يقوم بالتدخل السريع في الوقت والمكان المناسبين. لذلك لم يعد المجرمون، خصوصا هؤلاء الذين دخلوا تجارب جديدة في عالم الإجرام، وأصبحوا يستعملون الأسلحة والقنابل المسيلة للدموع، يخشون رجال الأمن الذين لا توفر هيئاتهم الرعب المفترض. في أوروبا وأمريكا مثلا، يمكن أن تكون صورة وهيئة رجل أمن كافية لردع المجرم، الذي يتحرك عادة بالكثير من الحيطة والحذر. بل إنه غالبا ما يقوم بدارسة الوضعية قبل الإقدام على أية مغامرة. أما عندنا، فقد تكون هيئة رجل الأمن كافية، بل عاملا مساعدا على تشجيع المجرم للقيام بما خطط له. ويحكي أحد العارفين بهذا العالم كيف أن بنك المغرب في أي مدينة مغربية، مثلا، يضع أمام بابه رجل أمن يكون في الغالب متقدما في السن، ويكون تعيينه في هذا المكان بمثابة عقوبة وليس امتيازا. وتكشف الصورة عن وجه الأمن أمام مؤسسة بحجم بنك المغرب، حينما يجلس هذا الحارس على كرسي مهترئ، وهو يرتشف كأس شاي أو قهوة بعد أن نزع حذاءه، والسلاح بيديه. إنها صورة تشجع المجرم القادم، خصوصا من أوروبا، على القيام بما يفكر فيه، أكثر ما تثير فيه الخوف والفزع لكي يتراجع. ولا أحد يفهم اليوم لماذا لم تفكر إدارة الأمن الوطني مثلا في فرض حصص رياضية لكل رجالها من أجل أن يحافظوا على لياقتهم البدنية، ورشاقتهم التي تعتبر عنصرا أساسيا في الردع والوقاية من وقوع الجرائم. عملية مرحبا تفتح أبواب الجريمة ظل شباب الجيل الثالث من المهاجرين المغاربة يستثمر هذه العيوب الأمنية، التي ظلت المملكة تعيشها منذ سنوات. وبدل أن تركز شغلها على تهريب المخدرات، خصوصا بعد أن أحكم الطوق على هذه التجارة، توجهت إلى بعض البنوك، ومحلات بيع الذهب، وسيارات نقل الأموال، خصوصا أن توفير السلاح اليوم في المغرب عن طريق عامل مهاجر، لم يعد مستحيلا. بل إنه أسهل بكثير من الحصول على قطعة حشيش. لذلك يتساءل الكثيرون لماذا لم تفكر الدولة في حماية حدودها من تهريب السلاح إلا مؤخرا، حيث وضعت بضعة أجهزة "سكانير" عند كل النقط الحدودية، وهي الأجهزة التي كانت من قبل مخصصة لمراقبة الشاحنات والحافلات. ولا يتردد شاب من الجيل الثالث من عمالنا المهاجرين في وصف "عملية مرحبا"، التي أطلقتها الدولة بحسن نية لاستقبال جاليتنا المغربية في أحسن الظروف، بالفرصة الذهبية التي ساعدت الكثيرين على تكوين ثروة حقيقية في عمليات تهريب السلاح. فأمام التساهل الذي يحدث مع سيارات العمال المهاجرين القادمين من أوروبا وهم محملون بالعملة الصعبة، ظلت الأسلحة تهرب من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا على الخصوص، لتستعمل في المغرب في أكثر من عملية. ولأن العمل الإجرامي المحترف، كما هو عليه الحال في بلاد المهجر، يفترض ما يكفي من تجهيزات ولوجستيك، فقد تفنن شبابنا في نقل كل هذا عبر حدود شبه مفتوحة تشفع لها "عملية مرحبا" القيام بكل شيء. لذلك أضحى هؤلاء يحملون معهم دراجات نارية من الحجم الكبير، وعدد من القنابل المسيلة للدموع، وما يكفي من سيارات فارهة وسريعة لا تثير الانتباه. والحصيلة هي هذه الجرائم الجديدة التي أضحت تعيشها مدننا، والتي عاشتها عديد من المدن الأوروبية من قبل، والتي عرفت كيف تشدد الخناق على مجرميها الذين نقلوا تجاربهم إلى البلد الأصلي. ما يشبه الخلاصة بين "الكلاشينكوف"، الذي يوظفه اليوم الكثير من المجرمين في عمليات السطو، وبين سلاح "براودينغ" الذي يتحزم به رجل الأمن في شوارعنا اليوم، مسافة شاسعة. لذلك يصبح الحديث عن الأمن القومي للبلاد في مهب الريح. ولم يعد الأمر غريبا أو مجرد مزحة أن نردد مع الكثيرين أن البلاد تحميها القدرة الإلهية أكثر ما يحميها رجال بوشعيب أرميل اليوم أو الشرقي الضريس من قبل، أو رجال حسني بن سليمان، الذين يتميزون نسبيا عن رجال الأمن بلباسهم الخاص وأسلحتهم المتطورة، على اعتبار أنهم ينتمون لسلك القوات المسلحة. فهل تكفي هذه العمليات المتفرقة اليوم للضرب على أيدي المجرمين والقطع مع هذه الجريمة المنظمة، التي غزت البلاد قادمة إليها من أوروبا عن طريق شباب الجيل الثالث، أم أن الأمن في حاجة إلى استراتيجية شاملة تعتمد توفير أسلحة متطورة توازي، أو تفوق تلك التي يستعملها المجرمون لكي يكون التوازن حاضرا في أية عملية تدخل. كما يجب أن تعتمد إخضاع جل رجال الأمن لتداريب دورية في الرماية واستعمال السلاح، بدلا من الحالة الراهنة. أما ما عدا ذلك، فلن يكون غير مضيعة للوقت. وكم اكتوينا بنيران هذا الوضع الأمني المتدهور منذ حادث أطلس أسني الإرهابي، إلى جرائم السطو والنهب، التي وظف أبطالها السلاح، دون أن نستوعب الدرس.