لقد بات مألوفا أن تعلن جماعة ما، عقب استحقاق ما لحزب أو منظمة ما، عن عدم رضاها، بل غضبها وإدانتها لنتائج هذا الاستحقاق، سواء شاركت في أشغاله أم لم تشارك؟! وقد يبلغ الأمر حد الانسحاب من الهيئات المعنية والعمل على خلق كيانات بديلة؛ وهو سلوك صار يطبع مسار كل الهيئات والمنظمات، يمينييها ويسارييها، لا فرق! فأن ترضي النتائج كل المنضوين في هيئة ما، هو ضرب من الخيال والمثالية، وألا ترضي النتائج إياها جزءا منهم، كبيرا كان أو صغيرا، فهو عين العادة والطبيعة والواقع، خاصة وأن طبيعتنا كبشر تدفعنا إلى وضع تصورات وسيناريوهات، يكون المتحكم فيها، أولا وأخيرا، هو النظرة الذاتية إلى الأشياء حتى إن جاءت النتائج معاكسة لتصوراتنا، تثور ثائرتنا، ونرفض الاحتكام إلى قواعد اللعبة. فاللعبة، أيا كانت، تحتمل الفوز تماما كاحتمالها للخسارة؛ وتحتمل أيضا التعادل الذي قد يتحول إلى تمرين ديمقراطي يلقن الأغلبية كيفية تقبلها للأقلية واحترامها، كما يجعل من الأقلية عنصرا مساعدا على إنجاح قرارات الأغلبية. ولنا خير مثال على ذلك في بيان المشاركة في أول انتخابات عرفها المغرب، الذي صاغه الشهيد «عمر بنجلون» والذي كان من أشرس الرافضين للمشاركة في هذا الاستحقاق، حيث اعترف له الشهيد «المهدي بنبركة» -الذي كان من أكثر المتحمسين للمشاركة- بعدم قدرته على الإتيان ببيان في مستوى قوة الإقناع التي دبج بها الشهيد عمر بيانه/بيان الاتحاد. الدافع إلى الخوض في هذا الموضوع هو بعض ردود الأفعال التي أعقبت مؤتمر الاتحاد الاشتراكي الأخير، المنعقد في الفترة الممتدة ما بين 14 و16 دجنبر 2012 في بوزنيقة، وخاصة إفرازه الأخ «إدريس لشكر» كاتبا أول لحزب المهدي وعمر.. ولن نتحدث هنا عن التعاليق الصحفية التي تناولت الموضوع بكثير من السطحية دون الالتفات إلى ما حققه المؤتمر من نقلة نوعية من حيث «الإبداع التنظيمي» ومن حيث قوة المضمون الفكري للمقررات التي عرضتها اللجنة التحضيرية على المؤتمر، كما أننا لن نتحدث عن مواقف بعض المناضلين الذين لم ترقهم نتائج المؤتمر، فعبروا عن غضبهم بطرقهم الخاصة، حيث هناك من قرر اللجوء إلى استراحة المحارب والعمل بمقولة: «اللي تلف إشد لرض»، وهناك من اختار المواجهة إما إعلاميا وإما تنظيميا، إلخ؛ بل سنقصر الحديث، هنا، على تلك الفئة التي قررت الانسحاب لتأسيس جمعية سياسية، ومعها تلك التي أعلنت استقالتها من الحزب. إن الانسحاب من الحزب والعمل على تأسيس جمعية سياسية هو انشقاق سينضاف إلى الانشقاقات التي عرفها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ مطلع الثمانينيات، ولا يخدم إلا خصوم الحزب وخصوم الديمقراطية. وباستقالتهم هاته يكونون قد وضعوا أنفسهم خارج الحزب وانضموا بذلك، تلقائيا، إلى صفوف الذين لا يقبلون من الانخراط في «اللعبة الديمقراطية» إلا وجها واحدا، هو الانتصار. ونتمنى ألا تصدمهم الإطارات التي قرروا خلقها أو الانخراط فيها وألا تخيب آمالهم في الوصول إلى الديمقراطية الحقيقية التي يبدو أنها لا تعني بالنسبة إليهم إلا الانتصار على الآخر؛ وفي حال حصول العكس، فإن ذلك يبقى، في نظرهم، خارج الديمقراطية الحقيقية. إنه، بالفعل، مفهوم خاص للديمقراطية. ورغم أن الاتحاد الاشتراكي لا ينفرد بظاهرة الانشقاق، دون غيره من الأحزاب، فقد قررنا أن نقصر حديثنا عليه لكونه، من جهة، يشكل الهيئة التي خرج من رحمها عدد لا يستهان به من أحزاب ومنظمات؛ ولكونه الحزب المؤهل، رغم كل مشاكله ورغم ما يتعرض له من هجوم من كل الجهات، لقيادة سفينة اليسار في المغرب، من جهة أخرى. من الملاحظ أن كل إطارات اليسار التي خرجت من رحم الاتحاد الاشتراكي لا تحيد عن العبارة المسكوكة «غياب الديمقراطية الداخلية» كتبرير لهذا الخروج/الانشقاق، ثم الإعلان عن نفسها بديلا للحزب، وبعثا جديدا للحركة الاتحادية الأصيلة، كما تزعم. لكن تتبعنا للحياة الداخلية لبعض تلك الهيئات أكد لنا العكس تماما، فما يعرفه الحزب من ممارسة ديمقراطية هو أرقى بكثير مما هو سائد في بعض تلك التنظيمات المتفرعة عنه؛ وبالتالي، فغياب الديمقراطية ما هو إلا مشجب يعلق عليه المنسحبون ما يعتبرونه أخطاء الآخرين لإخفاء الأسباب الحقيقية الثاوية وراء كل عملية انشقاق، والتي نقول بدون مواربة: إنها النزوعات الذاتية والطموحات الشخصية في «الزعامة». وتجدر الإشارة إلى أن هذه «النزوعات الذاتية» (التي تتحول أحيانا إلى مرض «العظمة») هي نفسها المتحكمة في التنظيمات التي اعتبرت نفسها بديلة عن الاتحاد الاشتراكي؛ مما يعني أن العلة ليست في الهيئة السياسية التي يتم عنها الانشقاق، بل في الأشخاص الذين يقودون هذا الانشقاق. والشيء المؤكد، وبالملموس، هو أن لا أحد من تلك التنظيمات، التي أعطت نفسَها الحقَّ في أن تعتبر نفسها امتدادا للحركة الاتحادية الحقيقية (بمعنى أن من بقي في الاتحاد، فهو غير ذلك)، استطاع أن يحتل مكان الاتحاد المحفوظ في كل الواجهات، رغم ما أصابه من وهن، كضريبة غير مستحقة عن تدبيره للشأن العام لأكثر من عقد من الزمن. لذا، نعتقد أن التنظيمات التي خرجت من رحم الاتحاد لم تنجح إلا في شيء واحد، هو إضعاف الاتحاد؛ وبالتالي، فقد قدمت خدمة بالمجان، بوعي أو بدون وعي، إلى الجهات المعادية للاتحاد، بل وللتوجه الديمقراطي الحداثي على الإطلاق؛ ذلك أن كل إضعاف للاتحاد هو إضعاف للسياسة بكل ما تحمله من قيم الحداثة والديمقراطية (والواقع السياسي الحالي خير شاهد على ذلك). لذا، أعجب لأمر أولئك الذين يدعون إلى تأسيس جمعية سياسية من الغاضبين إثر نتائج المؤتمر التاسع؛ فهل هو قصر النظر أم «ثقة» زائدة في النفس أم غرور أم...؟ ألا تخاطبهم البلقنة التي يعاني منها «شعب» اليسار؟ ألا يخاطبهم الوضع السياسي الذي تعرفه البلاد؟ ألم يعطوا الدليل، بالدعوة إلى تأسيس جمعية سياسية، على أنهم لم يستوعبوا بعد درس الانشقاقات السابقة؟ يجب التذكير بأن الاتحاد الاشتراكي دخل، منذ مؤتمره الثامن، مرحلة الشرعية الديمقراطية، بعد أن كان محكوما بما يعرف بالشرعية التاريخية، حيث تنافس، لأول مرة، على منصب الكاتب الأول للحزب 6 مرشحين، اختار المؤتمرون، من بينهم، الأخ عبد الواحد الراضي لتقلد هذه المهمة. ويمكن اعتبار المؤتمر التاسع للحزب تكريسا لهذا الاختيار وتحسينا له، مهما كانت تقديراتنا ونظرتنا الخاصة إلى الأشياء، بل يجب الاعتراف بأن الاتحاديين حققوا، بالمقارنة مع المؤتمر الثامن، قفزة نوعية في مجال تكريس الشرعية الديمقراطية للتنظيمات الاتحادية، انطلاقا من مؤسسة الكاتب الأول إلى المكتب السياسي فاللجنة الإدارية، وصولا، مستقبلا، إلى التنظيمات الجهوية والإقليمية والمحلية والقطاعية، وذلك من خلال تحسين المساطر المعتمدة وتحديد مسؤوليات الهيئات المنتخبة لضمان تحقيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.