عندما لا يستبعد نائب وزير الخارجية الروسي «انتصار المعارضة السورية»، معبرا عن الأسف لذلك، فهو اعتراف لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، رغم التأكيدات المغايرة اللاحقة، لاسيما حين يضاف إليه تصريح مماثل لأمين عام حلف الأطلسي (راسموسن)، وتسبقه تصريحات عديدة مشابهة من عدد كبير من الصحفيين والمراسلين الأجانب، فيما تبادر المنظمات الدولية إلى تخفيض وجودها وسحب موظفيها من العاصمة دمشق. ولعل ما يمنح التصريح الروسي مزيدا من الأهمية هو مجيئه بعد أيام فقط من قول «لافروف» إن موسكو لا تشترط بقاء الأسد في السلطة. لم يعد ثمة أدنى شك في أن النظام السوري قد بات آيلا للسقوط، مهما تمكن من الصمود، ووحدهم شبيحة النظام العرب هم الذين لا يزالون يوزعون التحليلات عن وضع النظام وإمكانية بقائه، ربما لأن الحقيقة تثير أعصابهم؛ هم الذين ما لبثوا منذ شهور طويلة يسخرون من المعارضين الذين يتحدثون عن قرب سقوط النظام. ولا ننسى إلى جانبهم حلفاء النظام في طهران وتوابعها في العراق ولبنان ؛ ممن يصرون على شرعية المعركة التاريخية التي يخوضها النظام ضد الإمبريالية والصهيونية، وهؤلاء تحديدا هم الذين لا يزالون يمدون النظام بأسباب الحياة، ليس قناعة بإمكانية إنقاذه، وإنما لأجل إبقائه في غرفة الإنعاش مدة أطول توفر الأجواء لإنجاز حل سياسي يرونه ممكنا في ظل مخاوف الغرب من البديل القادم في سوريا، وهو بديل إسلامي متطرف برأيه ورأيهم أيضا!! وحين يخرج نصر الله متحدثا عن خطأ من يعتقدون بسقوط النظام، فهذا جزء من إسناده معنويا وبحثا عن حل سياسي ، فضلا عن إرسال مندوب جريدة تابعة لحزب الله لإجراء لقاء مع فاروق الشرع كي يكرر ذات المقولة (استحالة الحسم العسكري من الطرفين). في قراءة المشهد الداخلي السوري يمكن القول إننا أمام وضع غريب بعض الشيء، فالرئيس بات شبه معتقل في مكان وجوده غير المعروف عمليا، وهو معتقل من قبل قادة الجيش والأجهزة الأمنية، ومعظمهم من الأقلية العلوية الذين يدركون أن قرارا من طرفه بالرحيل، بل حتى بإبداء الاستعداد للرحيل سيعني انهيارا سريعا لمؤسسات الدولة، ما يعني أن وجوده بالغ الأهمية لاستمرار تماسك النظام أطول فترة ممكنة، ولن يُسمح له بالمغادرة تبعا لذلك ولو كلف الأمر قتله كما ذهب محلل روسي، وغير واحد من المحللين الغربيين. هذه النخبة من القيادة العسكرية العلوية لم تعد تفكر في نفسها فقط، وإنما في عموم الطائفة التي تخشى نهاية سيئة في حال سقط النظام عسكريا (ثمة مبالغة بعضها مقصود بطبيعة الحال)، ولذلك فهي تحرص كل الحرص على الصمود أطول مدة ممكنة من أجل إنجاز حل سياسي يجنبها ذلك المصير، وهو ما تريده موسكووطهران أيضا، لأن كليهما معنيتان بنهاية تحفظ ماء الوجه؛ الأولى كي لا تخسر هيبتها الدولية، والثانية كي تتجنب هزيمة مدوية تفرض عليها استحقاقات تراجع في العراق ولبنان وعموم المنطقة بعد مشروع تمدد دفعت فيه الكثير خلال أزيد من ربع قرن. ولو تفكّر هؤلاء جميعا في نهاية جيدة للأقلية العلوية والشيعية، وربما لو ملكت النخبة العسكرية والأمنية والعلوية قرارها بعيدا عن سطوة إيران، لكان خيارها الأفضل هو تنفيذ انقلاب عسكري على النظام ومن ثم تقديم عرض بتسليم السلطة لحكومة انتقالية معترف بها عربيا ودوليا، وهنا سيكون وضعها أفضل من الناحية السياسية، لاسيما أن سلوكا كهذا سيعني حماية مؤسسات الدولة من الانهيار والوضع عموما من فوضى قاتلة في ظل تعدد الكتائب المشاركة في الثورة على نحو رهيب قد يكون من الصعب لملمتها بسهولة. إنه الخيار الأفضل بالنسبة للبلد، وللأقلية العلوية وعموم الأقليات، وهو أفضل من دون شك للجميع، لأن ما تم تدميره من البلد يعتبر كبيرا جدا، ولا حاجة لتدمير المزيد في معركة يائسة، ولا حاجة أيضا لأن تدفع الأقلية العلوية المزيد من أبنائها في معركة يائسة من هذا النوع. أما خيار الدويلة العلوية فهو خيار انتحاري أيضا، لأن الثوار لن يتركوهم ينعمون بها مهما كان الثمن. لقد انتهت عمليا فرص الحل السياسي التي تتم فيما بشار موجودا داخل البلد، ولو وافق الائتلاف المعارض على حل كهذا؛ لكان من الصعب فرضه على الآخرين، بل ربما اتخذ من البعض سببا للتشكيك فيه أمام المجتمع السوري الذي يصعب عليه استيعاب نجاة النظام ورموزه بعد كل القتل التدمير الذي مارسه بحق سوريا وأبنائها. الحل إذن هو انقلاب داخلي يجري بعده تسليم السلطة للحكومة الانتقالية بقدر من السلاسة، مع أن ذلك لن يكون ضامنا لمزيد من الفوضى، لكن المؤسسات المهمة ستبقى موجودة وفاعلة، وستتجنب فوضى السقوط بما تنطوي عليه من عبث قد يمارسه محترفو الإجرام وتجار الحروب. إذا لم يحدث ذلك ووقع الحسم العسكري، فالله وحده يعلم إلى أي مستوىً من الفوضى ستنجر إليه البلاد في ظل تعدد الكيانات العسكرية، وفي ظل انهيار عام لمؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات التي يمكن الحفاظ عليها فيما لو وقع انقلاب وسلمت السلطة لحكومة انتقالية. كان ثمنا كبيرا ذلك الذي دُفع من أجل إسقاط النظام، وسيكون الثمن كبيرا أيضا في رحلة ترتيب الأوضاع التالية، ومن سيتحمل المسؤولية هو النظام المجرم، وكل من وقف معه حتى النهاية من السياسيين ومن العسكريين في آن.