نشر الأستاذ محمد ضريف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني (المحميدية)، مقالا بجريدة «المساء» يوم الأربعاء 2 يناير 2013، بعنوان «حزب القوات الشعبية..المؤتمر الرابع وإزاحة الخط النضالي الديمقراطي». وبهذا العنوان، يضع الأستاذ ضريف، الأكاديمي، نفسه في صف الجهة (أو الجهات) التي تتهم الاتحاد الاشتراكي بالانحراف عن مشروعه الأصلي؛ وذلك بإزاحة «الخط النضالي الديمقراطي»، وتعويضه ب«الخط الانتخابي»؛ وهكذا كتب، في مستهل مقاله: «كرس المؤتمر الرابع للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المنعقد سنة 1984، «الخط الانتخابي»، تعبيرا عن انتهاء مرحلة اتسمت بإزاحة «الخط النضالي الديمقراطي»، حيث سجلت سنة 1981 انفجار التناقضات في اتجاهين: توتر علاقة الحزب بالسلطة، من جهة، وتباين وجهات النظر بين مكوناته، من جهة أخرى». نشير، في البداية، إلى أن الإشارة الوحيدة التي تمت إلى المؤتمر الوطني الرابع، هي الواردة في الفقرة أعلاه، بينما باقي المقال انصب على ما عرفته سنة 1981 من أحداث تميزت، من جهة، بالتوتر مع السلطة (والأصح مع الدولة)، ومن جهة أخرى، بالتباين في وجهات النظر بين مكونات الحزب. فرغم أن المؤتمر الرابع لحزب القوات الشعبية هو موضوع المقال، فإن الكاتب لم يتعرض لا إلى مقرراته ولا إلى بيانه الختامي (وهذا خلل منهجي واضح، حتى وإن كان الأمر يتعلق بمقال صحفي، وليس ببحث أكاديمي)، بل راح يبحث في سنة 1981 وما قبلها عما يبرر به، حسب ما يبدو، الحكم الذي أصدره عن الحزب من خلال العنوان الذي اختاره. فحسب ما يستفاد من تعبير الأستاذ ضريف، فإن «إزاحة الخط النضالي الديمقراطي» لم تتم في سنة 1984، بل في السنوات التي قبلها. فالمؤتمر الرابع لم يزد عن تكريس «الخط الانتخابي» الذي يعبر عن انتهاء مرحلة اتسمت بإزاحة «الخط النضالي الديمقراطي»؛ وهذه المرحلة تمتد، حسب ما يستفاد من المقال المذكور، من نهاية السبعينيات إلى مطلع الثمانينيات. وإذا علمنا بأن حزب القوات الشعبية - الذي أصبح، منذ المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975، يحمل اسم الاتحاد الاشتراكي (بدل الاتحاد الوطني) للقوات الشعبية - قد تبنى إستراتيجية النضال الديمقراطي في هذا المؤتمر، فإن هذا الاختيار، حسب مضمون مقال الأستاذ ضريف، لم «يصمد» طويلا أمام «الخط الانتخابي». فولاية تشريعية واحدة كانت كافية ل«إقبار» «الخط النضالي الديمقراطي» وتعويضه ب«الخط الانتخابي». ويتبادر إلى ذهني، هنا، سيل من الأسئلة البديهية والبسيطة: أو ليست الانتخابات واجهة من واجهات النضال الديمقراطي؟ أو ليست الانتخابات آلية من آليات الديمقراطية؟ وإذا لم تكن كذلك، فماذا تكون؟ وهل يمكن أن نتصور الديمقراطية بدون انتخابات، أي بدون استشارات شعبية؟ وماذا يعني النضال الديمقراطي، إن كان الحزب الذي يتبنى هذا الاختيار، لا يعمل على التواجد في كل الواجهات، بما فيها الواجهة التمثيلية؟ وماذا يعني النضال إن لم يكن يمارس بجانب الجماهير ولصالحها؟ ولماذا لا يجعل الحزب المعني من الانتخابات فرصة لتوضيح مشروعه المجتمعي وحشد التأييد له؟ إلى غير ذلك من الأسئلة... لقد خاض الاتحاد الاشتراكي الانتخابات الجماعية لسنة 1976 والتشريعية لسنة 1977 في ظل دستور 1972، الذي لم يشارك لا في صياغته ولا في المصادقة عليه؛ بل قاطعه بمعية حزب الاستقلال في إطار الكتلة الوطنية. وقد تعرضت تلك الانتخابات لعملية تزوير بشعة؛ لكن ذلك لم يفاجئ الاتحاد لقناعته ووعيه بأهمية الانتخابات في الصراع بين مصالح قوى المال والسلطة وبين الطبقات الشعبية؛ وكذا لقناعته بأن الديمقراطية لن تقدم للمغاربة في صحن من ذهب، بل لا بد من العمل على فرضها وتكريسها من خلال المشاركة (الممارسة) التي هي الوسيلة الوحيدة لتعلم الديمقراطية. ويجب أن نذكِّر بأن كل الاستشارات التي عرفها المغرب منذ سنة 1963 إلى سنة 1997، تم الطعن فيها سياسيا (ودستوريا أيضا) من قبل المعارضة، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي. لكن المعروف، تاريخيا، أن الأحزاب الوطنية والديمقراطية التي اختارت النضال من داخل المؤسسات، تعمد إلى الطعن بالتزوير في نتائج الانتخابات، لكن تشارك في المؤسسات المنبثقة عن تلك النتائج. وتحضرني هنا مقولة «عبد الرحيم بوعبيد»: «المقاعد لا تهمنا»؛ ذلك أن الانتخابات كان ينظر إليها على أنها فرصة للوصول إلى المواطنين والاتصال المباشر بهم وإبلاغهم صوت الاتحاد ورأيه في طريقة تدبير الشأن العام وتسيير أمور الدولة؛ وكان التواجد بالمؤسسات المزورة، على محدوديته، يسمح بفضح وتعرية بعض مظاهر الفساد، السياسي وغيره، خصوصا في الفترة المعروفة بسنوات الجمر والرصاص، التي كانت فيها حرية التعبير مقيدة إلى أقصى الحدود. لذلك، فإن القول بأن المؤتمر الرابع للحزب «كرس الخط الانتخابي» وأزاح «الخط النضالي الديمقراطي»، يفتقد إلى الموضوعية وإلى النظرة العلمية الرصينة. لقد ذكَّر الأستاذ ضريف بإدانة «المؤتمر الثالث للحزب، المنعقد سنة 1978، للمسلسل الانتخابي الذي عرفه المغرب في مستواه الجماعي في نونبر 1976 وفي مستواه التشريعي في يونيو 1977» (والأصح أن المؤتمر أدان التزوير الذي طال الاستحقاقين)، لكنه لم يشر إلى أقوى نقطة في بيانه الختامي، والتي كانت السبب في حجز جريدة الحزب، ألا وهي المطالبة بالملكية البرلمانية. وإذا وضعنا هذا المطلب في سياقه التاريخي، أدركنا كم كان يلزم من الجرأة ومن الشجاعة، وكذا من بعد النظر وعمق التحليل والوعي السياسي، لرفع مثل هذا المطلب!! ثم أليس تحقيق هذا المطلب هو ما تهدف إليه إستراتيجية النضال الديمقراطي؟ وهل لا بد من أن نذكِّر بأن هذا الاختيار كان تحولا أساسيا في خط الحزب الذي أصبح ينشد التغيير عن طريق الديمقراطية، ولا شيء غير الديمقراطية؟ وهل يمكن تحقيق الملكية البرلمانية بغير هذا؟ وهل تعني الديمقراطية شيئا آخر غير جعل الشعب مصدر كل السلط، وذلك عن طريق اختيار مسؤوليه، بواسطة الانتخاب طبعا، بناء على برامج وتصورات سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة، يمكن على أساسها محاسبتهم، إعمالا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؟... وأين نضع تجديد هذا المطلب في البيان الختامي للمؤتمر الوطني الثامن للحزب (سنة 2008)؟ هل نضعه في خانة «الخط الانتخابي» أم في خانة «الخط النضالي الديمقراطي»؟... وبما أن المناسبة شرط، كما يقال، فإنني أسائل الأستاذ ضريف عن دواعي الرجوع إلى المؤتمر الوطني الرابع، وفي ظروف انعقاد المؤتمر الوطني التاسع لحزب القوات الشعبية الذي لم ينه أشغاله بعد، وبالعنوان إياه؟! هل هي الصدفة، أم أنها رسالة غير مشفرة مفادها أن المؤتمر التاسع، مثله مثل المؤتمر الرابع، هو تكريس لوضعية ما وتزكية لها؟؟ وبما أنني لا أعرف إن كان للأستاذ ضريف انتماء أو تعاطف سياسي، فإني أكتفي بتنبيهه، باعتباره أكاديميا، إلى أنه انحاز، في تحليله لحادث الانسحاب من البرلمان سنة 1981، إلى أحد طرفي الصراع، حين ختم مقاله بالقول: «لقد كشف هذا الخلاف حول الانسحاب من البرلمان في أكتوبر 1981 عن وجود تيارين متصارعين : تيار «الخط الانتخابي» الذي يمثله المكتب السياسي، وتيار «الخط النضالي الديمقراطي» الذي تمثله اللجنة الإدارية الوطنية». فهل يجهل أستاذ العلوم السياسية أن المنسحبين من الاتحاد الاشتراكي سنة 1983، بعد أن لم يفلحوا في منع اللجنة الإدارية من اتخاذ قرار المشاركة في الانتخابات الجماعية ليونيو 1983، ظلوا، لمدة، يسمون أنفسهم، في كل البيانات والمنشورات ب«الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية- اللجنة الإدارية»؟ وهل يعلم بأن أعضاء اللجنة الإدارية المنسحبين كانوا قلة قليلة جدا، ورغم ذلك حاولوا الاستحواذ على الحزب بالسطو على اسمه وعلى اسم جهازه التقريري، أملا في أن تتبعهم الأقاليم والفروع والقطاعات؟ وهل يعلم بأن القيام بهذا العمل يتنافي والديمقراطية التي تعني انضباط الأقلية لقرارات الأغلبية؟؟؟ فحين يضع ضريف المكتب السياسي في مقابل اللجنة الإدارية، فهو إما يجهل حقيقة ما وقع، ويجهل خلفيات الصراع وحيثياته (وهذا غير مقبول من متخصص في العلوم السياسية ويخوض، هنا، في قضية خلافية)، وإما هو طرف في هذا الصراع؛ وفي هذه الحالة، فهو لم يزد على تكرير أحكام مسبقة، ما فتئ أصحابها يرددونها للتغطية على فشلهم في تحقيق البديل الذي توهموه. ومن مكر الصدف (أو محضها) أن ينشر- في اليوم الموالي (أي 3 يناير 2013) لتاريخ نشر مقال الأستاذ محمد ضريف، وفي نفس الجريدة، زميل له في المهنة وفاعل سياسي (يحظى بتقدير خاص في العائلة السياسية التي «أنجبته») مقالا بعنوان «إعادة البناء»، خلاصته أن المؤتمر التاسع لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد فشل في إحداث التغيير المنشود، وبالتالي، أضاع على اليسار فرصة إعادة بنائه من داخل الاتحاد الاشتراكي. ومن خلال قراءة المقال لصاحبه محمد الساسي، نستخلص أن هذا الأخير مثله مثل باقي حلفائه في اليسار، بقي سجينا للمواقف «التقليدية» من الاتحاد الاشتراكي؛ تلك المواقف التي تجعل من حزب القوات الشعبية المشجب الذي يعلق عليه كل اليساريين أسباب فشلهم. فأقل ما يقال عن المقال الذي نحن بصدده، أنه يجتر كثيرا من الأحكام الجاهزة ويغرق في ممارسة نوع من الأستاذية المتعالية ويبني تحاليله على أماني وتصورات متضاربة ومتناقضة، ويحمل الغير كل الأخطاء والخطايا، في حين يتحاشى شيئا اسمه النقد الذاتي... سواء في مستواه الفردي أو في مستواه الجماعي. لندخل في بعض تفاصيل المقال الذي يستهله الأخ الساسي كالتالي : «اليسار «التقليدي» المغربي، اليوم، مريض ومعتل ومسلول وواهن. مرض اليسار له وجهان: فقدان القوة، وفقدان المصداقية«. ولا يحتاج المرء إلى ذكاء لفهم المقصود من عبارة «اليسار التقليدي»، التي تعني، أساسا، الاتحاد الاشتراكي؛ وهي تعوض «مصطلح» «اليسار الحكومي» الذي كان يطلق على الاتحاد (وعلى حزب التقدم والاشتراكية أيضا)، حينما كان يساهم في تدبير الشأن العام. ويقابل مصطلح «اليسار التقليدي» «اليسار غير التقليدي»؛ وهذا الأخير ليس، في تقدير الساسي، لا مريضا، ولا معتلا، ولا فاقدا للمصداقية، ولا، ولا، ولا... مشكلته الوحيدة أنه فشل في خلق البديل. لكن حتى في هذه، ف«اليسار التقليدي» هو الذي يتحمل المسؤولية. «فقد انعكست عليه آثار خطايا «اليسار التقليدي» وفشل تجربة التناوب، حتى وإن لم يشارك فيها؛ ومع ذلك، فهو لم يبدد رأسماله الرمزي». فإذن، لا خوف عليه، ما دام لم يبدد هذا الرأسمال؛ أما «اليسار التقليدي»، الذي تكال له كل التهم، وخاصة الثقيلة منها، فقد فقد كل شيء في نظر منظري «اليسار غير التقليدي» وقادته، أمثال الساسي و بنعمرو وغيرهما. ولوضع الحواجز أمام دعوات توحيد تنظيمات اليسار، يجتهد الأخ الساسي في التدليل على عدم جدواها، فيقول: «ليس الحل في مباشرة نوع من التجميع العددي والتكتل البشري ومواجهة ظاهرة البلقنة فقط. لن يصبح اليسار المغربي يسارا حقيقيا ولن يسترجع بعضا من أمجاده وإشعاعه بمجرد لم الصفوف واستيعاب أكثر مكوناته وهيئاته ورموزه في بنية تنظيمية واحدة. لن يكون ذلك كافيا لكي تستعيد الجماهير ثقتها في اليسار، ولكي ترتبط به من جديد وتمنحه أصواتها وتحمله مسؤولية تمثيلها». شخصيا، لا أدري في أي خانة سيضع الأستاذ ضريف هذه الجملة الأخيرة من كلام الساسي : هل في خانة «الخط الانتخابي» أم في خانة «الخط النضالي الديمقراطي»؟ لكن محمد الساسي لن يجد غضاغة في أن يناقض كلامه، حين يركب صهوة الإملاءات، بقوله، في إحدى فقرات مقاله: «أن يفتح (يقصد الاتحاد) ذراعيه للمكونات اليسارية الأخرى باعتباره نواة تشكيل الحزب الاشتراكي الكبير»، وذلك، بالطبع، بشروط، أي: «على قاعدة تصحيح المسار، ونقد ممارسة المراحل السابقة، واستعداد القيادات المسؤولة عن تلك الممارسة لإفساح المجال أمام قيادات جديدة تتولى رعاية مسلسل الانطلاقة اليسارية الجديدة». لا نشك، أبدا، في نوايا الأخ الساسي، ونحن نشاطره الرأي. لكن ما سبق وأن قاله في حق «اليسار التقليدي» و«اليسار غير التقليدي»، يجعلنا لا نفهم من «نقد ممارسة المراحل السابقة» غير تحميل أغلظ المسؤوليات وأثقلها إلى الاتحاد الاشتراكي، باعتباره ممثلا «لليسار التقليدي»؛ أما بالنسبة «لليسار غير التقليدي»، فسيتم الدفاع عن طهرانيته وأحقيته في أن تفسح له المجال «القيادات المسؤولة عن تلك الممارسة» حتى يتولى«رعاية الانطلاقة اليسارية الجديدة»، خصوصا بعد أن خيب المؤتمر التاسع للاتحاد آمال «اليسار غير التقليدي» في حصول التغيير الذي كان ينتظره منه؛ وهو «أن يتحول الاتحاد رمزيا إلى «حزب حركة 20 فبراير»، أي أن ينزل إلى الشارع من أجل إنجاز الانتقال الديمقراطي ومحاربة الفساد». غريب أمر هذا «اليسار غير التقليدي» الذي يتكون في غالبيته من الأحزاب التي خرجت من رحم الاتحاد الاشتراكي؛ فكل تلك الأحزاب بادرت إلى الإعلان عن نفسها بديلا للاتحاد وممثلة للحركة الاتحادية الأصيلة وحامية ل«لخط النضالي الديمقراطي». وتصنف مكونات «اليسار غير التقليدي» الاتحاد الاشتراكي في خانة «اليسار التقليدي»، أي الإصلاحي، وتحمله، تبعا لذلك، كل الأوزار وتجعل منه سبب كل المآسي التي يعرفها «شعب» اليسار. لكن هذا لم يمنعها من أن تنتظر من هذا الحزب - والعهدة على نائب الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد - أن يقوم بالثورة لبناء اليسار، تلك الثورة التي حدد الرفيق محمد الساسي مقوماتها في سبع نقاط (لا يتسع المجال هنا لسردها)، وبأسلوب مارس من خلاله الوصاية في أجلى صورها، وصلت حد الإملاءات، من قبيل: أن يتبنى الحزب...؛ أن ينطلق من...؛ أن يربط الحزب مشاركته...؛ أن يعتمد على...؛ أن يعطي المعنى الاشتراكي...؛ أن يترجم، في اختياره التنظيمي...؛ الخ، قبل أن يستدرك، «بعدما خوا المزيودة»، قائلا: «طبعا، ليس من حق أحد أن يمارس الوصاية على مؤتمري الحزب». غير أن هذا لم يمنعه من أن يقول لهم بطريقته الخاصة بأنهم لم يوفقوا في اختيار كاتبهم الأول (ولا أعتقد أنه كان سيقول غير ذلك، لو كان قد فاز مرشح آخر)، وذلك بتعداد ما زعم أنها معيقات ذاتية أمام إدريس لشكر، تمنعه من تجميع الطاقات اليسارية. وكنا سنجد لهذا الحكم عذرا، لو كان صادرا عن شخص آخر غير الساسي، القيادي الحالي في حزب الاشتراكي الموحد والقيادي السابق في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ لكن لا عذر لهذا الذي تربى في أحضان الاتحاد الاشتراكي ويعرف جيدا بأن الاتحاد ليس مؤسسة واحدة (مؤسسة الكاتب الأول)، بل مؤسسات؛ ولكل واحدة منها اختصاصاتها. فالجهاز التقريري، في الحزب - والذي من صلاحياته مراقبة الكاتب الأول والمكتب السياسي، بل وإقالتهما حسب المقرر التنظيمي الذي صادق عليه المؤتمر- لم ينتخب بعد؛ لكن ذلك لا يبدو أنه يدخل ضمن اهتمامات الساسي . فما يهمه هو أن الشوط الأول من المؤتمر لم ينجز التغيير المطلوب، وبالتالي، جعل حظوظ حل «مشكلة اليسار المغربي» من داخل الاتحاد الاشتراكي «تتضاءل بشكل ملموس». كيفما كان الحال، فمؤتمرات ومؤتمري الاتحاد اختاروا كاتبهم الأول، ولم يختاروا قائدا لليسار. فهذه مهمة اليساريين كلهم؛ والاتحاد كان ولا يزال مستعدا لقيادة سفينة اليسار؛ وسيبارك، لا شك، كل خطوة وكل عمل يصب في اتجاه تقوية تنظيماته. لكن ما العمل أمام النزوعات الذاتية والطموحات الشخصية في «الزعامة»؟ أليست هذه هي العقبة الكأداء أمام وحدة اليسار وإعادة بنائه؟ وهل الساسي لا يعرف هذه الحقيقة حتى يذهب، في ختام مقاله، إلى القول باستحالة «إعادة بناء اليسار المغربي من داخل الاتحاد الاشتراكي. ومعنى ذلك أن هذه المهمة يتعين، ربما، في هذه الحالة، أن تنجز من خارج الاتحاد»؟ والسبب؟ هو أن الاتحاديات والاتحاديين مارسوا قناعاتهم واختاروا، ديمقراطيا وبكل حرية، قائدهم لهذه المرحلة. نذكِّر، في هذا الصدد، مرة أخرى، بأن مهمة بناء اليسار من خارج الاتحاد، قد عجزت عن القيام بها التنظيمات اليسارية «غير التقليدية»، بشكل منفرد ومجتمعة، لكنها لا تملك الشجاعة الكافية للاعتراف بذلك. لقد سبق أن قلنا بأن كل تنظيم خرج من رحم الاتحاد إلا وأعلن نفسه بديلا عنه واعتبر نفسه الوريث الشرعي والوحيد للحركة الاتحادية الأصيلة. لكن الواقع كذب ويكذب ذلك. وحتى عندما اجتمعت هذه التنظيمات فيما سمي ب«تحالف اليسار»، فلم تنجز البديل المنتظر ولم تحقق أي نجاح يذكر، سواء في الانتخابات التي خاضتها مجتمعة كتحالف أو في تدبير الطموحات الشخصية بين قيادييها (مسألة الترشيح المشترك، مثلا). لذا، أقول للأخ الساسي : لقد عجزتم عن تحقيق هذه المهمة من خارج الاتحاد، في ظروف كانت في غير صالحه وكانت مواتية «لليسار غير التقليدي». فلم المكابرة؟ ولم الإصرار في الدفاع عن مشروع فاشل؟ وهل هذا الإصرار الذي يختتم المقال الذي نحن بصدد قراءته، حقيقي، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد جملة إنشائية، تدخل في باب «حسن التخلص»؟ صحيح أن الأستاذ الساسي يعترف ب«الدور المركزي الذي لعبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في تاريخ اليسار المغربي»؛ وصحيح أيضا أن الحنين إلى الماضي قد تملكه، كما تملك غيره، في مشهد افتتاح المؤتمر التاسع الذي حضرته أغلب الرموز التي ارتبطت بالتجربة الاتحادية، كما قال؛ لكن، كل ذلك لم يكن كافيا، فيما يبدو، لجعل الساسي يدخل مرحلة البوح بالكوابح الحقيقية أمام إعادة بناء اليسار؛ والبداية، يجب أن تكون من الذات، وهذا هو الأصعب. فالساسي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها على «لشكر»، لكنه لم ينبس ببنت شفة، يمكن أن يشتم منها بأن الرجل يقدم نقدا ذاتيا، يعترف، من خلاله، بنصيبه من الخطأ. فلمخطئ، هو الآخر دائما. والآخر، هنا، ليس سوى الاتحاد الاشتراكي وقادته. فهل بمثل هذه العقلية سنعيد بناء اليسار؟ إن هذه المهمة تتطلب التحلي بكثير من التواضع وتستلزم غير قليل من التجرد والموضوعية للتخلص من راسب الماضي ومن «إملاءات» الأنا؛ وتتطلب أيضا اعتماد النقد والنقد الذاتي كمبدأ عام يسري على الأفراد والجماعات في تقييم الممارسات وتحديد المسؤوليات؛ كما أنها تتطلب وضع المصلحة العامة، بمفهومها الواسع، فوق كل اعتبار... لن يختلف اثنان في كون اليسار متشرذم ومتأزم؛ وفي وضعه الحالي، لن يستطيع أن ينافس القوى المحافظة التي قطفت ثمار ما سمي ب«الربيع العربي»، دون أن تساهم في حراكه. كما لن نختلف في أن السياسة ببلادنا تعيش نكوصا يهدد المكتسبات الديمقراطية التي تحققت بفضل النضالات الشعبية بقيادة القوى التقدمية وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي. وما هو مؤكد هو أن تشرذم اليسار يقدم خدمة مجانية لأعداء الديمقراطية بمفهومها السياسي والاقتصادي والثقافي؛ ذلك أن تشرذمه، يساهم في تأخير بناء الحزب الاشتراكي الكبير القادر عن الدفاع على مطلب الملكية البرلمانية التي بدونها لن يتحقق لا فصل حقيقي للسلط، ولا تداول ديمقراطي على السلطة، وبالتالي لن تتحقق الديمقراطية المنشودة. خلاصة القول، إذا كانت الديمقراطية تعني مشاركة المواطنين في شؤون الحكم بواسطة ممثليهم، وإذا كان التداول الديمقراطي على السلطة يعني الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، في انتخابات حرة ونزيهة، فإن الفصل بين «الخط النضالي الديمقراطي» و«الخط الانتخابي» يصبح غير ذي معنى، ما دام الهدف هو تحقيق سيادة الشعب.