يرفض كتاب «الربيع العربي، تحكم؟» للكاتب نوفل إبراهيمي الانسياق وراء القراءات الكلاسيكية للأحداث التي عرفتها المنطقة العربية في السنتين الأخيرتين. إذ يقر الكتاب بوجود عوامل سهلت اندلاع شرارة الربيع العربي، غير أنه ينبه إلى وجود قوى أخرى عملت على التحكم في الأحداث وتوجيه مسارها وفق ما يخدم مصالحها. ويجزم أيضا بعدم صواب مقارنة الربيع العربي بالتحولات التاريخية التي شهدتها دول مثل إسبانيا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. هل كان الربيع العربي متحكما فيه حقيقة؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال بالقطع، سواء بنفي التحكم أو تأكيد وجوده على أرض الواقع. غير أن عددا من الباحثين المتخصصين في شؤون العالم العربي عملوا على إثارة الانتباه إلى إمكانية التحكم في الربيع العربي من قبل قوى لها مصلحة في ذلك، محذرين في الآن ذاته من تداعيات هذا التحكم، إن وجد، على التحولات التي تعرفها المنطقة العربية منذ أزيد من سنتين. «الربيع العربي، تحكم؟» لنوفل إبراهيمي الميلي كتاب يندرج في قائمة المؤلفات التي نبهت إلى خطر التحكم في الربيع على نتائجه على أرض الواقع. فكل تحكم في الحراك ينعكس بالضرورة سلبا على الوضع الناجم عنه، ولا ريب، وفق الكتاب نفسه. ذلك أن الوضع الجديد سيصب في مصلحة القوى المتحكمة. فرضية التحكم ليس نوفل إبراهيمي الميلي أول خبير في شؤون المنطقة العربية يثير فرضية التحكم في الربيع العربي من قبل قوى معينة. فقد سبقه إلى ذلك كثر. غير أنه يعتبر أحدث المؤلفات المتحدثة عن هذا الموضوع، فقد صدر في أكتوبر الماضي، وهو ما يمنحه حيزا زمنيا قوامه سنتان كاملتان للتحري بشأن حقيقة الفرضيات المتحدثة عن التحكم في الربيع العربي. تجدر الإشارة إلى أن أغلبية الباحثين، الذين واكبوا الربيع العربي من شرارته الأولى بتونس، إلى سوريا، مرورا باتقاد شعلته بمصر، والحراك الذي عرفته اليمن، لم يعيروا فرضية التحكم اهتماما كثيرا مقارنة بالعناية التي أولوها لجذور الحراك والعوامل التي أفرزت الربيع العربي والسيناريوهات المحتملة لتطور الأحداث. وعلى هذا الأساس، ظلت «القوى الممانعة» للربيع العربي الوحيدة تقريبا، التي تتحدث عن تحكم في الحراك، وعادة ما توجه أصابع الاتهام في ذلك إلى قوى تنعتها ب»الخارجية». عمليا، يغطي هذا الكتاب قرابة سنتين من الحراك في بؤر مختلفة من العالم العربي. لكنه يتبنى موقفا يكاد يكون صادما من وجهة نظر «ثورية»، لكنه مقبول بالمعايير الأكاديمية القائمة على البحث الميداني وتحليل المعطيات المتوفرة. إذ يؤكد الكتاب على أن موجة الأحداث التي عرفتها عدة دول عربية في السنتين الأخيرتين لم تكن بالضرورة عفوية ولا نتيجة حركات اجتماعية استطاعت مواجهة القمع والتمرد على الرقابة وإطلاق شرارة الثورة. صراع على الريادة يتناول الكتاب بالدراسة والتحليل خصوصيات الحراك في كل دولة على حدة. يقف عند العناصر المشتركة ويركز على نقط الاختلاف من أجل استقراء طبيعة وهوية القوى المحتمل تمكنها من الإمساك بزمام الأمور في الحراك، وبالتالي تحكمها في توجيه مسار الربيع العربي. يذكر نوفل إبراهيمي الميلي أول الأمر دولتين عربيتين يعتقد أن لهما اليد الطولى في توجيه الربيع العربي. إنهما قطر والسعودية، رغم ما أسماه تفاوت مصالح الدولتين الخليجيتين باختلاف الدول التي تشهد حراكا، وأيضا تلك التي ظلت الأوضاع فيها على حالها ولم تطلها رياح الربيع العربي، مثل الجزائر على سبيل المثال. هناك أيضا قوتان أخريان يجزم الكاتب بأنهما أسهمتا أو على الأقل عملتا على ضمان موطئ قدم لهما في توجيه مسار الأحداث التي عرفها العالم العربي منذ اندلاع شرارة الربيع العربي أواخر عام 2010 بقرية سيدي بوزيدالتونسية. ويتعلق الأمر هذه المرة بقوتين تقعان خارج المنطقة العربية، لكنهما صارتا حاضرتين في الشأن السياسي العربي بقوة، هما تركيا وإيران. كما يثير الكتاب نفسه دورا خفيا للولايات المتحدةالأمريكية في مساعي التحكم في الربيع العربي. غير أن الكتاب لا يوجه اتهامات مباشرة إلى الدول الأربع سالفة الذكر بالتحكم الفعلي في الربيع العربي أو السعي إلى ذلك، وإنما اكتفى بتكرار التساؤل عن وجود هذا التحكم دون الانبراء للإجابة عنه. يجزم نوفل إبراهيمي الميلي بأن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها شجعت المتظاهرين على الذهاب إلى أبعد الحدود في مظاهراتهم. وكان لتفاعلها مع تصاعد سقف مطالب المحتجين في أكثر من دولة تأثير ضمني في إعلاء سقف تلك المطالب. أكثر من ذلك، يؤكد الكاتب أن الاحتجاجات الشعبية التي عرفها العالم العربي في السنتين الأخيرتين حظيتا بتشيجع من قبل الحكومة الأمريكية، ودولة قطر، المدعومة بذراعها الإعلامي قوي التأثير في المنطقة: قناة «الجزيرة». وحسب الميلي، فقد أسهم دخول زعامات دينية وقياديين مدنيين وسياسيين على خط الحراك في تشجيع المواطنين العاديين على التظاهر والاحتجاج اعتقادا منهم بأن العالم العربي، أو على الأقل الدول التي شهدت الربيع العربي، يشهد ميلاد نظام جديد. غير أن انضمام هذه الأطراف التي يسميها الكاتب «أيقونات دينية واجتماعية» إلى الربيع العربي لم يجنب المتظاهرين قمع السلطات الأمنية، ولم يؤمن بعض الدول بعد (ليبيا نموذجا) من مخاوف نشوب حرب أهلية أو السقوط في سيطرة جماعات مسلحة أو إرهابية. وفوق ذلك، لم يمكن الربيع العربي مواطني الدول التي مالت فيها الأوضاع إلى الهدوء من تذوق طعم الانتخابات النزيهة ولم يقطع عهدا مع تزوير الاستحقاقات الانتخابية، وفق الميلي. الأبطال الحقيقيون يتحدث نوفل إبراهيمي الميلي كذلك عما يسميه في كتابه «غضبا مزدوجا» من القراءات الأولى الرومانسية للأحداث التي عرفتها المنطقة العربية في السنتين الأخيرتين، والتي تم تجميعها كلها تحت مسمى «الربيع العربي»، ويهم الغضب أيضا، حسب الميلي، تواطؤ الغرب في وقت سابق مع الأنظمة الديكتاتورية، التي حكمت عددا من الدول العربية بقبضة من حديد. ويبرز هذا الأمر بجلاء في بلاد الكنانة التي تغير فيها موقف الغرب من جماعة الإخوان المسلمين 180 درجة بعد انهيار نظام الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، بصرف النظر عن وصول الإسلاميين في هذا البلد إلى سدة الحكم عبر آلية الانتخابات، الأولى في مصر بعد الإطاحة بنظام مبارك. ذلك أن الميلي لا يرى تفسيرا لهذا التغير في الموقف الغربي من إخوان مصر، وإن بلغوا السلطة بشرعية صناديق الاقتراع، على اعتبار أنهم لا يزالون يجعلون من الشريعة الإسلامية محور سياستهم المجتمعية، وعليها يقوم مشروعهم المجتمعي برمته، وهو ما ينطبق أيضا على إسلاميي تونس وليبيا وسوريا. ويذهب نوفل إبراهيمي الميلي أيضا إلى أن الربيع العربي يمكن أن يصير له معنى مناقض تماما للمتعارف عليه، خصوصا حين تدخل دول عربية عدة فصل شتاء سمته الأساسية الجمع بين المتناقضات، حيث تتعايش القطيعة مع الماضي، على نحو غريب، مع المحافظة على معالم الأنظمة البائدة عبر تمكين أشخاص معينين من اعتلاء مناصب هامة في هرم السلطة ومواقع مركزية في سلم المسؤولية. ويرى الكاتب ذاته كذلك أن الثورات العربية نتيجة متوقعة سلفا لاحترام أجندة تهدف إلى إعادة إنعاش السياسة في الدول العربية. وفي هذا الإطار، يؤكد الميلي بأن قناة «الجزيرة» القطرية التي أفردت تغطيات هامة للثورات العربية الأخيرة أسهمت في إبراز وجوه جديدة ينسب إليها الفضل في قيام الثورات في بلدانها، بل إن من الوجوه الجديدة من نسب إليها فضل إطلاق شرارة الربيع العربي برمته، وأبرزها على الإطلاق الشاب التونسي محمد البوعزيزي. غير أن الأبطال الحقيقيين ل«مسلسل الربيع العربي»، حسب نوفل إبراهيمي الميلي، التزموا مواقع بعيدة عن الأحداث، وظلوا يمسكون بزمام الأمور ويتحكمون في مسار الأحداث، بشكل أو بآخر، دون أن يظهر لهم أثر على أرض الواقع. وحدد الميلي هوية هؤلاء الأبطال «الحقيقيين» في الأمريكيين، الذين رأوا في الأحداث التي عرفها العالم العربي في السنتين الأخيرتين فرصة مواتية لإحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي صاغه المحافظون الجدد لإعادة رسم خريطة صناعة القرار السياسي بالمنطقة العربية، إضافة إلى القطريين والسعوديين، رغم اختلاف أهدافهم وتباين الغايات التي يأملون في تحقيقها بفضل الربيع العربي. القطيعة المفتقدة يجزم الكاتب أن العالم العربي لم يستطع إحداث قطيعة مع الأوضاع التي سادت المنطقة قبل اندلاع الربيع العربي. كما يرفض مقارنة المسار الذي أخذته الأحداث في تونس ومصر على وجه التحديد مع تجارب سابقة في انتقال السلطة من قبضة الديكتاتوريين إلى الشرعية الديمقراطية القائمة بالأساس على شرعية صناديق الاقتراع. وفي هذا السياق، أكد الميلي عدم جواز مقارنة التغيرات التي طرأت على النظامين السياسيين في تونس وبعد ذلك في مصر بما حدث في إسبانيا على سبيل المثال عام 1975. ذلك أن إسبانيا عرفت كيف تحدث القطيعة المطلوبة مع زمن الدكتاتور فرانكو مباشرة بعد وفاته في 20 نونبر 1975، حيث انتقلت السلطة بسلاسة إلى الديمقراطيين بعد عقود طويلة مما أسماه الميلي نفسه «سنوات الرصاص». يعتبر الميلي أي مقارنة بين ما حدث في إسبانيا في سبعينيات القرن الماضي وما عرفته المنطقة العربية في السنتين الأخيرتين «غير قويمة». ويبني استنتاجه على تراجع الأمل في إحداث التغيير المنشود في الوقت المطلوب في أكثر من دولة عربية، خصوصا في مصر واليمن، وسوريا أيضا في الطريق. كما أن الرهان على إنجاز التحولات المطلوبة في أقل وقت ممكن بات يفقد بريقه. ويبدو أن زمن الأحداث سيطول ومعها سيتأخر موعد تحقيق التحولات المطلوبة للانتقال إلى زمن الديمقرااطية. الربيع الذابل خصص الكتاب فصلا كاملا، وهو الفصل الثامن، للحديث عن الدول العربية، التي لم تطلها رياح الربيع العربي، أو بتعبير آخر، الدول التي وقفت في وجه الربيع. كما تساءل عن الأسباب التي مكنت دولة مثل الجزائر من الصمود في وجه الربيع العربي، رغم تشابه وضعها مع الدول التي غيرت أنظمتها أو أقرت إصلاحات سياسية للتجاوب مع خصوصيات الظرفية الجديدة. ويفسر الكاتب عدم دخول الجزائر على خط الربيع العربي إلى سيادة ترقب شديد في البلاد منذ سنوات عدة لعهد ما بعد حكم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة. وعلاوة على ذلك، يبرز كيف عمد الماسكون بزمام السلطة في الجزائر إلى تحريك «ملفات إصلاح» تجاوبا مع ما يقع في دول الربيع للحيلولة دون انتقال عدوى الاحتجاجات وشعارات «إسقاط النظام» إلى شوارع وساحات الجزائر العاصمة. ويتذكر من بين هذه الإصلاحات مراجعة الدستور وإعادة النظر في قانون الأحزاب وقانون الانتخابات. وعلى ضوء هذه القوانين، نظمت في العام الماضي انتخابات، هي الأولى في البلاد منذ بداية الربيع العربي، وحقق فيها الحزب الحاكم فوزا شكل الاستثناء في الاستحقاقات العربية الأخيرة التي آلت جميعها، بنسب متفاوتة من بلد الآخر، إلى التيارات الإسلامية. وإضافة إلى الحالة الجزائرية، يثير الكتاب أسباب توقف زحف الربيع العربي في عدد من الدول، ذكر منها البحرين والأردن، فضلا عن المغرب، عند إقرار إصلاحات سياسية. هنا، أيضا يسوق الكاتب كذلك سببا يعتبر وجيها لعدم بلوغ حركات الاحتجاج في الدول الأخيرة أهدافها وفشلها في الذهاب بعيدا في تعبئة الجماهير للخروج للتظاهر وتبني مطالبها والصمود إلى حين تحققها، ويتعلق الأمر بغياب قناة «الجزيرة»، خصوصا في الجزائر والمغرب، في إشارة واضحة إلى الدور الذي تلعبه القناة، ومن ورائها دولة قطر في توجيه مسار الربيع العربي، وهذا ما تجلى، وفق الكاتب، بشكل أكثر وضوحا، في الربيع البحريني، الذي ووجه برفض خليجي وصل حد إيفاد قوات «درع الجزيرة» إلى البلاد من أجل ردع الاحتجاجات. نوفل إبراهيمي الميلي..محلل يغرد خارج السرب ظل نوفل إبراهيمي الميلي، طيلة السنتين الأخيرتين، اللتين تأججت فيهما الأوضاع في العالم العربي، أو على الأقل في بعض دول العربي، مقصد العديد من القنوات الدولية من أجل تحليل الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية. يتابع الميلي شؤون العرب من العاصمة الفرنسية باريس، التي يتولى تدريس العلوم السياسية بإحدى جامعاتها، ومنها أطلق كثيرا من تصريحاته المثيرة للجدل بشأن الربيع العربي. وقد شفعت له خبرته في متابعة القضايا العربية، وهو مشهود له بالفعل بالإحاطة بكثير منها، في الإقبال على كتاباته وتحليلاته المواكبة للربيع العربي. غير أن منتقدي توجهه التحليلي يقولون إن الإقبال عليه مرده إلى خروجه بتصريحات وتحليلات تكون في البعض الحالات «صادمة»، وتصنع الحدث في أحايين كثيرة. كانت تحليلاته تأبى الانسياق مع سياقات الحديث عن الثورة العفوية والتعبئة الجماهيرية، وظل يردد بأن الربيع العربي مجرد مناورات سياسية وإعلامية. وعلى هذا الأساس، لم يكن مفاجئا للذين تابعوا تحليلات الميلي، الخبير في شؤون العالم العربي، ولا سيما قضايا المغرب العربي، لتطورات الاحتجاجات في عدد من الدول العربية أن يصدر كتابا يسير عكس التيار السائد في تحليل ما وقع في الأشهر الأخيرة في العالم العربي.