قبل انطلاق الحلقة الأخيرة من برنامج «حوار»، خيم صمت ثقيل على البلاطو. ومساهمة منه في كسر هذا الصمت طالب أحد الحاضرين ساخرا من مصطفى العلوي أن يجرد الصحافيين من أحذيتهم، حرصا على سلامته. فأجابه العلوي بأن أحذية الصحافيين مربوطة ب»السيور» جيدا، ولذلك فلا خوف منهم ومن أحذيتهم. عندما انتهت الحلقة فهمت لماذا كان مصطفى العلوي مطمئنا بالكامل إلى أحذية الفريق الذي استدعاه لمحاورة أحمد حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. فهم قد جاؤوا في الحقيقة إلى البرنامج لمساعدة حرزني على رد «الصرف» لكل الصحافيين والحقوقيين والمواطنين الذين يعتقدون أن وضع حقوق الإنسان وحرية التعبير في المغرب تعرف تراجعا خطيرا. وبنظري يمكن اعتبار الحلقة الأخيرة من «حوار» أوضح عنوان للتراجع الكبير عن المكتسبات الديمقراطية. لأنه ليس من الديمقراطية في شيء أن تخصص قناة عمومية تمول من أموال دافعي الضرائب لضيوف جاؤوا جميعا لجلد الصحافة المستقلة، وجريدة «المساء» على وجه الخصوص، بالإضافة إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمجتمع المدني، دون أن يكون هؤلاء «الضحايا» حاضرين في البرنامج لكي يدافعوا عن أنفسهم. إن الأمر كان أشبه بحلبة ملاكمة ينازل فوقها خصم بيدين طليقتين خصما مقيد اليدين إلى الخلف ومكمم الفم. وهذا استغلال جبان للإعلام العمومي من طرف الدولة لتصفية حساباتها مع الجهات التي لا تعجبها توجهاتها الحقوقية أو التحريرية. وهو أيضا تعبير عن الارتباك السياسي والإعلامي للدولة. فهي عندما تقرر استغلال إعلامها العمومي لتوجيه الضربات تحت الحزام لخصومها دون إعطائهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم، تكشف عن خوفها المزمن من هؤلاء الخصوم. لأن منظرها وهي تأكل لحوم الناس في غيبتهم، يشبه كثيرا منظر ذلك الجبان الذي يضع حذاءه الثقيل فوق عنق خصمه ويبكي ويطلب النجدة، وعندما سأله الناس لماذا يبكي ويطلب النجدة وهو الذي «يعفس» على خصمه قال لهم باكيا «خفتو ينوض ليا». وإذا كان من فائدة يمكن استخلاصها من الحلقة الأخيرة لبرنامج «حوار»، فهي أنه كشف لنا عن حقائق مثيرة بخصوص موضوع جبر الضرر لم نكن على علم بها. فبفضل أحد الصحافيين اكتشفنا أن الدولة هي أيضا ضحية للمجتمع، ويجب ربما تعويضها عن الضرر الذي أصابها منا. ولحسن الحظ لم يطالبنا الزميل بالاعتذار جماعيا للدولة من أجل طي صفحة الماضي. كما اكتشفنا بفضل صحافي آخر أن المجتمع هو الذي يهدد حق المواطنين في الحياة وليس تقاعس الأمن والدولة عن حماية أرواحهم وممتلكاتهم. صحافي آخر أشهر كل «محسناته» البلاغية للدفاع عن رجال الأمن، وقال بنبرة بطولية بأن المواطن عندما يتعرض لاعتداء يقوم الجميع لكي يدافع عنه، بينما عندما يتعرض الشرطي لاعتداء فلا أحد يقف إلى جانبه. ونسي صاحبنا أن الشرطي محب عندما تلقى رصاصة في فخذه من طرف زوج الأميرة عندما كان يقوم بواجبه، قمنا ندافع عنه وعن حق العدالة في متابعة المعتدي عليه بغض النظر عن مكانته الاجتماعية. فماذا كان جزاؤنا. لقد رمونا بكل الأوصاف الشنيعة وأسمعونا أقذع الشتائم. فلماذا صمت زميلنا العزيز الذي يحب رجال الأمن ولم يكتب حرفا واحدا دفاعا عن الشرطي الذي تلقى الطلق الناري. وبفضل الحلقة الأخيرة من «حوار» اكتشفنا أن هناك إمكانية لاستضافة ضيفين «دقة وحدة» في نفس الحلقة، ترشيدا للنفقات واقتصادا لمساحات البث التلفزيوني. وهو ما تحقق بالأمس، حيث كان الضيف الحقيقي هو أحد الصحافيين الذي لا أحد يعرف أين يكتب، بينما الضيف الثانوي كان هو حرزني. وبقية الصحافيين كانوا يتسلون «بهزان» الكواري» لحرزني لكي «يسماتشي» على خصومه». ومن تابع الحلقة العجيبة رأى كيف أن الصحافي الضيف لم تكن لديه أسئلة، بل مداخلات، أو «مخارجات» على الأرجح، لأنه ظل طيلة البرنامج يخرج عن الموضوع لكي يصدر أحكامه في كل القضايا، من أنصار المهدي ومحاميهم الذي سماه بالمتطرف، مرورا بقضية بلعيرج وسيدي إفني والقصر الكبير، وانتهاء بشكره للمسؤولين على «قشابتهم» الواسعة والتي بفضلها يتحملون انتقادات الصحافيين ولا يتابعونهم في المحاكم بسببها. ومن خلال «خرجته» الأخيرة، أعطى صاحبنا الدليل على أنه يستحق منصبا رسميا وهو منصب «شارح» الرسائل الملكية. فهو لم يترك فقرة في الخطاب الملكي الأخير إلا شرحها، وكأنه الوحيد في المغرب الذي فهم مرامي الخطب الملكية ودلالاتها العميقة. ولم يكشف صاحبنا فقط عن موهبة في شرح الخطب، بل عن موهبة أكبر في تبرير تجاوزات الأمن وخرقه لحقوق الإنسان. فحسب فهمه فإن الأمن ليس مطالبا باحترام إجراءات استدعاء المشتبه فيهم بالإرهاب، خصوصا إذا تزامن توقيت الحاجة إليهم مع يوم الجمعة مساء. لذلك فمن الممكن اختطاف هؤلاء المشتبه فيهم للتحقيق معهم خارج القانون. فسلامة ثلاثين مليون مواطن تقتضي مثل هذه «الشكليات» كما سبق لوزير الداخلية تسميتها في البرلمان عندما افتضح أمر اختطاف المعتقلين في ملف بلعيرج على أعمدة الصحافة. أما حرزني الذي يمثل مؤسسة حقوقية تحمل على عاتقها مهمة مقدسة كالدفاع عن حقوق الإنسان، فقد اتهم كل من يقول بوجود تعذيب في المغرب بالتعايش مع أساليب الماضي. هكذا نكتشف أن الذين يمارسون التعذيب ويصدرونه إلى الخارج، بشهادة تقرير منظمة العفو الدولية، ليسوا هم من يعيش في الحاضر بأساليب الماضي، وإنما الذين يفضحون هؤلاء في الصحافة هم من يستعملون أساليب الماضي. بعبارة مختصرة فالفكرة الأساسية التي نخرج مها بعد مشاهدة هذه الحلقة العجيبة هي أن الدولة ومؤسساتها بريئة من كل الممارسات المخلة بحقوق الإنسان في المغرب، وإذا كان هناك من ضحية حقيقية يجب جبر ضررها والاعتذار لها فهي الدولة ومؤسساتها نفسها. والجلادون الحقيقيون في المغرب، حسب حرزني وجماعته، هم أصحاب «المساء» والصحافيون المستقلون وخديجة الرياضي ومحمد أمين والحريف وبقية «الجلادين» الآخرين الذين يختفون داخل جلد الحملان في الجمعيات والمنظمات الحقوقية. وعندما فهم مصطفى العلوي أن صوت الدولة وصل عبر ضيوفه قال بابتسامة ماكرة أنه يود طرح سؤال على حرزني «حتى يكون صوت الآخرين»، يعني صوت الذين خصصت الحلقة لصلبهم، وطرح سؤالا حول التراجعات الحقوقية التي سجلتها المنظمات الحقوقية العالمية على المغرب. وطبعا كان جواب حرزني «باين من الطيارة»، وهو أنه ليس هناك أي تراجع في المغرب، وأن الحكم الصادر ضد «المساء» بتغريمها 612 مليون سنتيم «وخا الثمن ديالو مرتفع شوية ولكن مقبول». قبل أن يلبس جبة الفقيه الإعلامي ويبدأ في إسداء النصيحة للجسم الصحافي مطالبا إياه بجمع «رأسه» وتنظيف بيته الداخلي. « أما القضاء الذي هو جوهر المشكل في هذا الموضوع، وبناء على أحكامه الظالمة خلال سنوات الرصاص يعوض حرزني كل هؤلاء الضحايا اليوم، فإن سعادة المعتقل السياسي السابق لم يتجرأ على اتهامه ولو بنصف كلمة، واكتفى بالإشارة إلى أنه يعرف الكثير من القضاة مستعدين لإصلاح القضاء. وكأن النية أبلغ من العمل في هذه القضية. والكارثة في البرنامج هي أن حرزني عندما أراد أن يكشف عن جانب السخرية السوداء في شخصيته، قال ضاحكا بأن بعض القوانين تتأخر لأنها تحتاج إلى مراسيم تنفيذية، ومن بينها قانون منع التدخين والذي يتمنى شخصيا أن يبقى بدون مرسوم تنفيذي لوقت أطول. تصوروا لو أن مسؤولا رسميا في مؤسسة بحجم المجلس الاستشاري يقول على شاشة التلفزيون في دولة ديمقراطية، ولو على سبيل السخرية، أنه يتمنى أن يظل قانون منع التدخين بدون تنفيذ، ماذا كان سيحدث. عندنا لا شيء حدث. وكأن رئيس المجلس الموقر نسي أن حاملة لواء الحرب على التدخين في المغرب ليست سوى الأميرة لالة سلمى التي تقوم بجهد استثنائي في التوعية بأضرار التدخين الذي يحصد أرواح مئات الآلاف في المغرب. أما الأستاذ الجامعي الذي كان الوحيد ضمن الضيوف الذي حاول البقاء على الحياد في الوقت الذي انخرط فيه الآخرون في جلد وصلب زملائهم الغائبين، فقد «طبز» لها العين في الدقائق الخمس الأخيرة عندما سأل حرزني عن إمكانية استصدار قانون يمكن الصحافي من حقه في الوصول إلى المعلومة، بالإضافة إلى قانون يمنع صحيفة معينة من أن تنجح فقط بالنقد. وإذا كنا نتفق مع الشق الأول في السؤال حول الحق في الخبر، خصوصا وأن حرزني جاء إلى البرنامج بعد أن أغلق هاتفه في وجه صحافية طلبت رأيه بخصوص كتابة وزارة العدل القطرية لاسم المغرب مقرونا بالجمهورية وليس الملكية في ظرف تسلمه تسلمه هذا الأخير بالدوحة، وقال لها «أنا ماشي خدام عندك»، فإننا نعترف أن هذه أول مرة نسمع فيها أستاذا جامعيا يتحدث عن قانون لمنع النجاح بواسطة النقد. وكأن النقد أصبح جريمة يجب معاقبة مرتكبها في المغرب. ويبدو والله أعلم أن هناك من يريد من الصحافيين أن يتركوا النقد جانبا لكي يتخصصوا في النقود. والأمثلة كثيرة في المغرب، فهناك جرائد نجحت في البقاء ليس بفضل النقد ولا بفضل القراء، وإنما بفضل الإعلانات السخية التي تهطل عليها من المؤسسات العمومية والمجموعات المالية. ولعل أحسن ما قاله حرزني خلال البرنامج هو أنه مطالب بتعلم لغة موسيقي «الراب»، فعلى كل حال تبقى لغة «الخاسر» أرحم بكثير من لغة الخشب التي أظهر حرزني، عضو حركة «لنخدم الشعب» سابقا، درايته العالية بفنونها. فالفرق كبير جدا بين من يخدم الشعب وبين من يخدم الدولة.