مازال كثيرون يرفضون الاعتراف بذلك، لكن الحقيقة هي أن عصر التلفزيون قد انتهى تماما، وانتقلت الأجيال الصاعدة إلى أشكال جديدة من وسائط التواصل الجماهيري، على رأسها الإنترنيت. لم يعد شباب اليوم يهتمون بالتلفزيون وبرامجه، سواء تعلق الأمر بالقنوات المحلية أو الأجنبية، نفس اهتمامهم بشبكات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر) والأفلام المبثوثة على «اليوتوب» و«الديلي موشن» وغيرهما. وبدون تهويل الأمور أكثر من اللازم، ينبغي القول إن هذه النهاية كانت منتظرة تماما، من جهة لأن عصر التلفزيون (الذي انطلق في خمسينيات القرن الماضي) ليس أبديا، ومن جهة أخرى لأن القائمين على أمور التلفزيون عبر العالم صاروا عاجزين عن إبداع مضامين جديدة، بعد أن انتهى بهم سعيهم المحموم على إرضاء المعلنين والرفع من نسب المشاهدة إلى فقدان البوصلة والدفع بالشاشة الصغيرة نحو الحضيض. خير دليل على ذلك ما سمي ب»تلفزة الواقع» التي حوّلت المشاهدين إلى مجرد «بصّاصين»، بالتعبير المصري، أي مجرد مسترقي نظر إلى حياة الآخرين، فقدوا القدرة على العيش وعلى الاستمتاع بحيواتهم الخاصة. ويمكننا، إن شئنا الاستئناس بنماذج لذلك، أن نلقي نظرة على ما تبثه قنوات رئيس الوزراء الإيطالي السابق (برلوسكوني) أو ما صارت تبثه القناة الأولى الفرنسية (تي إف 1) التي لم يعد منتقدوها داخل فرنسا يترددون في تسميتها ب»صندوق القمامة». وليس من قبيل الصدفة أن العجز عن إبداع مضامين جديدة يرافقه تطوير للجهاز نفسه، من صندوق خشبي إلى شاشة مسطحة (شاشة بلازما، في البداية، فشاشة «إل سي دي»، ثم شاشة «الليد»...)، ومن صورة ذات بعدين إلى صورة ثلاثية الأبعاد، ومن شاشة نشاهد ما يبث عليها إلى شاشة مزودة بكاميرا (لكي نوظفها في التواصل عبر الإنترنيت، في ما يقال لنا، لكن دون أن نضمن أن أحدا لن يتمكن من «مراقبتنا» عبرها)، كل ذلك سعيا إلى جلب مشاهدين جدد إلى «قبيلة» يتناقص عدد أفرادها باضطراد. المفارقة أن «نهاية التلفزيون» بدأت في اللحظة نفسها التي رفع فيها الانفجار الرقمي من عدد القنوات التلفزيونية المبثوثة أرضيا وفضائيا إلى حد جعل المشاهدين عاجزين عن مواكبتها. وهي مفارقة لم يتم الانتباه إليها إلا لاحقا، ومن قبل الأصوات نفسها التي سبق أن ارتفعت مبشّرة بالعهد الجديد الذي ولجته البشرية، والذي قضى على «دكتاتورية الرأي الواحد» وفتح أبواب الاختيار أمام الجميع. يضاف إلى ذلك العمل على الرفع من فترة البث لتغطي ساعات اليوم بأكمله، بشكل أفقد التلفزيون -في النهاية- وجهه الإنساني (كأداة للتواصل الاجتماعي بين البشر) وأكّد على طابعه «التشييئي» و«الإلهائي-التخديري»، بما حوّله، ودون مواربة، إلى أداة داعمة للدكتاتورية، لا يهم القائمين عليها رفعُ الوعي لدى المشاهد بقدرما يهمهم إخضاعه وإلهاؤه على مدار الساعة. هذا دون الحديث عما يؤدي إليه الرفع من ساعات البث، في البلدان العاجزة عن توفير ما يكفي من الإنتاج المحلي، على مستوى تعزيز التبعية الثقافية والمالية للبلدان المنتجة أو الوسيطة في تصريف الإنتاجات الأجنبية، عديمة القيمة في الغالب. إن المعاصرين لبداية التلفزيون ليترحمون اليوم على عصر ذهبي كانت ساعات البث فيه محدودة، على قناة واحدة في الغالب، تترك للناس فرصة عيش حياتهم الخاصة والاستمتاع بأنشطة ومتع أخرى، من قبيل القراءة والخروج من البيت لمشاهدة العروض السينمائية والمسرحية والموسيقية في القاعات ومشاركتها مع الآخرين، وهو ما نفتقده اليوم في عصر الإنترنيت أو عصر «التواصل الافتراضي» الذي يحضر فيه كل شيء عدا الإنسان.