تعرقل الاشتغال على علاقة استراتيجية التحكم بالحراك العربي متارس متعددة نخص منها بالذكر خمس: فتعدد دول العالم العربي واختلاف كبير لمسارها التاريخي ومظاهرها الطبيعية والاجتماعية خلف صعوبة قراءة الأوضاع. مما فرض الاعتماد على معطيات آنية، نقر بقصورها عن تحقيق شمولية النظرة إلى الحدث. كما أن طبيعة المناخ السياسي العربي المعقد والقائم على توازنات وتركيبات بهلوانية، ظلت غير مساعدة على تتبع التطور وبناء توقعات وتنبؤات. وقد تفاقمت الصعوبة بسبب ندرة الدراسات النموذجية في التجارب العربية. فطريقة التحليل غير العلمي والمبني على ردود أفعال إزاء بعض الأحداث المعزولة (انقلاب موريتانيا)، خلقت ضبابية، كرستها مقولات الخصوصيات المحلية، شوشت على فهم مظاهر التحكم من جهة، وفضحت الانتقال إلى إستراتيجية التحكم عن بعد من جهة ثانية. مما مهد لإعصار الربيع العربي. فكيف حدث ذلك ؟ اولا: مظاهر استراتيجية التحكم عن قرب يستلزم اندلاع الحراك الاجتماعي استكمال ثلاثة شروط رئيسة، تجسد ذروة التحكم، تتمثل في تحقق المظلوميات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتتعمق بالمجتمع عموديا وأفقيا. أ آليات التحكم السياسي: تفسر المظلومية والتحكم السياسي بعوامل: افتقاد المنافسة الشريفة في تداول السلطة، وتمييع المحطات الكبرى للنشاط السياسي. في هذا الإطار يعيد المحللون عوامل ضعف المنافسة السياسية الشريفة إلى نزوع الحكام إلى احتكار الرئاسة مدى الحياة؛ فالقذافي يعتبر أقدم متحكم سياسي، ظل على سدة الحكم منذ انقلابه العسكري لسنة 1969. كما يميل المتحكمون إلى الجمع بين المهام، فالراحل ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، كان يشغل أيضا مناصب: نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام في المملكة العربية السعودية. من جهة أخرى اختار تحكم النظام السياسي استدامة تواجد الحزب الحاكم بالسلطة لعقود، استمرت منذ الحصول على الاستقلال. وقد ترتب عن ذلك تنامي مظاهر العبث بالحياة السياسية؛ من خلال وضع دساتير على مقاس هوى الزعماء. فبشار الأسد غير فصلا من الدستور في جلسة لم تتجاوز خمسة عشرة دقيقة، ليخول له الترشح للرئاسة. وبهدف إنهاء طموحات المعارضة وتأبيد التحكم السياسي، سادت عقلية التوريث الرئاسي: إذ بدأ تحضير الأبناء أحمد صالح (اليمن) وجمال مبارك (مصر) وسيف الإسلام القذافي(ليبيا)... لتولي الرئاسة بشكل مستفز لشعور النخب والشعوب. أما تمييع العمل السياسي فيتمظهر في هامشية المؤسسات المنتخبة: إذ أن اعتماد المكاتب الوطنية والشركات الوطنية وتأسيس المجالس العليا... يعتبر عملية تهريب الملفات الحساسة اقتصاديا واجتماعيا... من يد الوزراء وتركيزها بيد الحاكم. وقد تعزز تهميش المؤسسات بتضخم الإقصاء من الفعل السياسي، وإلغاء التعددية من خلال اعتقال الخصوم المؤهلين للترشح للرئاسيات، والتضييق عليهم في الانتخابات، كامتياز لتلميع عناصر الحزب الحاكم، وتيسير التزوير لها، وتكرار تعيينها رغم ثبوت فساد تجاربها. أمام تفاحش العبث بإرادتها، عزفت الشعوب عن الانخراط في المحطات السياسية؛ إذ أن النسب ظلت تتراجع، وبشكل لا يرتقي إلى التعبير عن المشاركة الشعبية الحرة، اللازمة لإفراز مؤسسات شرعية، تخدم القضايا الاجتماعية. ب أساليب التحكم الاجتماعي: تتجلى بعض مؤشرات استكمال التحكم والمظلومية الاجتماعية في مظاهر التصفية الجسدية (القتل البشع للصحفي الليبي من قبل القذافي سنة 2005.)، وضعف حرية التعبير الذي يتمظهر في إغلاق القنوات مع بداية الحراك الشعبي، خصوصا المحايدة، واعتقال الصحفيين (رشيد نيني: المغرب) والتمثيل البشع (الطفل حمزة علي الخطيب: سوريا) وحظر الانترنيت والتشويش على الهاتف والتصنت على المكالمات بمعظم الدول... يعتبر فساد القضاء واختلال العدل وانعدام المساواة، وسيادة العنف والمس بالكرامة: البوعزيزي (17 دجنبر) وفدوى العروي (22 فبراير) وحميد كنوني (9 غشت). وقصف أحياء الفقراء (مخيم الرمل للاجئين الفلسطينيين من قبل الجيش السوري) (14 غشت)، ووصف الشعب بالجرذان والنجاسة والدنس (الخطاب الأول للقذافي)... نماذج مغرقة في دوس قيم التحرر والحداثة... تعززت بالتحكم في أرزاق المجتمعات العربية. ج مفاعيل التحكم الاقتصادي: يستلزم اندلاع الحراك الشبابي استكمال التحكم بتحقق المظلومية الاقتصادية، التي يمكن اختصار مفاعيلها في استفحال انتشار البطالة؛ بحيث صرحت منظمة العمل الدولي على أنها تفوق 23 بالمائة عموما، وتكاد تتضاعف في قطاع المرأة. كما أن ضعف الاستثمار وتراجع الدخل وغلاء المعيشة نتيجة اقتصاد الريع، والامتيازات المخلة بشروط المنافسة الحرة والرشوة، وضعف النمو الاقتصادي... يبين رغم توافر البلاد العربية على مقدرات كفيلة بتحقيق نمو مستمر يضاهي الدول المتقدمة عن مستوى فساد الاقتصاد. لم تنتبه سلطات التحكم العربي إلى استكمال المظلوميات الثلاث إلا بإقدام البوعزيزي على إحراق ذاته بسيدي بوزيد بعيدا عن العاصمة السياسية والاقتصادية. إلا أن سرعة اندلاع الحدث تبين أن التحكم لم يميز بين المركز والهامش. وقصد فرملة الحراك العربي حاولت الدولة العميقة متأخرة وضع بعض المسكنات للتخفيف من التحكم والانتقال إلى تجريب استراتيجية التحكم عن بعد. ثانيا : قصور استراتيجية التحكم عن بعد وعيا منها بنضج شروط اعصار الربيع العربي، بادرت أنظمة التحكم متأخرة إلى إيجاد إجابات تخدم أجندتها في إرباك حساب تكامل الشروط؛ فعلى المستوى السياسي لم تفلح في النفاذ إلى أعماق المشكل، مما أثر في التدابير الاقتصادية والاجتماعية. أ تدابير سياسية مسكنة: أمام موجات الإعصار، اضطر الزعماء إلى القبول بإجراء إصلاحات سياسية، تقتضي الفصل بين السلط (خطاب العاهل الأردني 14غشت)، نقلت بموجبه بعض اختصاصات الملك إلى البرلمان، إثر تشكيل لجنة لاقتراح تعديلات دستورية. كما تجلى ذلك في إقالة وزراء (بن علي) خصوصا الداخلية، وحل الحكومات (ليبيا عمان سوريا الأردن الكويت...) بالخصوص، وإعلان عدم الترشح للانتخابات الرئاسية، والعدول عن الترشح لولاية ثالثة (عمر خليفة جيبوتي). لما بلغ الحراك أوجه أُرغم الزعماء لكن بعد خراب البصرة على التخلي عن السلطة (مصر وتونس وليبيا واليمن). وقد تلى ذلك نزيف لشبكات الأنظمة، تمثلت في انشقاقات واستقالات من صفوف الحزب الحاكم، والانضمام إلى المسيرات الشعبية وميادين التظاهر، وإرباك حسابات أحزاب الدولة (الأصالة والمعاصرة: بالمغرب)، وفسح المجال أمام التعبيرات المعارضة. لقد كان من بين حسنات الحراك استثمار الحدث في الدفع بالقوى العاملة (فلسطين) إلى تقوية المصالحة، ووضع دساتير جديدة (المغرب وتونس ومصر والأردن) وتوسيع المشاورة. ونتيجة سرعة انهيار الحكم، تمكن الحراك من فضح هشاشة أجهزة التحكم العربي خصوصا وزراء الداخليات ، التي انتهت صلاحية قدرتها التسلطية على استمرار التحكم في أنفاس المجتمعات. فالشعب الذي كان يصفه الحكام بالوديع، احتضن الحراك، واستقبل الثوار حينما انهارت قبضة الدكتاتورية. من بين النتائج العامة تأثر العالم غير العربي (القوقاز بروسيا) وثورات (الصين13 مدينة) وغيرها. كما خلف انفراجا وإطلاق سجناء الاعتقال بسبب الرأي السياسي (موريتانيا)، وإطلاق برامج لتمويل مشاريع الترميم والإدماج الاقتصادي. ب إصلاحات اقتصادية ترقيعية: قصد تهدئة الأوضاع تم إقرار تخفيضات في أسعار المواد الغذائية (تونس) مثلا، كما تمت المسارعة إلى الزيادة في الأجور (المغرب ومعظم دول الخليج...). ونتيجة ارتفاع منسوب الحراك، عملت الدول الكبرى على إبطال صفقاتها (روسيا تجارة الأسلحة) مع العالم العربي. تماهيا مع النتائج الطبيعية للتحول الجيوسياسي في المنطقة، و مع طموحات الشعوب جميدت الدول الكبرى أرصدة الأنظمة المنهارة (ليبيا ومصر). وكان من الطبيعي سرعة انهيار الاقتصاديات القائمة على المساعدات، وظهور أزمات بشكل آني، كادت تستثمر ضد تحقيق أهداف الحراك، وبالتالي إبطال انعكاسات إصلاحات التحكم الاجتماعي. ج : إصلاحات اجتماعية استمالية: لقطع الطريق أمام تجذر فكر الحراك، أسرعت أجهزة التحكم بتقديم وعود لحل مشاكل البطالة (تونس) بإعلان آلاف الوظائف. كما تم إطلاق مشاريع الوحدات السكنية (نصف مليون وحدة سكنية بالسعودية) لإيواء العمال والطلبة وصغار الموظفين. ولثني القوى الحية عن المضي في مشروع التغيير، أطلق الزعماء مشاريع تدعيم موقع الجماهير خصوصا الشباب، وإحداث هيئات تعد بإشراكهم في القرار. إلا أن أجوبة الرفض عبرت عنها الشعوب بتزايد أهمية مؤسسات المجتمع المدني الحِراكي (تنسيقيات الحراك، لجان الأحياء، واللجان الشعبية، والمجالس الانتقالية ومجالس حماية الثورة، ومجالس تطبيق مطالب الثورة، ومجالس اقتصادية اجتماعية ومجالس الشباب)... ويعد تغيير النظر إلى طبيعة الاحتجاجات؛ إذ كانت تواجه بالتجاهل والعنف، لتصبح أمرا عاديا بالشارع العربي، والتخلي عن التحليلات الخارجية (مراكز باريس وواشنطن)، وبروز دور المحلل السياسي والفكري العربي العضوي في الحراك الشعبي... مؤشرات دالة في تغير المعادلات الكبرى بالعالم العربي، وبطلان استراتيجية التحكم عن بعد. هكذا إذن لم تتمكن مؤسسات التحكم الشامل من انجاز مستلزمات مرحلة إصلاح التحكم بتوسيع دائرته، ومن تم تمكن إعصار الربيع العربي من المضي نحو اضطراب إقليمي، افرز تيارات بديلة، تتولى مهمة مصارعة إرادات العودة إلى زمن ما قبل الربيع، وواد الحلقة الأخيرة من فرص تحكم الفساد. استتاج: انطلاقا من تشابه الأوضاع، وانسجاما مع ما سيطبع هذا القرن من الاحتجاج العارم بسبب الأزمة المالية العالمية، واستنادا إلى مؤشر تحقيق نسب عالية من الشروط الثلاثة الموجبة للحراك الاجتماعي، فإن النصف الأول على الاقل من القرن الجاري ينبئ بتغيرات جذرية. لذا يتوقع ألا يتوقف الزحف على الأنظمة التي لم تتعد بعد رويتها إصلاح التحكم إلى مستوى الإصلاح الديمقراطي، وتحقيق مطالب الحرية التامة والعدالة المنصفة والكرامة الإنسانية. والأكيد أن المسكنات والترميمات السطحية لإصلاح التحكم باتت غير كافية للتهدئة. وبقدر ما تؤجل رفع سقف المطالب، فإن الأفق الحتمي لن يقبل أقل مما وقع بدول شمال شرق إفريقيا.