في سنة 1958، كان هناك شاب اسمه محمد عصفور، في الثانية والثلاثين من العمر، اشترى كاميرا تصوير سينمائي من ماله الخاص، وصور بها فيلما يبدو اليوم مضحكا، لكنه كان مبهرا في ذلك الوقت. كثيرون يصفون اليوم ذلك الفيلم بالسذاجة، مع أنهم يعرفون أن نصف المغاربة وقتها رأوا محمد الخامس في القمر. لماذا إذن لا يتحدثون عن سذاجة رؤية السلطان في القمر وينعتون فيلما سينمائيا بالسذاجة؟ وخلال افتتاح المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، بدأ بعض المخرجين الأشاوس، من الذين يلعبون بأموال الدعم ويبذرونها تبذيرا، يقهقهون في سينما روكسي ويكادون يموتون ضحكا وهم يشاهدون كيف أن محمد عصفور كان يحاول أن يخرج فيلما بإمكانيات بسيطة جدا، حتى إنه عندما أراد أن ينقل منظر الرياح والبرد، صور شجرة ثابتة وبدأ يصفر بفمه دلالة على وجود رياح. عصفور كان بائعا متجولا وأحب السينما فاشترى كاميرا من جيبه وهو في السابعة عشرة من عمره وقدم أول فيلم سينمائي سماه «الابن العاق»، وأنتج أفلاما أخرى كان يعرضها في ورشة الميكانيك التي كان يشتغل بها في الدارالبيضاء. وبينما كان عشاق السينما قبل 50 عاما يصرفون على أفلامهم من جيوبهم، فإن كثيرا من مخرجي هذا الزمن تحولوا إلى أغنياء بفضل أموال الدعم التي يغرقهم بها المركز السينمائي، الذي تلاحقه اليوم تهم تبذير المال وارتكاب خروقات في صرف أموال الشعب. اليوم، وبعد 50 عاما على إنتاج أول فيلم مغربي، توجد طبقة من الأغنياء الجدد الذين يمكن تسميتهم بأغنياء السينما، على وزن أغنياء الحرب، والذين تحولوا إلى أثرياء لأنهم عرفوا كيف يحلبون السينما كما يحلبون بقرة، ولو تم إنشاء هيئة خاصة في المغرب لتتبع مسار الملايير من أموال دعم الأفلام السينمائية لامتلأت السجون بغير قليل من الذين يطلقون على أنفسهم مخرجين ومنتجين وكتاب سيناريو. بعد مرور 50 سنة على فيلم عصفور ظهرت أفلام مثل «انهض يا مغرب»، وهو فيلم لا يصيب بالضحك فقط، بل يصيب بالهذيان لأنه مرعب في تفاهته. وبعده ظهر شيء يمكن أن نطلق عليه مجازا اسم فيلم سينمائي اسمه «ماروك»، وهو فيلم يمكن لمن شاهده مرة واحدة أن تظل رغبة التقيؤ تلازمه لسنوات. وظهرت أفلام كثيرة أخرى يتساءل المشاهد العادي حين يشاهدها هل تستحق أن يصرف عليها درهم واحد لإنتاجها، ومع ذلك نالت نصيبها من كعكة المال السايب، وعوض أن تزدهر السينما المغربية، ازدهرت الحسابات الخاصة لمخرجين ومنتجين. وسط كل هذا يتحدث المسؤولون المغاربة، وبينهم مسؤولو المركز السينمائي، عن كون المغرب صار رائدا في إنتاج الأفلام السينمائية، وهم يحسبون الإنجازات بالخُشيبات طبعا، ويعتبرون أن التقدم السينمائي يتحدد في كمية الأفلام لا في جودتها، ونسوا الحكمة المغربية التي تقول إن حفنة من النحل أفضل من شواري ديال الدبّان. اليوم، بعد 50 سنة من فيلم عصفور، لا توجد سينما مغربية حقيقية إلا استثناءات قليلة لمخرجين يعدون على أصابع اليد. لا توجد اليوم سينما وطنية حقيقية مثل السينما المصرية على الأقل بأفلامها التاريخية وقضاياها الجريئة. ومن المؤسف أن مخرجين مغاربة فهموا أن الجرأة هي تقديم ممثلات عاريات أو ألفاظ سوقية عفنة أو تمجيد المخدرات والتبوقيل، وبعض هؤلاء جبناء لا يستطيعون الاقتراب من المواضيع الجريئة الحقيقية لأنهم لا يتحملون الابتعاد عن بزّولة الدعم المالي لأفلامهم. الآن بعد 40 أو 50 سنة من أولى الأفلام المغربية، يمكن أن نقارن بين فيلم «وشمة» مثلا وبين «ماروك»، أو بين فيلم «ابن السبيل» وفيلم «انهض يا مغرب»، أو بين «حلاق درب الفقراء» و«ما تريده لولا»... لكي نكتشف أن جل هذه المهرجانات السينمائية والأضواء وعدسات المصورين هي مجرد ماء وزغاريد.