هل تنازل أوباما عن مشروع «مظلة الصواريخ المضادة» المرصودة لمحاصرة أجواء روسياالغربية مع أوربا؟ هل ألغى هذا المشروع بدون موعد محدد؟ هل تبرع أوباما بضمانات أخرى يحفظ بعضها مراكز نفوذ استراتيجية معينة لروسيا في جغرافية سورية؟ هل فعل أوباما ذلك وربما أشياء أخرى لا نعرفها من أجل أن يكفّ الدبّ الروسي عن حماية الذئب المستأسد في سورية؟ أم إن الأمور قد تخرج عن حسابات هذين المتحكّمْين في مصائر الأمم المستضعفة أم إن نهاية الصراع ستحسمها «معركة دمشق» في مهلة، لن تكون بعيدة، وقد أمست محتومة؟ ومع ذلك، لن يخرج (بوتين) صفر اليدين تماما إن هو التزم رفض الحل الدولي دون تغيير أو تعديل. هذه الأجواء التي تُظهر، مرة أخرى، سطوة ما يُسمّى بالمجتمع الدولي عندما يُختزل كله في إرادة القوتين الجبارتين المعروفتين: أمريكا وروسيا. هنالك، إذن، نوع أول من سيناريو دبلوماسي دولي باحث عن فرصته لتدخلاته المترددة المريبة؛ أما الآخر فهو من صنع أرض المعركة عينها. فلقد أمسى النظام الأسدي أسيرا لموقف الدفاع عن خطوطه الأخيرة، بل عن معاقل قياداته. والثورة لم تعد مشتتة كالجزر المتناثرة، بل هو النظام الذي يتم أسره من يوم إلى آخر في عزلة الرعب القاتل؛ إذ يعوّض عن ضعفه المتنامي باصطناع أبشع وسائل الفتك بأسلحة الدمار الشامل، مهددا بالحل الشمشوني كيماويا. لكن هزيمة النظام أمست حقيقة ملموسة، تقررها يوما بعد يوم معارك الغوطتين، حيثما يتم تحرير ريف دمشق كمدخل تاريخي يكرر الثورة السورية أوائل القرن الماضي ضد المحتل الفرنسي آنذاك. هذه الغوطة، شرقا وغربا، أو بساتين الشام التي كانت عامرة بفواكه الإنسان المدني الأول، كان لرجالها الدور الريادي في ابتعاث سيرة النضال الوطني ضد الاحتلال الأجنبي. وقد كُتب لها أن تخوض معركة أخرى ضد الاستعمار الأهلي الداخلي الذي يُمارسُه ذئاب العنجهية التسلطية المأخوذة بأوبئة العدوان على الآخر سلما أو حربا؛ فقد وُلدت المقاومة العربية منذ ذلك التاريخ المجيد، وكانت تتابع أمواجها عبر شوارع مدن الشام طيلة حقبة الاستعمار الغربي المتطور وصولا إلى ربيبه هذا الاستعمار الداخلي من قبل حفنة اللصوص العصريين البدائيين. إنها المقاومة في طوريْها الماضي والراهن، قد افتتحت على طريقتها حقبة المصطلح التقدمي المعاصر عالميا، وهو شعار «حركة التحرر الوطنية»، فمن خصوصيتها أنها تعتمد قواعدَها من أرومة الشعب، ومن لحم ودم المجتمع الحي الأصلي، البريء من كل تَقَوْلب مصطنع طارئ عليه، فهي إذن تضم مختلف مكونات مجتمعها دونما تمييز بين يمين أو يسار، بين علماني أو عصبي دينيا أو عرقيا؛ فليس نقيصة في ثورتها المعاصرة أن تبرز بين صفوفها نزعات عقائدية متباينة، بل متضادة مادام هدف التحرير قادرا على استيعاب كل هذه الفروقات وجعلها في درجة ثانوية جميعها دون درجة النضال الموحد ضد العدو القاهر، سواء كان أجنبيا أو أهليا. ثورات الربيع العربي هي حركات تحرر وطنية بكل معنى الكلمة، فهي مبرأة في طبيعتها من كل أثواب الأدلجة، إذ إنها تتحرك بناءً على دافع الانتفاض العفوي للكرامة الإنسانية. إنه شعور الغضب المقدس ضد المهانة، كيفما أتت، إذ إن النَّيْل من عفة الذات الإنسانية يجرد الإنسان من احترامه لذاته ويجعله يفتقد الثقة بجدارته ككائن حي كريم مستحقٍّ لأبسط معاني الأمن والسلام لوجوده. ثورات التحرر الوطني أنجزت أصعب المهمات التي واجهت الغالبية العظمى من شعوب الشرق، وقادت معارك القضاء على حقبة الاستعمار الغربي الذي ميّز نفسه ب(حق؟) استعباد قلّته البيضاء للكثرة السمراء لبقية أمم هذه الأرض، ولم تخمد هذه الحركات الوطنية حتى بعد جلاء الأممالبيضاء المغْتصِبة، عن معظم أقطارها، إذ اضطرت إلى التحول إلى نوع من أشباه الثورات الشعبوية الصامتة أو العلنية نسبيا ضد حكامها المنحرفين بعد أن أصبحت لها دول سياسية مستقلة معترف بها من قِبل الهيئات الدولية. لكن لم يفز نموذج الدولة الوطنية، في ما يُسمّى بالعالم الثالث، بالشروط الموضوعية لإنتاج ورعاية الحريات المقررة للإنسان المعاصر والمستحق لكرامة الكائن العاقل في مجتمع من المواطنين الأسياد على أنفسهم أولا، ومع ذلك فقد نجحت حركات التمرد الوطني في معظم دول العالم الثالث، في تغيير أو قلب السلطة المفروضة من المستعمر القديم؛ إنه عصر ديكتاتوريات العالم الثالث الذي تنقضي نماذجه الكبرى، وقد تبقى منه النموذج العربي والإسلامي، حتى انفجر ربيع الغضب أخيرا؛ فالتاريخ حراك متواصل رغم قطيعاته أو بفضلها غالبا. وتواصلُه ذاك، هو الذي يشكل عقلانية الفكر الإنساني الذي يبني حضارته على أساس التراكم لمنجزات الحرية مهما كانت مبعثرة أو متنافرة أحيانا كثيرة. الربيع العربي هو حركة تحرير إنسانية، ولن تكون لقارة دون أخرى هذه المرة، بل هي واعدة بولادة الرهان الأقصى على إنقاذ ما تبقى من الإنسانية تحت عواصف الظلم المعمم بأسماء الرأسماليات والإمبرياليات المختلفة شرقا وغربا. سورية، إذن، تعيش حركة تحرير وطنية لها جذورها العميقة في موروث تكوينها المجتمعي والسياسي المعاصر. حتى عندما يتغلّبُ على هذه الثورة طابع تنظيمٍ أو مذهب أو إيديولوجية ما، فذلك ليس سوى عرض زائل لن يغير شيئا من جذرها الثقافي ومادتها الإنسانية الشاملة. قانون التناقض الأعظم بين ثورة الغالبية من الشعب وسلطة الاستبداد هو الجامع بين مكونات الأطياف السياسة والعقائدية لقوى الثورة، وهو المانع في الوقت نفسه من تَحَكّم بعضها المتطرف في سواه. قد لا يُلغي هذا القانون الفروقات واللونيات، لكنه يفرض أولويته خاصةً في مرحلة الصراع ضد الاستبداد المتملّك من قوى الدولة. إنه يبرمج تطورات الكفاح ما قبل تحقق الهدف المركزي إلى ما بعدها؛ فانتفاضة مصر على الفرعون نفذتها طليعة شبابية غير حزبية أو مذهبية. واضطر الآخرون، وأبرزهم الإخوان المسلمون، إلى اللحاق بركاب الشبيبة. كان لهم مشروعهم الحزبي الخاص الذي يجعلهم يستغلون ظروف هذه التطورات للاستيلاء الاحتكاري على الدولة بكل نواصيها تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا وإعلاميا.. إلخ. لم يظهر التباين إلى حد الفرقة إلا في مرحلة الانتقال وعبر متغيراتها البطيئة والصعبة، وفيها لا بد من ظهور القانون الآخر الذي يتطلب إعادة الفرز بين قوى الثورة حسب فاعليات كلٍّ منها وإمكانياتها على انتهاز فرص النضال السلمي الجديد من أجل اكتساح ساحات العمل السياسي وممارسة أساليبه المختلفة، حتى تلك التي جاءت الثورة لنقضها والخلاص منها. هكذا يقول لنا علم الثورة، إذ يتطلب الصراع ممارسة مقودة بحس واع، يميز الأصول عن الفروع، وتحدد الحقيقي من الدخيل في طلائع الفعل التغييري الذي تنخرط فيه مختلف التيارات، بحيث يصبح الصراع سياسيا أكثر منه عنفا ثوريا حادا، يصير مزدوجا: عموديا وأفقيا في الوقت نفسه داخل الهرم المجتمعي؛ بذلك يتحقق الشرط اللازم والضروري للشروع في إقامة هيكل المجتمع الديمقراطي. فليس ثمة أمل في إشادة دولة المواطنة ما لم يقم تحتها مجتمع المواطنة ليُصبح رديفا لها وقاعدة حداثية لإنتاج مؤسساتها. أما الوضع في سورية المكافحة، فربيعُها عالق بين أشواكه الكاسرة، مهما فاض بأرواح أبطاله، وافتقد حضارته المدنية وحتى الأخلاقية أحيانا؛ فالثوار في هذا البلد ليسوا منشغلين بمن سيحكم بلدهم المتحرر بعد سقوط الطاغوت، بقدر ما هم منهمّون بتدمير قلعة الطاغوت عينها. وفي هذه الآونة التي تتكاثر فيها إشاعات النهايات، وسيناريوهات الوراثة وسواها، وتطلقها خاصة مصادر غربية، لا تكف عن تصدير عينات متباينة عن هذه الشائعات؛ إنها لا تعلن حقا خواتم واقعية، بقدر ما تمد بعمر المذبحة. والثائر العربي السوري لم يعد يعير أقل اهتمام لضجيج المؤتمرات «المؤامرات» والتصريحات التي تُقال باسمه وتتلاعب بمصيره، فالرأي العام العالمي يعترف على الأقل بإنجازات هذه الثورة التي اعتمدت فقط على نفسها تسليحا وتخطيطا، ولم تتوان في بذل كنز من التضحيات الكبرى، من أجل كل خطوة تخترق بها أسوار الظالمين. لنتذكر قليلا أن كلا من ثورتيْ مصر وتونس لم تخوضا صراعا ضد جيش الدولة، في حين أن الثورة السورية تكافح جيش النظام الذي افتقد هويته الوطنية الجامعة منذ أن استولت الانقلابية المذهبية على قياداته. هذا هو السبب الأساسي في إطالة عمر هذا الصراع الدامي الرهيب، إذ لا يمكن القول إن الثورة قد تملكت حتى الآن، إلا من نواة جيش شعبي وشبه تطوعي، يكافح جيشا نظاميا متسلطا. ما زالت الثورة تصارع أصلا بقواها السلمية التي يحق لها أن يكون لها جيشها الحقيقي النظامي. وقد قلنا دائما إن اعتماد الثورة على شبابها ينبغي أن يجعلها مؤهلة كذلك لاعتماد تسليحها بذاتها واسترداد ذخيرة شعبها من لصوص الاستبداد. ولقد أثبت ميدان الصراع هذا الخيار، إنه هو الكفيل الوحيد بنجاح وتقدم القوى المكافحة مستقلةً سيدة دونما أي سندٍ خارجي مشبوه. ولسوف تمضي هذه الثورة في طريقها غير عابئة بكل ما يُرسم لها خارجَ سواعدها وحدها فقط.