استمرت معركة تحرير باريس من 19 غشت 1944 إلى الخامس والعشرين من الشهر نفسه. كانت العاصمة وقطاع كبير من فرنسا قد وضعا تحت إدارة عسكرية ألمانية نازية مباشرة، بخلاف وسط وجنوبفرنسا، حيث حكومة فيشي، المستقلة شكلا والموالية للألمان في الواقع، طبقا لما عرف بهدنة الحملة الثانية في يونيو 1940. لم تكن باريس هدفا استراتيجيا عاجلا لإيزنهاور وقيادة قوات الحلفاء، التي خططت لملاحقة القوات الألمانية في الشمال الشرقي، قبل أن تنجح في بناء دفاعاتها من جديد. ولأن الألمان أدركوا حقيقة خطة الحلفاء، فقد تركوا ما لا يزيد على 20 ألفا من قواتهم للدفاع عن باريس وضواحيها، تحت قيادة الجنرال ديتريش فون شوليتز، الذي كان أيضا الحاكم الإداري العسكري للعاصمة الفرنسية. باقتراب طلائع قوات الحلفاء من المدينة، قرر الجنرال الفرنسي أن يكرك (الذي سيقود القوات الفرنسية في سايغون بعد ذلك)، قائد اللواء المدرع الثاني من قوات جيش فرنسا الحرة، فعليا عصيان أوامر إيزنهاور والاندفاع لتحرير باريس. انتفضت العاصمة الفرنسية في وجه قوات الاحتلال النازي، وانتشرت وحدات المقاومة الفرنسية في ضواحيها المختلفة، تشن هجمات متفرقة على القوات الألمانية، بدون أن تشتبك معها. وما إن بدأت قوات جيش فرنسا الحرة تدخل ضواحي المدينة حتى أصبح موقف الألمان يائسا، بالرغم من أن توجيهات هتلر، حتى الثالث والعشرين من الشهر، أكدت على مقاومة قوات الحلفاء وتعطيلها، وعدم استسلام أي جندي ألماني، وألا تترك المدينة لقوات الحلفاء إلا ركاما. في 25 غشت، قرر شوليتز الاستسلام، لتجنب تدمير المدينة الأكثر تأثيرا في أوربا النصف الأول من القرن العشرين. ثمة روايات ثلاث مختلفة لمعركة تحرير باريس وإنقاذها من مصير العشرات من المدن الأوربية الأخرى التي طحنتها رحى الحرب، أكثر حروب الأوربيين بشاعة في تاريخهم الحديث. الأولى، هي رواية المقاومة الفرنسية، التي تقول إن شوليتز لم يستسلم إلا عندما أدرك أن مصيره ومصير قواته بات محتوما، وأنه لم يتردد طوال أسبوع انتفاضة باريس في إعدام مقاومين وقتل آخرين في ظروف أقرب إلى الإعدام. تعزو الرواية الثاني إلى بيير تايتنجر، رئيس مجلس بلدية باريس، وإلى القنصل السويدي العام في المدينة، راوول نوردنغ، اللذين قابلا شوليتز خلال انتفاضة المدينة، دورا هاما في إقناع الجنرال الألماني بالاستسلام وإنقاذ المدينة. شوليتز، نفسه، يؤكد أن القرار كان قراره، وأن ضميره وواجبه الإنساني وقناعته بأن هتلر أصيب بالجنون، لم تسمح له بخوض معركة تؤدي إلى تدمير باريس، بينما الحرب في مرحلتها الأخيرة. مهما كانت دوافع شوليتز، على أية حال، فإن استسلامه سجل باعتباره السبب الرئيسي خلف نجاة العاصمة الفرنسية. اليوم، تواجه دمشق، أقدم مدينة حية بلا انقطاع في تاريخ الإنسانية، عاصمة المشرق العربي الأبرز والأهم والأجمل، أول مقر لحكومة عربية بعد الحرب الأولى، المدينة التي لا يسأل فيها عربي ينطق لغة الضاد قط من أين أنت، مصير باريس. وتخيم شكوك ثقيلة على سماء المشرق حول ما إن كان الرئيس السوري يدفع المدينة العربية المجيدة نحو الدمار. أصبح واضحا منذ خريف العالم الماضي، وولادة ذراع مسلح للثورة السورية، أن مستقبل الثورة ومستقبل سورية سيقرر في النهاية في دمشق. نجحت قوات الجيش السوري الحر وكتائب الثوار السوريين الأخرى خلال العام المنصرم في السيطرة على معظم الريف السوري، متقدمة، على طريقة جيش الثورة الصينية، من الأرياف إلى المدن. بات معظم الشرق السوري، الشمال والشمال الشرقي، محررا. وفي الأيام القليلة الماضية، بدأت معركة قاسية لتحرير محافظة حماة، بدءا، كما هي استراتيجية قوات الثورة، من ريف المحافظة، بينما يواصل الثوار السوريون بطاقة متجددة تحرير ما تبقى من مدينة حلب، العاصمة الثانية وأكثر مدن البلاد سكانا. ويسيطر الثوار على أغلب بلدات ريف دمشق، جنوب وشرق وشمال المدينة، بالرغم من القصف المستمر والوحشي الذي تتعهده قوات النظام من المواقع التي لم تزل توجد فيها. في محافظة درعا، بوابة دمشقالجنوبية، يتكرر المشهد إلى حد كبير، حيث تحررت معظم بلدات المحافظة وقراها، ولم تعد القوات الموالية للنظام تنشط إلا في المدن، وبعض المواقع الحدودية، وعدد قليل من المعسكرات ومقار الكتائب والوحدات. بكلمة أخرى، فقد النظام سيطرته على أكثر من نصف سورية، حيث لم تتقوض منظومة التحكم العسكري والأمني وحسب، بل وشلت المؤسسات الإدارية والقضائية كذلك. ولعل المتغير الأكبر في ميزان القوى ينعكس في فقدان قوات النظام، منذ أوائل شتنبر، لعنصر المبادرة، بحيث تواصل وحدات الجيش المعزولة عن العالم، في أغلب الحالات، التخندق في مواقعها، بدون أن تستطيع القيام بأية عمليات هجومية قمعية، كما كان عليه الوضع منذ نشرت قوات الجيش بعد أسبوعين فقط من انطلاق الثورة في منتصف مارس 2011. بيد أن سيطرة النظام على العاصمة ومنطقة المرتفعات والمدن الساحلية لم تزل محكمة. حرص النظام منذ بداية الثورة على استخدام مقدرات عسكرية وأمنية فائقة لتأمين المنطقة الساحلية، سواء لأسباب طائفية أو استراتيجية، بينما حشد في دمشق والساحل أفضل قوات الجيش المتبقية وأكثرها ولاء. ولم يعد ثمة شك في أن النظام يظهر استعدادا لخوض معركة العاصمة، مهما كانت التكاليف. في الدولة الحديثة، حيث تحتل العاصمة موقع المركز العصبي لأجهزة الدولة كافة، وحيث المقار الأساسية للقطاعات الاقتصادية والمالية، كما للقوات المسلحة وأجهزة الأمن والاستخبارات، وحيث تتجلى فكرة السيادة بمعناها السياسي والدولي الحديث، تصبح السيطرة على العاصمة شرطا ضروريا لإيقاع الهزيمة بنظام الحكم وإنجاز هدف التغيير. ولا يخفى عزم الثوار السوريين على تحرير المدينة. وتشير المعارك التي خاضها الثوار السوريون في الحجر الأسود ومخيم اليرموك خلال هذا الشهر، دجنبر، إلى أن رياح الثورة المسلحة تطرق بالفعل بوابات دمشق، بعد أن كان وسط المدينة التاريخي أول من شهد تظاهرات الثورة السلمية في مارس 2011. كما طوال ما يقارب العامين من الثورة، وحرب النظام ضد شعبه، لا يجب تعليق أية آمال على التدخل العسكري الخارجي لحسم مصير العاصمة والنظام والبلاد. مشكلة التدخل الغربي ليست لها إلا علاقة واهية بالموقف في مجلس الأمن، وإمكانية أو عدم إمكانية الحصول على غطاء شرعي دولي. المشكلة أن لا تدخل خارجيا بدون الولاياتالمتحدة، والولاياتالمتحدة لم تعد تعتبر الشرق الأوسط أولوية استراتيجية لها، تستدعي الغرق في تعقيداتها لسنوات، كما حدث في أفغانستان والعراق، كما أن سورية أكثر تعقيدا بكثير من العراق، سواء على مستوى الاشتباك الداخلي أو الإقليمي. ولا يجب استبعاد وجود رغبة ما لدى الدوائر الغربية في أن يترك السوريون في صراعهم لأطول فترة ممكنة، بحيث تخرج سورية من الصراع منهكة، أقل قدرة على الفعل، وفي حاجة إلى سنوات طويلة، وربما عقود من الزمن، قبل أن تستطيع بناء قوتها الفاعلة. ما تقوم به القوى الغربية في سورية الآن هو أقرب إلى إدارة الصراع منه إلى محاولة إنهاء الصراع لصالح الشعب وثورته. حلفاء النظام، من جهة أخرى، ولاسيما في إيرانوروسيا، يقدمون كل ما يستطيعونه من أجل منع سقوط النظام أو تأخير سقوطه لأقصى فترة ممكنة. قول الرئيس الروسي بوتين إن اهتمام روسيا منصب على مصير سورية وشعبها، وليس على مصير رئيسها، هو قول مضلل. السلاح والذخائر الروسية لم تزل تصل إلى سورية، والخبراء الروس في سورية ما زالوا في مواقعهم العسكرية والمدنية. أما الدور الإيراني فأكبر من ذلك بكثير، ويغطي مجالات عمل ما تبقى من الدولة السورية كافة، بما في ذلك المجالان العسكري والاقتصادي. لا آلام السوريين ومعاناتهم ولا دمار مدنهم وبلداتهم ما يكترث له الروس والإيرانيون، بعد أن أصبحت سورية ساحة وأداة صراع دولي وإقليمي، تتعلق بدور روسياوإيران وليس بمصير السوريين، بالمجال الحيوي الروسي في آسيا الوسطى والقوقاز والنفوذ الإيراني الإقليمي، ولاسيما في العراق، وليس ببقاء سورية ودورها. ما تبقى هو الكتلة العربية وتركيا. وعلى هؤلاء إدراك حقيقة ومخاطر إطالة أمد الأزمة السورية، على سورية نفسها وعلى المحيط العربي والإسلامي معا. ثمة تحد أخلاقي يواجهه العرب في سورية، إضافة إلى التحديين السياسي والجيو-سياسي. لم يعد من الممكن للضمير العربي الجمعي احتمال استمرار آلة القتل والإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري، ولا عاد من الممكن الحفاظ على دور سورية وموقعها الحيوي في المجال العربي، بدون القيام بالواجبات التي يفرضها انتماء السوريين العربي، وموقعهم في التاريخ العربي الحديث، على العرب جميعا، ولا من الحكمة مراقبة استمرار هذه المجزرة وتصور أنها ستظل محصورة في الحدود السورية. ليس ثمة شك في أن رياح الثورة العربية فرضت أولويات جديدة على مختلف الدول العربية الرئيسية، ولاسيما دولتهم الكبرى، مصر، وأن دولا أخرى، مثل قطر والسعودية وتركيا، تقوم بدور فعال في توفير الدعم للثورة السورية. ولكن متطلبات الوضع السوري أكثر إلحاحا من أية أولويات عربية راهنة، وأكبر بكثير مما يقدم إلى السوريين الآن، ليس ما يتعلق بالدعم المادي وحسب، بل والدعم السياسي أيضا. كما أن محاولات الأطراف المختلفة تأمين موقع قدم لها في الساحة السورية، قبل سقوط النظام النهائي، لا يساعد السوريين كثيرا. السؤال الذي لا بد أن يسأله الجميع هو ما إن كان من الضروري أن تنتهي هذه الأزمة بأسرع وقت ممكن، أو أن تترك عجلة الصراع الطاحنة تدور في مدن وبلدات وحياة السوريين. بإمكان الرئيس السوري وحلفائه التصرف ببعض من النبل والشعور بالمسؤولية، أو حتى ببعض اليأس، كما فعل الجنرال شوليتز في باريس 1944، والمسارعة إلى إنقاذ ما تبقى من سورية. وإلا فعلى العرب وتركيا اتخاذ ما يلزم من خطوات لحسم هذا الصراع المؤلم، بعد أن دفع السوريون فاتورة حركة الثورة العربية، كاملة وبلا نقصان. بشير موسى نافع