كما كنت أتوقع، أتت ردود كثيرة جدا على مقالتي في «السفير»، التي قلت فيها: إن البديل الإسلامي لن يكون ديمقراطيا. الغريب أن أيا منها لم يتضمن كلمة واحدة عن السؤالين اللذين طرحتهما وهما: في الوضع الراهن، وفي ظل الانزياح الذي أحدثته سياسات بعض الإسلاميين عبر ما سمي «المجلس الوطني السوري»، هل كل قائل بسقوط أو إسقاط بشار الأسد ثوري وديمقراطي؟ وهل يجب أن نضع يدنا في يده لمجرد أنه عدو عدونا؟ كما لم يرد أحد أيضا على تخوفي من أن يكون سقوط النظام مجرد مرحلة في الأزمة السورية، التي خشيت منذ أكثر من عام ونصف من أن تأخذنا إلى حال من الفوضى تجعل سوريا غير قابلة للحكم لفترة طويلة. وقلت منذ ذلك التاريخ مرات متعددة: إذا كان الخليج وإسرائيل لا يريدان الديمقراطية، وكان قسم من الخليج يخاف الحكم الإخواني، بينما يحبذه قسم آخر، أغرقه بالمال السياسي والسلاح وقلة العقل، هل سيسمح هؤلاء بإقامة ما يرفضونه؟ أليس من الأفضل لهم شطب سوريا من خريطة المنطقة وعلاقات القوى فيها ومنعها من استعادة وضعها الطبيعي، خاصة إن جاء كل ذلك على يد نظام ديمقراطي يهدد وجودهم ووجود إسرائيل، ويمكن أن يعيد طرح جميع المسائل الكبرى والخطيرة، التي سبق أن طرحتها ثورة قومية فعلوا المستحيل كي يقضوا عليها ونجحوا؟ جاء الرد من جهات مختلفة، أشدها سخفا وتفاهة تلك الجهة التي لم تعلن عن نفسها، وزعمت أنني أدنت ما يقوم به الجيش الحر، وقلت إنه يدفع البلاد نحو الحرب الأهلية. هذه الجهة استعادت من أرشيفها كلاما مشوها نسب إلي بعد قرارات مجلس وزراء الخارجية العرب بتسليح وتمويل المقاومة ردا على الفيتو الروسي الثاني في مجلس الأمن، وكذبته بكل وضوح في حينه، لكنه زور من جديد ما كنت قد قلته من أن الجيش الحر لا يريد حربا غير متكافئة مع النظام، بسبب تفاوت الأعداد بين الجيش النظامي وبينه، وأنه سيستعين بمئات آلاف المدافعين عن أنفسهم وأسرهم وممتلكاتهم، وأنني سأفعل شخصيا كل ما هو ضروري كي لا يهزم، لأن ذلك لن يعني فقط هزيمة المعارضة، التي صار قوتها الرئيسة على الأرض، وإنما كذلك كارثة ستحل بأقسام كبيرة من الشعب السوري. وأكدت في النهاية أن مصير الوطن والشعب والحرية يرتبط بمقاومة وانتصار الشعب والجيش الحر، مهما كانت ملاحظاتنا عليهما. تحاول هذه الجهة تحريض الجيش الحر ضدي، كأن معظمه يحترمها أو لا يشاطرني الرأي حولها. والغريب أنها تقدم نفسها إلى الناس كجهة مؤمنة وتحتكر التحدث باسم الدين، لكنها تكذب على الطالعة والنازلة، وكنت قد ذكرتها في مقالتي عندما تحدثت عن «جهات إسلامية تحترف الكذب وتقتلها الرغبة في السلطة» (كان يجب أن أقول التسلط). لا ديمقراطية وإسلامية معا وقد رد عليّ صديق قديم من حلب انتقد موقفي المناوئ للإسلام والثقافة العربية/ الإسلامية، وذكرني بأنني كنت دوما أحد رموزها والرجل الذي احترمه الإسلاميون. هذا الصديق حدثني أيضا عن زيارة قام بها مع لفيف من أنصاره لبيتي في دمشق عام 2009، بعد خروجي من السجن، حيث هنأني بالسلامة ولامني لأنني رفضت عرضا قدمه إلي بشأن تشكيل خلية أزمة لإدارة الصراع ضد النظام. كما أشاد بتقديري للأمور، وقال إنني أخبرته ومن معه بأن الدم سيصل إلى الركب عند قيام الثورة في سوريا، وإن ما حدث في تونس ومصر لن يتكرر عندنا. وقد رددت عبر البريد الإلكتروني على هذا الصديق، وأكدت له أن المساواة التي يقيمها بين الإسلام والثقافة العربية الإسلامية وبين ما يقوله هو وبقية أتباع الإسلام السياسي يؤكد مخاوفي من أنلا تصير سوريا ديمقراطية في ظل البديل الإسلامي، وذكرته بالفارق الكبير بين الدين وقراءاته السياسية، خاصة عندما تكون عصبوية ومؤدلجة وموجهة ضد الآخرين، ولفتت نظره إلى أنني أركز في مقالتي على نفي صفة الثورية عن المطالبين بسقوط بشار الأسد، إن كانوا سيعيدون إنتاج الاستبداد في صيغ جديدة، موسعة وذات طابع مقدس، وأنني لست مستعدا اليوم للدخول في تنظيم فضفاض يسيطرون عليه كالائتلاف الوطني السوري، فلا يعقل أن أقبل بتشكيل خلية أزمة معهم، كما لم يكن معقولا أن أقبل مشروعه لأسباب كثيرة، بينها أن رأيه يختلف عن رأيي في قضايا جوهرية، رغم أننا ننتمي كلانا إلى معارضة لم تتفق على شيء إلا وَقَوَّضَهُ «الإخوانيون»، منذ بدأ رقصهم الحائر حول دور، وتركوا ولم يتركوا إعلان دمشق كي ينضموا ولا ينضموا إلى الأستاذ خدام، قبل أن يغيروا رأيهم في النظام ويكتشفوا بعد حرب غزة أنه وطني ومقاوم ويعرضوا عليه شراكة استراتيجية كان من شأنها أن تضعهم اليوم في صفوف شبيحته، لو أنه قبل آنذاك بها. أقول اليوم إنني لست مستعدا للاتفاق مع كل من يزعم أنه يريد إسقاط نظام الأسد، فتقول أنت لي إنني رفضت الانخراط في خلية أزمة عام 2009، كان سيترتب عن قيامها وضع مواقفي تحت رحمة أشخاص لا أعرف كثيرين منهم أو لا أثق في قدرتهم على فهم ما يجري، لانطلاقهم من مواقف مؤدلجة لا صلة لها بالواقع، تجعلهم غريبين عن العقلانية السياسية المطلوبة لسوريا في تلك الفترة. أقبل أن يعلمني الآخرون كما تصدى لمقالتي مناضل قديم سجن سنوات طويلة عندما كان عضوا في «حزب العمل الشيوعي»، أراد تصحيح كلامي وتصويبه، وذكر أنه كان من الأفضل لو أنني قلت: «البديل الديمقراطي لن يكون إسلاميا»، بدل القول «البديل الإسلامي لن يكون ديمقراطيا». أما السبب الذي دفعه إلى انتقادي على هذه الغلطة فهو عدم وجود بديل إسلامي، والبرهان على ذلك جَلِيٌّ في ما قالته مقالتي حول خطورة اختلاف تيارات الإسلام السياسي، المسلحة منها وغير المسلحة، على البديل الإسلامي، فهذا الاختلاف يعني إقراري الضمني بعدم وجود بديل إسلامي. الحقيقة أنني لم أفهم ما يريده الأخ العزيز، ولا شك عندي في أنه يعرف تمام المعرفة بوجود اختلافات وتيارات حول الديمقراطية، ومع ذلك فإنه ينصحني باستخدام كلمة البديل الديمقراطي. كما يعلم بأنني كنت أتحدث عن البديل الديمقراطي وعلاقته بالإسلام، وإلا لاختلف كلامي اختلافا كبيرا عما قلته في مقالتي. أخيرا، للأخ الكريم أن يؤمن بما يشاء، وأن يكتب مقالة تنتقد وجهات نظري بالطريقة التي يريدها، لكنه لا جدوى من وضع نفسه مكاني لتصحيح ما اعوج من كلماتي وأفكاري. أنا أقبل أن يعلمني الآخرون، لكن التعليم شيء والتعالم شيء آخر، خاصة إن كانت حججهم على هذا القدر من الضعف، إن كانت لديهم حجج أصلا في النهاية. قابلت شبانا إسلاميين في ندوة «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة، اتفقوا معي في معظم ما قلته، لكنهم أخذوا عليّ التعميم فيه، ووضع جميع الإسلاميين في سلة واحدة. كما انتقدوا قولي إن السيدات الثلاث اللواتي عينهن المجلس الوطني فيه آتيات من العصر الحجري. خلال الحوار معهم، وكان وديا جدا وصريحا، قلت: إنني تحدثت عن «جهات إسلامية» حصرتها في «تلك التي تتقن الكذب وتتهافت على السلطة»، ولم أعمم، فنفوا أن تكون المقالة قد قصدت هؤلاء، لكن حسن الحظ ساق إلينا رجلا يحفظ النص على «آي باده»، عندئذ، انتقلنا إلى «العصر الحجري»، فقلت شارحا موقفي: أنتم تعلمون بأن «المجلس الوطني» لم ينتخب في دورته الأخيرة أي امرأة، وأنني كنت من الذين انتقدوا ذلك ولفتوا الأنظار إلى تضحيات المرأة السورية التي تفوق أي وصف، وأن من عينوا السيدات الثلاث بقرار لاحق لم يفكروا في المرأة بل في نمط معين منها يتكون من نسائهم أو من اللواتي ينتمين مثلهم إلى العصر الحجري، والدليل اختيارهم سيدات منقبات لأنهن منقبات، أي لأن عقولهن مليئة بما يخدم نظرات هؤلاء ومعاييرهم، وليس لأنها مليئة بما يخدم المرأة السورية، خاصة المسلمة منها، التي تَنَقَّبَ وتَحَجَّبَ قسمٌ منها، ولم يفعل ذلك قسم آخر نجده مثلا بين القرويات اللواتي يعانين الأمرين من بطش النظام، وصرن يظهرن بكثافة على التلفاز ويتحدثن بجرأة ودقة عن الواقع السوري، بما في ذلك السياسي منه، لكن من عَيَّنَهُنَّ ممثلاتٍ للمرأة لا يرى ضرورة لأن يتمثلن في مجلسهم الذي يريدونه وطنيا، وجاؤونا بسيدات يعبرن عن عقلهم الباقي في العصر الحجري. لم يقتنع قسم من الشباب بهذا الكلام، ولفتوا نظري إلى الاستغلال التحريضي الذي يمارس ضدي بسبب هذا الوصف، الذي يعممونه ويزعمون أن ما قصدته به هو الإسلام وثقافته. قلت إن هؤلاء لا يردون على كتاباتي بغير التزوير، الذي ذكرت نمطا منه في مقدمة هذا النص، والتحريض بزعم أنني لست خصمهم بل عدو الإسلام والثقافة الإسلامية. هل أنا حقا ضد الإسلام وثقافته؟ أعتقد أنه سيكون من الصعب على خصومي إثبات حرف واحد مما يزعمونه، ليس فقط لأنني لعبت دورا مفتاحيا في عودة «الإخوان المسلمين» إلى السياسة السورية بدءا من عام 2001، بل كذلك لأنني أعتبر سيدي ومولاي محمد بن عبد الله جدي وأرى في نفسي واحدا من أحفاده. أما النسوة اللواتي قلت إنهن من العصر الحجري، فأنا لا أعتبرهن ممثلات للمرأة السورية، حتى إن كن من العصر التكنوتروني، فإن أثبتت أعمالهن ومواقفهن أنني كنت مخطئا، تقدمت منهن باعتذار علني وامتلأت نفسي بالاعتزاز بهن وبدورهن، سواء كن منقبات أو سافرات. ولعلم من لا يعلمون: أنا من الذين يؤمنون بأن المرأة يجب أن تحدد مواقفها انطلاقا من العقل الذي في رأسها، وأنها تغلط كثيرا في حق نفسها وبنات جنسها إن سمحت لأحد بإقناعها أو إجبارها على تحديده بدلالة ما تضعه على وجهها! ميشيل كيلو