ياسر الزعاترة لم يعد ثمة كبير شك في أن بشار الأسد لم يعد برسم البقاء في السلطة في سوريا، سواء سقط بعد أيام أو أسابيع أو أشهر؛ لكن الجدل بشأن احتمالات البقاء، وتبعا لذلك سيناريوهات السقوط، ثم الوضع التالي، ستبقى تتردد في الأروقة السياسية والعسكرية، وهي ستبقى الأسئلة الأكثر أهمية في سياق الملف السوري. المعضلة الكبرى التي تواجه المحلل السياسي تتعلق ابتداء بقراءة الوضع العسكري الذي يختصم فيه الخبراء، وتتناقض حوله المعلومات المتداولة والمسربة من هذا الطرف أو ذاك. وقد تصاعدت الآمال بسقوط النظام إثر تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي «بوغدانوف»، وقبل ذلك حديث وزير الخارجية نفسه «لافروف» عن عدم اشتراط بقاء الأسد في السلطة لإنجاز تسوية، وهما التصريحان اللذان جاهدت الدبلوماسية الروسية لتوضيحهما كي لا يتخذا مؤشرا على اقتراب سقوط النظام. لم يكن ذلك هو كل شيء في السياق، فالتقارير الصحفية التي تتحدث عن قرب سقوط النظام كثيرة، ومعها تصريحات لدبلوماسيين كبار في الأروقة الدولية، فضلا عن سحب الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة للجزء الأكبر من موظفيهما في العاصمة دمشق، وكذلك حال الأنباء التي تحدثت عن إرسال سفن حربية روسية إلى ميناء طرطوس تحسبا لاضطرار روسيا إلى سحب رعاياها من سوريا. لكن ذلك لا ينفي أيضا وجود تقارير صحفية أخرى تشير إلى أن النظام لا يزال قادرا على الصمود لفترة طويلة، ولاسيما أن مشهد الصراع صار في صالحه من حيث احتماؤه بالعاصمة مقابل محاولات الثوار التقدم نحوها دون سلاح نوعي، وبالطبع مع تفوق للنظام في ميدان الجو رغم توفر بعض المضادات بين يدي الثوار. وإذا أضفنا إلى ذلك كله الإصرار الروسي والأهم الإيراني على مد النظام بأسباب البقاء على مختلف الأصعدة، فسيكون المشهد أكثر تعقيدا، ولاسيما أنه إصرار لا يزال قويا طمعا في حل سياسي (إيران كي لا تكون الهزيمة واضحة وتؤثر على منجزاتها في العراق ولبنان، وروسيا كي لا تؤثر على مصالحها في سوريا، والأهم على هيبتها الدولية)، إذا أضفنا ذلك فسيغدو حسم السؤال حول توقيت السقوط أو المدى الزمني لصمود النظام صعبا إلى حد كبير. كل ذلك لا ينفي ما أشرنا إليه حول يأس مختلف أنصار النظام من إمكانية صموده بالكامل، وإن بقي الأمل لديهم قائما في إنقاذ ما يمكن إنقاذه منه، ربما الجيش والمؤسسات الأمنية، وربما مؤسسات الدولة العليا إذا بالغوا في الطموح. ما يمكن رصده في الداخل السوري هو أن القرار السياسي والعسكري في سوريا لم يعد بيد بشار الأسد، بل بيد القيادة العليا للجيش والأجهزة الأمنية، التي تتشكل من حوالي 27 ضابطا علويا، مع عدد محدود من الضباط السُّنة لا يتعدى، حسب دوائر المعارضة، 1400 ضابط يبدو أن أسبابا معينة قد حالت دون انشقاقهم، وربما غاب أكثرهم عن دائرة صنع القرار والإشراف على القتال. إذا أصبح بشار رهينة بيد النخبة العسكرية، ولو فكر في ترك البلد فسيقتلونه كما ذهب إلى ذلك محلل روسي، أو يمنعونه في أقل تقدير، لأن فراره سيسرع سقوط النظام، وسيترك الأقلية العلوية رهينة وضع غامض يصعب التنبؤ به، ويبدو أن النخبة إياها قد ارتبطت بالكامل بالدوائر الإيرانية. لو جئنا نتحدث عن السيناريو الأفضل للوضع في سوريا، فلا شك أنه يتمثل في قيام النخبة العسكرية العلوية إياها بانقلاب على بشار الأسد، ثم تعرض على المعارضة تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية مقابل ترتيبات أو ضمانات معينة، والأرجح أن توافق المعارضة على العرض، وإن أصرت على محاكمة المجرمين، وربما ملاحقة الأسد ومن حوله، ولاسيما لصوص ثروات السوريين، لأنه من غير المنطق أن ينجو هؤلاء بسرقاتهم وألا يحاكموا على جرائمهم، وإن حصل شيء كهذا فإن قيام بعض أهالي الشهداء بالثأر من أناس في الطائفة العلوية لن يكون مستبعدا بطبيعة الحال. في سياق التعاطي الإيراني مع هذه المعادلة الصعبة، قامت إيران وحلفاؤها بعدة خطوات خلال أيام قليلة، إذ خطب حسن نصر الله قائلا إن من يعتقد أن النظام سيسقط «مخطئ جدا جدا»، ثم تحدث نائب وزير خارجية إيران قائلا إن «الجيش السوري وجهاز الدولة يعملان بسلاسة»، في محاولة لبث الطمأنينة في أوصال أركان النظام، وخشية تفكير نخبته العسكرية (العلوية) في الانقلاب على بشار. ثم جرى ترتيب حوار صحفي أجراه رئيس تحرير صحيفة «الأخبار» اللبنانية المحسوبة على حزب الله مع فاروق الشرع، وكانت رسالة الحوار الأساسية هي عدم وجود أفق لإسقاط النظام عسكريا، وإن أقرّ في المقابل بأن قدرة النظام على الحسم العسكري معدومة أيضا، كما تضمن رسالة أخرى غير مباشرة تتعلق بأن سوريا أكبر من أي نظام وأي فرد، مما يعني ضرورة التفكير في رحيل الأسد كحل للمعضلة، ولكن عبر حل سياسي وحوار بعد وقف العنف. ثم جاءت المبادرة الإيرانية ذات النقاط الست، والتي لم تقدم شيئا يمكن أن تقبله المعارضة لكونها تشترط الهدوء قبل اتخاذ أي خطوات سياسية، لكنها انطوت على تراجع سياسي يوحي بيأس طهران من إمكانية بقاء الأسد. ما لا يمكن استبعاده في السياق وتحدثت عنه دوائر غربية هو لجوء بشار ونخبته العلوية إلى مناطق العلويين في الساحل في حال اقتربت دمشق من السقوط. وتحدثت ذات الدوائر عن نقل أسلحة إلى تلك المناطق وفرق من المغاوير أيضا، بل وصواريخ محملة برؤوس كيماوية أيضا. لكن تقارير أخرى ذهبت نحو استحالة ذلك تبعا لسيطرة الثوار على أجزاء من تلك المناطق، ونظرا إلى وجود سنة ومسيحيين فيها، مما يستدعي تطهيرا عرقيا لإتمام المخطط، أقله للسنّة. هو خيار انتحاري دون شك، ومن الصعب صموده، لكنه يبقى جزءا من المساومة التالية أيضا، هذا إذا لم يكن هناك من يقتنع إيرانيا وداخل النخبة إياها بإمكانية صمود تلك الدويلة، مستفيدين من تلك الصرخات التي تأتي من الغرب وتتحدث عن الخوف من مجزرة في حق العلويين بعد سقوط النظام. وفي حين كانت هناك مبادرة تركية أيضا، سيبقى سباق السياسة مع الحل العسكري قائما حتى النهاية بسبب مخاوف الأطراف المعنية من تداعيات السقوط، دون أن يكون بوسع أحد استبعاد نجاحها في التوصل إلى حل ما. يدخلنا هذا البعد إلى سؤال اليوم التالي، وما يمكن أن يحدث في حال سقط النظام دون ترتيبات سياسية، وهو سؤال سيبقى مطروحا في حال رحيله ضمن اتفاق معين لا يمكن أن يحظى بموافقة جميع الأطراف. هنا، يمكن القول إن رحيل النظام وفق ترتيبات سياسية تتضمن حكومة انتقالية لا يعني أن اليوم التالي سيكون مستقرا إلى حد كبير، ذلك أن عدد الكتائب وتعدد المرجعيات السياسية والعسكرية يطرح أسئلة أكبر بشأن قبول هؤلاء باللعبة السياسية، سواء فعلوا ذلك تبعا لاشتراطهم الحصول على حصص مبالغ فيها أو بسبب رفضهم المبدئي للعملية السياسية التي يرتبها الخارج، قياسا برفض العملية السياسية واستهداف أركانها من قبل نظرائهم في العراق. ونعني هنا جبهة النصرة كعنصر أساسي في هذا السياق، وهي جبهة باتت عنوان القوة الأول (كفصيل) في الساحة السورية، بل ربما زادها موقف واشنطن بوضعها على لائحة الإرهاب شعبية بين الناس، والأهم بين المقاتلين الذين صاروا ينتقلون إليها من المجموعات الأخرى، مع أن أحدا لا يختلف حول أن الغالبية من المقاتلين ليست ضمن إطار الجبهة التي تضم بين صفوفها نسبة لا تتعدى الربع من المقاتلين العرب والمسلمين. إن حجم التناقض في الساحة السياسية والعسكرية يستدعي عملا دؤوبا للملمة الوضع وتشكيل حكومة انتقالية تحظى بإجماع الجزء الأكبر من الفاعلين على الأرض، بما في ذلك جبهة النصرة التي لا بد من التفاهم مع رموزها والجهات الداعمة لها كي تقبل المشاركة في الحكومة الانتقالية، وتقتنع بأن هذه ثورة حرية وتعددية وليست انقلابا عسكريا، وأن الناس هم الذين سيختارون مصيرهم وممثليهم بعد ذلك عبر الصناديق، وأن الإصرار على فرض غير ذلك على الناس سيعزل الجبهة شعبيا كما عزل دولة العراق الإسلامية من قبل (نسبيا على الأقل)، ولا حاجة إلى تكرار التجربة، وليتذكر قادة الجبهة أن الإعجاب بها وبعناصرها كمقاتلين يثخنون في عدو مجرم لا يستدعي بالضرورة موافقتهم على نهجهم كسياسيين يريدون فرض ما يريدونه على الناس بسطوة القوة، ولا يجب الشك هنا في انحياز الشعب السوري إلى هويته وثقافته، أو التشكيك في عموم ممثليه حتى لو توفرت ملاحظات على بعضهم. إذا لم تكن هناك تفاهمات من هذا النوع، وتهميش لروحية الشخصنة في سلوك رموز الثورة، فسنكون إزاء سيناريو من الفوضى لا يمكن التنبؤ بمداه، ولا بما سيتسبب فيه من خسائر بشرية ومادية، ولذلك ليس لنا إلا أن ندعو الله أن يهدي القادة السوريين سبيل رشد يجعل من انتصارهم على الطاغية محطة خير وبركة، وليس محطة تأخذهم نحو مزيد من الفوضى والاقتتال.